لا أنسى أبداً الرحلات البحرية المتعدّدة لي في بحيرة شوشيميلكو المكسيكية الجميلة، التي تتزين بالمراكب الصغيرة المختلفة التي يقودها البحار بمجداف واحد. هذه المراكب تشبه إلى حد كبير قوارب السياحة في مدينة البندقية الإيطالية، إلا أنها تختلف عنها من حيث الحجم، إذ عادة ما يتسع القارب لعائلة كبيرة.
في حينه، لم أكن على دراية بأنني أسبح في البحيرة التي شيد داخل امتداد لها شعب الأزتيك عاصمته تينوتشتيتلان. تلك المدينة العظيمة المبهرة التي جعلت الغزاة الإسبان، في مطلع القرن الميلادي السادس عشر، يشعرون أنهم أمام حضارة عظيمة أسستها إحدى قبائل الشعوب الأصلية للمكسيك، بالقرب من مدينة مكسيكو سيتي اليوم.
هذه المدينة الجميلة شيدت وسط البحيرة بهندسة رفيعة المستوى، إذ أدرك الأزتيك أنهم بحاجة إلى عاصمة منيعة تستعصي على القبائل المناوئة لهم مهاجمتها. ولذا بنوها على أعمدة الجزر الصغيرة وسط البحيرة، وربطوها باليابسة بممرات متعددة على أسس من الخشب والأحجار البركانية لضمان الأساسات القوية. بل إن دقتهم الهندسية وصلت إلى مستوى بناء جسور متحركة وسط هذه الممرات لضمان مرور السفن والقوارب. وعندما عانت هذه المدينة من قلة المياه، بعد توسيعها عدة مرات، شقّ المهندسون وبنوا مجاري مختلفة لنقل المياه العذبة من المناطق المجاورة عبر البحيرة إلى المدينة مباشرة، وفق فكر هندسي يفوق بكثير كل التكنولوجيا التي كانت سائدة في ذلك الوقت في أميركا الوسطى.
وكما هي عادة هذه القبائل، بُني وسط مركز الجزيرة هرم كبير يجري فيه التعبّد لآلهتها، على رأسه بطبيعة الحال المذبح، وذلك بالإضافة إلى تماثيل الآلهة المختلفة التي يلتف حولها المجتمع لعبادتها وتقديم القرابين لها. ولقد استخدم المهندسون فكرة الأساسات الخشبية والحجرية نفسها لتشييد هذه المعابد والأهرام.
وترجع حضارة الأزتيك إلى منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، عندما كان الأزتيك مجرد قبائل تابعة لسلطة التيبانيك، إحدى القبائل القوية بالقرب من العاصمة المكسيكية الحالية، غير أن تلك القبيلة المتسلطة حاربتهم، واضطرتهم للنزوح والبحث عن مكان آخر يوفر لهم الحماية، ويبعدهم عن عدوهم. وعلى الأثر، ركزوا جهودهم على بناء القرى حول بحيرة تيسكوكو (المتصلة ببحيرة شوشيميلكو)، تمهيداً لبناء عاصمتهم الآمنة وسط البحيرة، التي سرعان ما تحولت تدريجياً إلى مركز حضاري لإمبراطورية واسعة الأرجاء، بعدما تحالف الأزتيك مع قبائل أخرى، وتمكنوا من التغلب على التيبانيك.
هذا النصر فتح لهم المجال لتوسيع قاعدة دولتهم ونفوذها، حتى سيطروا على كامل المنطقة الممتدة من وسط المكسيك حتى حدود شبه اليوكاتان (في الجنوب الشرقي)، المطلة على بحر الكاريبي. ومن ثم، أخضعوا كثيراً من القبائل والشعوب في سعيهم نحو تكوين إمبراطوريتهم، وكان بين أبرز القبائل التي هزموها قبائل التلاشكالا.
وفي سياق اعتباراتهم الاستراتيجية، ربط الأزتيك إمبراطوريتهم الكبيرة بمجموعة من الطرق التي سهلت لهم بسط سيطرتهم عليها، كما أنهم وضعوا نظاماً دقيقاً للتواصل بين أطراف الإمبراطورية، من خلال حملة رسائل كانوا يركضون حتى يسلموا الأوامر إلى المناطق النائية، وهو ما سمح لهم بالسيطرة النسبية على ممتلكاتهم المختلفة، إضافة إلى سرعة الاستجابة لأي خطر.
