هواجس «اليسار العربي» في ضيافة تونس

تحت شعار «فلسطين: مائة عام من المقاومة»

هواجس «اليسار العربي» في ضيافة تونس
TT

هواجس «اليسار العربي» في ضيافة تونس

هواجس «اليسار العربي» في ضيافة تونس

بينما كان القادة العرب يعدون للالتقاء في الأردن، استضافت تونس أخيراً «المؤتمر الثامن لليسار العربي» الذي التأم تحت شعارات كثيرة، أبرزها: مساندة المطالب الوطنية لشعب فلسطين بمناسبة مرور مائة عام على صفقة «سايكس - بيكو» الاستعمارية البريطانية الفرنسية التي قسَّمَت بلاد الشام والعراق إلى 4 دويلات ومهّدت لاحتلال فلسطين. إذ رفع المؤتمر شعار «فلسطين: مائة عام من المقاومة»، واستبق مظاهرات بالجملة شهدتها العاصمة التونسية لإحياء «يوم الأرض الفلسطيني» نظمتها نقابات المحامين وهيئات حقوقية ومنظمات من المجتمع المدني وأحزاب تونسية مختلفة.
لكن هل يُعدّ توافد مزيد من القادة اليساريين العرب على تونس «دعماً للمقاومة الفلسطينية»، مؤشراً لصمود تيار من النخب العربية وانحيازها بقوة لمطالب التحرّر الوطني الفلسطينية... أم أنه مجرد «رسالة من تحت الماء» وجَّهَها هؤلاء الساسة «الثوريون» لتغطية عجزهم عن الفعل والتأثير في مجرى الأحداث؟
ثم، لماذا تناسى زعماء اليسار العربي «ثوابتهم» و«مرجعياتهم الفكرية والسياسية الماركسية» التي تؤكد على «حتمية الصراع الطبقي» وتبشر بانتصار «الطبقة الكادحة» على رؤوس الأموال والحكومات الليبرالية؟
قد تكون تونس والجزائر والمغرب آخر بلدان العالم العربي والإسلامي والأفريقي «التي لا تزال الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الماركسية تلعب فيها دوراً سياسياً كبيراً».
هكذا علّق رئيس الحكومة الجزائري السابق سيد أحمد غزالي في لقاء مع «الشرق الأوسط» على الدور الذي تلعبه أحزاب من «أقصى اليسار» في البلدان المغاربية. وكانت هذه الأحزاب قد لعبت دوراً طليعياً في المؤتمر الذي استضافته العاصمة التونسية، وشارك فيه يساريون وإسلاميون وليبراليون.
وبطبيعة الحال، كان ممثلون عن فصائل من اليسار الفلسطيني والأردني والعربي والمغاربي على رأس المحتفين بهذه الذكرى الرمزية، التي رعتها سفارة فلسطين في تونس وشخصيات من النقابيين والسياسيين اليساريين العرب من جنسيات مختلفة، بينهم قادة «أقصى اليسار التونسي» في حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحَّد الذي يتزعمه النقابي والبرلماني زياد الأخضر منذ اغتيال الزعيم اليساري القومي شكري بلعيد في فبراير (شباط) 2013.

الهزائم الانتخابية
الطاهر شقروش، الزعيم اليساري التونسي، الجزائري الأصل، رأى أن مؤتمر أحزاب اليسار العربي في نسخته الثامنة: «لا يخفي عجز الجيل الجديد من اليساريين عن مواكبة التحديات التي تواجه شعوبهم منذ انهيار المعسكر الاشتراكي والأنظمة المحسوبة على الشيوعية والاشتراكية عالمياً». ووفق شقروش، الذي سبق أن حوكم بالسجن لمدة طويلة في عهد الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة بسبب انتمائه لحركة يسارية راديكالية، فإن «فشل الغالبية الساحقة من أحزاب اليسار العربي في الانتخابات التعددية والنزيهة، التي نظمت في بلدانها، يُعد مؤشراً كافياً على صعوبة نجاح أي حزب يساري ماركسي اليوم في قيادة أي بلد عربي».
وفي السياق ذاته، اعتبر عصام الشابي الزعيم اليساري والقومي التونسي وزعيم الحزب الجمهوري، أن حركات اليسار التونسية والعربية «ارتكبت غلطات فادحة خلال العقود الماضية، ثم بعد اندلاع الثورات العربية في 2011، من بينها التشرذم والتورط في الصراعات الهامشية... فكانت النتيجة حصولها على نتائج هزيلة في الانتخابات التعدّدية المتعاقبة التي شاركت فيها مقارنة برموز النظام القديم والمعارضين الإسلاميين».

القطيعة والاستئصال؟
ومن ناحية ثانية، ذهب المفكر والفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي أبعد من ذلك، فاتهم رموز أقصى اليسار التونسي والمغاربي بـ«الفشل الدائم» و«بتكريس منطق القطيعة والاستئصال في علاقاته بخصومه السياسيين الذين ينتمون إلى حركات وأحزاب ليبرالية وقومية وإسلامية».
وأشار المرزوقي إلى ما يصفه بـ«الغلطات القاتلة التي ارتكبتها بعض القيادات اليسارية العربية، خلال العقود الماضية، إبان المواجهات الدامية بين السلطات والمعارضين الذين يرفعون شعار الهوية. ومن أبرزها الانحياز للحكومات القمعية، وهو ما تسبّب في تراجع شعبية أحزاب اليسار عموماً.. وما شكك في مصداقيتها ونضالية زعمائها».
وهنا لفَتَ المرزوقي إلى مشاركة بعض قادة اليسار في الحكومات المتعاقبة ببعض الدول المغاربية خلال مراحل القمع القصوى للمعارضة القومية والليبرالية والإسلامية. وحسب قوله: «أسهمت تلك المشاركة في إظهارها (أي قيادات اليسار) في موقع الموافق على السياسات الاستبدادية والاستئصالية التي انتهجتها بعض الأنظمة العربية خلال العقود الماضية»، على حد تعبيره.

الرأي الآخر
ولكن، في المقابل، يرفض قياديون من بين المشاركين في «مؤتمر تونس الثامن لليسار العربي» مثل محمد جمور، القيادي في حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد التونسي، جملةً وتفصيلاً الاتهامات التي يوجهها لهم خصومهم. وينوه هؤلاء بـ«التضحيات التي قدمها جيل كامل من الشباب اليساري من شباب الثانويات والجامعات والنقابات والحركات الشيوعية السرية».
وفي هذا المجال، أشار جمور إلى «حملات القمع التي شملته شخصيا مع عدد من رفاقه المحسوبين على أقصى اليسار في تونس والجزائر والمغرب»، واستدل (حسب رأيه) بـ«الدور المركزي الذي لعبه نشطاء اليسار العربي في المنظمات الحقوقية، بما في ذلك في مجالات معارضة أحكام الإعدام والأحكام القاسية بالسجن على آلاف المعارضين والنقابيين العلمانيين والإسلاميين».
وفي الاتجاه نفسه، اعتبر الجيلاني الهمامي، القيادي في حزب العمال الشيوعي التونسي والتجمع اليساري الذي تشكل منذ اغتيال شكري بلعيد تحت تسمية «الجبهة الشعبية»، أن اليساريين العرب «كانوا طوال السنوات الستين الماضية أكثر من قدّم سجناء سياسيين وتضحيات في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، بما في ذلك بسبب دفاعهم السابق عن المساجين السياسيين والإسلاميين والنقابيين والطلبة».

مراجعات فكرية وسياسية
مع هذا، فإن «واقع اليسار في البلدان المغاربية والعربية يبدو أكثر تعقيداً»، حسب الجامعي والكاتب الجزائري رشيد التلمساني، إذ رأى التلمساني أن «اليساريين الجزائريين إنما فشلوا في الفوز بعدد كبير من الأصوات، منذ الانتخابات التعددية الأولى قبل 27 سنة، بسبب تمسّكهم بمواقفهم النخبوية ومرجعياتهم الفكرية الاشتراكية والشيوعية. وفي المقابل تقدم الليبراليون والإسلاميون بفضل بروزهم في موقع المتمسك بالهوية الوطنية للجزائر وبالتغيير الجذري».
ومن جهته، دعا عالم الاجتماع التونسي منصف وناس «زعماء أحزاب اليسار العربي إلى الاعتراف بأخطاء الماضي، والقيام بمراجعات فكرية سياسية جوهرية تشمل عقائدها الماركسية ومسلماتها الفلسفية في مجتمعات أثبتت تمسكها بهويتها الإسلامية والعربية وخصوصياتها المحلية».
كذلك فسّر الجامعي المغربي حسن الرحموني ما وصفه بفشل الشيوعيين والاشتراكيين المغاربة بـ«عجز بعض قياداتهم عن التحرّر من القوالب الآيديولوجية، ففوتوا على أنفسهم الاستفادة أكثر من مناخ التعددية السياسية المغربية النموذجي عربياً والمقننة في الدستور المغربي منذ 60 سنة». وانتقد الرحموني ما وصفه بـ«عدم مواكبة جانب من زعماء اليسار العربي عموماً، والمغربي خاصة، مع المستجدات الفكرية والسياسية البراغماتية والوطنية لمدارس اليسار الأوروبية منذ مرحلة أنطونيو غرامشي ما بين الحربين العالميتين. وكانت النتيجة (والكلام ما زال للرحموني) تراجع شعبية الأحزاب الاشتراكية المغربية بشكل سريع، رغم وصول عبد الرحمن اليوسفي، زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى رئاسة الحكومة عام 1998 أي قبل عام واحد من وفاة الملك المغربي الحسن الثاني.

أحزاب نخبوية
على صعيد آخر، اتهم مراقبون لحصيلة «المؤتمر اليساري» قيادات الأحزاب اليسارية بـ«النخبوية وضعف الالتصاق بالأوساط الشعبية المتمسكة بثقافتها العربية الإسلامية ومرجعياتها القومية والوطنية والمحلية». واستغرب الإعلامي والمحلل السياسي زياد الهاني «تورّط بعض اليساريين العرب بعد ما سُمّي بـ(الربيع العربي)، في تبرير نزعات قبلية وجهوية وطائفية، وتوظيف تلك النزعات في تحركاتها عوضاً عن التركيز على العوامل الثقافية الوطنية التي توحّد». ومن جانبه، سجّل الوزير المغربي السابق للإعلام مصطفى الخلفي أن من بين أسباب تراجع شعبية حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وبقية الأحزاب اليسارية المغربية مقابل نجاح حزب العدالة والتنمية، ذي التوجه الإسلامي المعتدل، في الانتخابات البلدية والبرلمانية المتعاقبة منذ أكثر من خمس سنوات اختلاف علاقتهما بالأوساط الشعبية، إذ قال الخلفي إن «الأول بقي نخبوياً، بينما الثاني اقترب من المواطنين عبر تقديم خدمات ملموسة لهم في البلديات والجهات الداخلية وعلى الرصيف».

فلسطين والمطالب النقابية
كذلك، تناول باحثون في تطورات المشهد السياسي والحزبي العربي، مثل الجامعي عبد اللطيف الحناشي، ما وصفه بـ«هشاشة المشروع السياسي لكثير من الأحزاب اليسارية العربية التقليدية... التي تطوّرت (حسب رأيه) من التبشير بثورات شعبية اجتماعية وطبقية إلى مجرد حركات نخبوية تبحث عن هوية جديدة من خلال تبني النضال من أجل تحسين هامش الحريات العامة والفردية ودعم المقاومة الفلسطينية».
وفي الإطار نفسه، اعتبر الإعلامي والمحلل السياسي التونسي صلاح الدين الجورشي أن «رهان اليسار العربي، مجدداً، على شعارات عامة من نوع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتحرير فلسطين والانتقال الديمقراطي والمطالب النقابية لن يؤدي بالضرورة إلى زيادة شعبيتها، ما دامت القوى الأقوى تأثيراً ميدانياً حركات ذات ميولات وطنية وقومية وإسلامية». ومن ثم، دعا الجورشي اليساريين العرب إلى «توظيف رصيدهم النضالي لبناء قوى سياسية جديدة تكون أكثر التصاقاً بالشعوب، من خلال القيام بنقد ذاتي لحصيلة التجارب اليسارية العربية السابقة والاعتراف بالغلطات التي وقعوا فيها، وعلى رأسها الصدامات ذات الصبغة الآيديولوجية التي أضعفتهم وزادت شعبية خصومهم الليبراليين والإسلاميين».

انهيار «الدولة الوطنية»
في المقابل، اعتبر الجامعي والباحث الليبي عبد الرحمن العجيلي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «معضلة اليسار واليمين في الوطن العربي واحدة... وهي تطور أوضاع الدولة الوطنية نحو التفكك والتذرر والتجزئة ومسلسل تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ». وذكر العجيلي أن نتائج دراسة جامعية مقارنة أنجزها عن تجارب بناء «الدولة الوطنية» في ليبيا والدولة العربية من جهة، والدول الأوروبية من جهة ثانية، كشفت له أن من بين أخطر ما يهدد ساسة اليسار واليمين عربياً هشاشة الأسس التي اعتمدها مؤسّسو الدول الوطنية الحديثة في العالم العربي.
واعتبر العجيلي أنه إذا كانت «الدول الوطنية» الأوروبية تأسست بعد نجاح الثورة الصناعية والثورات الفكرية والعلمية والسياسية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا فإن «الدولة الوطنية» نشأت في الدول العربية والإسلامية بسبب خسائر العرب والمسلمين في الحرب العالمية الأولى، وانهيار الدولة العثمانية التي كانت توحدهم في شكل «خلافة إسلامية» تمتد أراضيها في قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا.. بما في ذلك في مراحل انحسارها وضعفها.

اليسار العربي ضحية
لكن هل لا يكون اليسار العربي بدوره من بين ضحايا ما سمي بـ«الثورات» العربية و«الربيع العربي»؟
هذا ما ذهب إليه أحمد الكحلاوي، عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي والقيادي النقابي واليساري التونسي، إذ ربط الكحلاوي بين كل الأزمات السياسية التي تشهدها النخب الحاكمة والمعارضة عربياً والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ثم ما وصفه بالاحتلال الأميركي للعراق ولأجزاء من سوريا تسيطر عليه الجماعات المسلحة الإرهابية.
وبينما نوّه الكحلاوي بـ«نضالات الأحزاب القومية واليسارية الوطنية الفلسطينية»، مثل الجبهة الشعبية التي أسسها الدكتور جورج حبش، فإنه يعترف بكون التيار العريض للمقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي باتت تتزعمها فصائل محسوبة على التيار الإسلامي «ما تسبب في حالات كثيرة بهضم جانب الحركات اليسارية والتعسف على تاريخها». ومن خلال هذا التقييم يعتبر أحمد الكحلاوي أن أحزاب اليسار العربي، التي بادرت مبكراً، لدعم حركات المقاومة للاحتلال الإسرائيلي «لا تزال مؤثرة سياسياً» بينها الجبهتان الشعبية والديمقراطية الفلسطينيتين. كذلك أثنى على الدور المركزي لشخصيات قومية ويسارية كانت ولا تزال منحازة للمطالب الوطنية الفلسطينية مثل عشرات الزعماء اليساريين والقوميين المسيحيين والمسلمين الذين انخرطوا منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي في آليات «الحوار القومي الإسلامي».

اليسار الجديد
وفي هذا المناخ العامّ تحفظ بعض اليساريين الراديكاليين، مثل الزعيم اليساري والنقابي التونسي صالح الزغيدي، عن «توسيع» صفة «اليسار» ليشمل القوميين العرب والمنتمين ومناضلي ما يُسمى بـ«التيار الإسلامي التقدمي». وقال الزغيدي إن اليساريين «ينبغي أن يكونوا أساساً ماركسيين وشيوعيين واشتراكيين، وليسوا من بين مَن يتبنون المقولات القومية والإسلامية والوطنية». ومن ثم، طعن الزغيدي في الصفة اليسارية لكثر من الأطراف التي تنتسب إليها عربياً ومغاربياً وفي تونس، مثل قيادات أحزاب «الجبهة الشعبية» التونسية المعروفين بميولهم البعثية والقومية والدينية.
لكن الزعيم اليساري والنقابي والكاتب بلقاسم حسن، الذي اعتزل قيادة الحزب الشيوعي التونسي وأحزاباً يسارية وقومية أخرى وأصبح عضواً في المكتب السياسي في «حركة النهضة» الإسلامية، ارتأى أن المطلوب اليوم هو «تجاوز الشعارات الآيديولوجية اليسارية، وتأسيس يسار عربي جديد يتحالف مع كل التيارات والنشطاء الذين يتبنون الديمقراطية ومطالب التحرّر الوطني والاجتماعي بصرف النظر عن مرجعياتهم العقائدية».

التراكم وخيار التوافق
وخلافاً للتقييمات المتشائمة بمستقبل اليسار العربي، اعتبر المفكر زهير بن يوسف، نائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سابقاً، أن مصير قوى اليسار العربي «رهين عدة مستجدات من بينها تكريس تراكم التجارب والخبرات والنقد الذاتي». وفي ظل خلط الأوراق الدولية والإقليمية في المنطقة العربية والإسلامية منذ الحرب العراقية الأولى، قال محمد القوماني، وهو من بين زعماء اليسار الإسلامي التونسي، إن «الخيار الوحيد أمام مناضلي اليسار العربي هو اتباع المنهج التونسي والمغربي للتوافق بين العلمانيين والإسلاميين، وقبول كل الأطراف مبدأ المشاركة في الحكم بين الليبراليين والاشتراكيين والوطنيين والإسلاميين».
ونوّه هشام سكيك، أمين عام حزب المسار اليساري التونسي، الذي أسس على أنقاض الحزب الشيوعي التونسي القديم، أيضاً، بـ«فوائد اعتماد خيار التوافق السياسي والحزبي والبرلماني».

المشهد التونسي
وفي خضم صراع الأفكار والأولويات، برزت سلوكيات سياسية جديدة في صفوف اليسار التونسي والعربي تتمثل بالانخراط في أحزاب وتكتلات سياسية تضع على رأس أولوياتها ما تسميه «الدفاع عن قيم الحداثة والمشروع المجتمعي العصري» و«محاربة التيارات الأصولية الدينية المتشددة» أو ما يُعرف بجماعات «الإسلام السياسي». وهنا يبرّر بوجمعة الرميلي، القيادي السابق في الحزب الشيوعي التونسي، انضمام مئات النقابيين والسجناء اليساريين السابقين في تونس إلى الحزب «نداء تونس» الذي أسسه «الرئيس» الباجي قائد السبسي الذي أحد القياديين القدامى في حزب بورقيبة وبن علي.
ويرى أصحاب هذا الرأي أن هذا الانضمام «مكّن ذلك التحالف مئات الرموز اليسارية من دخول البرلمان والحكومة ومواقع مهمة في الدولة والإدارة بالتنسيق والشراكة مع خصوم الأمس الليبراليين». وبذا، أيضاً، حسم هؤلاء اليساريون مجدّداً في مقولة كانت خلافية بين الزعماء اليساريين التونسيين منذ 60 سنة: «الأولوية للموقع قبل الموقف»... وخدمة الموقف السياسي اليساري من خلال احتلال موقع في الدولة، عوض التنقل بين السجون ومراكز التجنيد الإجباري ومؤتمرات التباكي على نتائج اتفاقية «سايكس - بيكو» الاستعمارية وعلى مؤامرات الاستعمار الجديد على فلسطين. ثم، على المنطقة منذ انفجار بركان «الربيع العربي»، وذلك كي لا تبقى فلسطين مجرد شعار يوحّد ما تبقى من يساريين ونشطاء سياسيين عرب.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.