لقد كان المجتمع الأزتيكي مجتمعاً زراعياً في الأساس، واعتمد على أنظمة ري متطورة. والحق أنهم كانوا يملكون كل مقومات المجتمع الزراعي. كذلك كان النشاط التجاري مع القبائل المجاورة - سواء الخاضعة لحكمهم المباشر أو الخاضعة لنفوذهم - من أهم مصادر الدخل للإمبراطورية الأزتيكية، وقد ساعد على استمرار هذا التوجه الإدارة المركزية القوية المستندة إلى جيش ضخم يهابه الأعداء. ولكن الأمر المستغرب، في المقابل، أنه لم يكن لهذه الإمبراطورية «جيش نظامي» بالمفهوم السائد لدينا اليوم، أو على مدار الألفيات الماضية، إذ كان الأطفال الذكور حتى سن متقدمة من مرحلة الفتوة يعملون في التجارة والزراعة، وبعدها يصار إلى تدريبهم على فنون القتال والتنظيمات الحربية، ليكونوا جاهزين للتعبئة العامة وخوض الحروب وقت اللزوم في أسرع وقت ممكن. وكان الترقي في الجيش يتم على أساس قدرة المحارب على أسر أكبر عدد من الأعداء، وكان يضحى بهولاء بشكل وحشي لإرضاء آلهتهم. وكانت رُتب الأفراد تُميز من خلال أشكال الريش التي يتحلون بها أثناء المعارك. وعلى الجيش اعتمد الأزتيك في إخضاع القبائل المجاورة، وفرض نوع من الضرائب والرسوم عليها.
من ناحية ثانية، كما هي عادة تلك القبائل في ذلك الوقت، فإنها ارتبطت ببعد كهنوتي قوي، مثلها مثل حضارة المايا - كما تابعنا في الأسبوع الماضي - تمثل في آلهتهم الكثيرة التي جسّدت غالبية الظواهر الطبيعية والمنتجات الزراعية والغذائية. وكان كواتزالكواتل، كبير آلهة الأزتيك، هو محور الآلهة بالنسبة لهم، ومانح الآمان للإمبراطورية، وكان هناك اعتقاد راسخ بأنه يحميهم، بل وكانوا يفسّرون الظواهر الطبيعية على أنها رسائل خاصة بهم. ولعل من المفارقات العجيبة أن هزيمة هذه الإمبراطورية جاء لسبب مرتبط باعتقاد قائدهم مونتيزوما بأن الغزاة الإسبان جاؤوا برسالة من كبير الآلهة إيذاناً بنهاية حكمه، فاستكان للقائد الإسباني إيرنان كورتيز، وهو ما أدى لهزيمة الأزتيك وزوال مملكتهم على أيدي مجموعة من الإسبان لا يتخطون الخمسمائة وخمسين جندياً، بقيادة كورتيز.
ثم إن الملاحظة الفارقة هي أن هذه الحضارة هزمت وزالت في وقت قصير جداً نسبياً، وتحللت بالكامل لصالح الغزو الإسباني الذي سرعان ما أعلن مملكة الأزتيك جزءاً من «إسبانيا الجديدة» ضمن مناطق أخرى، وذلك رغم قوتها وتطورها التكنولوجي المقارن بالقبائل والدويلات المجاورة.
وحقيقة الأمر أنه رغم حكمة المؤرخ العالمي دورانت الذي قال إن الحضارات الكبيرة لا تُهزَم من الخارج، إلا بعدما تكون قد دمّرت نفسها من الداخل، فهذا لا ينطبق بالضرورة على حالة الأزتيك وإمبراطوريتهم العظيمة. فهذه الإمبراطورية لم تتفتت أو تتحلل من الداخل، بل تحللت بفعل غزو خارجي مباشر لم يترك لنا منها إلا بقايا لغتها المنقرضة المسماة «الناواتل» وآثار تشير إلى عظمة هذه الحضارة.
لقد غيّر الإسبان اللغة، وفرضوا ديانتهم، مع أن الأعراق المختلفة تظل إلى اليوم عنصراً لا يمكن تجاهله في التركيبة الاجتماعية المكسيكية. والقصد أن حضارة الأزتيك لم تتفتت، بل إنها عندما أتاها الغزاة من الشرق كانت أقوى كيان سياسي في تلك المنطقة من العالم في ذلك الوقت. ولعل هذا يدعو إلى إعادة النظر في حكمة دورانت، وإضافة جملة اعتراضية، هي أن «الحضارات تُهزم من الداخل، أو أنها قد تصطدم بحضارة تفوقها في القدرة والجذور والعلم، وتهدف إلى تفتيتها بغية استيعابها». وتقديري أن عالم اليوم قد لا يسمح بتكرار الانهيار الكامل الشامل لحضارة كما حدث للأزتيك، غير أن خطر اليوم الحقيقي يتمثل في الغزو الفكري والثقافي للحضارة، الذي قد لا يقل خطورة لأنه بمرور الزمن يُفقد الدول والمجتمعات هويتها وتماسكها الثقافي والاجتماعي.
من التاريخ: حضارة الأزتيك
من التاريخ: حضارة الأزتيك
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة