سعد الدين العثماني... قوة الهدوء

الطبيب النفساني الإسلامي الذي اطمأنت إليه الدولة

سعد الدين العثماني... قوة الهدوء
TT

سعد الدين العثماني... قوة الهدوء

سعد الدين العثماني... قوة الهدوء

كل من تابع سعد الدين العثماني رئيس الحكومة المغربية المكلّف، وهو يتلو تصريحه الصحافي الأول بعد إعلان تشكيلة أحزاب الغالبية التي ضمها لتحالفه الحكومي قبل أسبوع، أدرك أن الخطاب السياسي في المغرب سيعود إلى «الهدوء» ويقطع نهائيا مع «ظاهرة (عبد الإله) ابن كيران» التي شغلت الناس في الداخل والخارج. العثماني الفقيه والطبيب النفسي قدم صورة مغايرة تماماً عن سلفه، وحرص «ألا يخرج عن النص» أمام وسائل الإعلام، إذ اختار أن يقرأ بعناية ما هو مكتوب على الورقة متحدثا عن أولويات حكومته المقبلة و«باب الأمل الواسع» الذي يرغب في فتحه لتكون حكومته «حكومة إنجاز». إلا أن هدوء خطاب العثماني سبقته عاصفة عندما ظهر قبل موعد اللقاء الصحافي بقليل، في صورة وهو داخل مقر حزبه «العدالة والتنمية» في حي الليمون بالرباط، إلى جانب زعماء خمسة أحزاب سياسية ضمها إلى تحالفه الحكومي بينهم إدريس لشكر، الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو الحزب الذي دفع ابن كيران ثمن رفضه إشراكه في الحكومة بأن أعفي من رئاستها وتشكيلها... ليصدم بقراره ذاك أعضاء حزبه والمتعاطفين معه.
قبل تكليف الدكتور سعد الدين العثماني بتشكيل الحكومة المغربية الجديدة جرى تداول اسمين آخرين لخلافة عبد الإله ابن كيران بالإضافة إلى اسمه، هما مصطفى الرميد وزير العدل والحريات وعبد العزيز الرباح وزير التجهيز والنقل. عن سؤال كيف رجحت كفة العثماني؟ أجاب أحمد البوز، أستاذ الفقه الدستوري والعلوم السياسية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، على استفسار «الشرق الأوسط» قائلاً إن الرميد «معروف عنه أنه سريع الغضب وقلق، وقد يغلب عليه هذا الطبع فنكون أمام إعادة إنتاج شخصية ابن كيران. أما بالنسبة للرباح - وفق البوز - فتوجد عليه اعتراضات من داخل الحزب، ويؤخذ عليه أنه مبالغ في تقديم التنازلات والتطبيع سواءً مع الأفرقاء السياسيين أو مع الدولة... ولهذا وقع الاختيار على العثماني، لأن فيه شيئا من الرباح الذي يرى أن العلاقة مع الدولة ينبغي أن تكون علاقة طبيعية وغير مبينة على الصدام، وشيئا من الرميد المعروف بالجدية والصرامة».
وأوضح البوز أن العثماني كان يقدَّم في البداية على أنه شخصية غير مقبولة من قبل الدولة نظرا لما قيل عن أخطاء ارتكبها إبان وجوده على رأس وزارة الخارجية، وأن زيارته لبعض الدول لعبت دورا في إبعاده عن الوزارة، غير أن تعيينه رئيساً للحكومة، وهو موقع أرفع، يؤكد وجود عناصر كثيرة رجحت هذا الاختيار. وهنا سرد المحلل السياسي والأكاديمي المغربي عدداً من العناصر التي ساهمت في اختيار العثماني، أولها كما قال: «الرغبة في إنهاء مرحلة ابن كيران وخطابه القوي الذي لم يعد مقبولاً»، مشيرا إلى أن «إبعاد ابن كيران في حد ذاته كان مسألة مهمة، ولا يهم من يأتي بعده».
وأضاف البوز أن «الانطباع الذي يعطيه العثماني هو أنه شخصية مرنة. وهذا ظهر حقاً إبان قيادته للحزب قبل 2007. إذ أن الخط السياسي للحزب في عهده كان معتدلاً ولم يكن مبنيا على نوع من الصدام مع الدولة والفاعلين السياسيين. لذلك قدم على أنه شخصية مقبولة ومعتدلة عند الطيف السياسي المغربي تطمئن لها الدولة ولا يقلق المتنافسون السياسيون».
من ناحية ثانية، قال البوز «الأمر لا يتعلق بشخصية غامضة، بل معروفة لدرجة أن رئيس الحكومة المكلف يبدو أكثر اعتدالا من الاعتدال الذي يظهره حزبه حزب (العدالة والتنمية)». وتابع موضحاً أن أسلوب عمل العثماني «يتميز بالتركيز على العمل في الميدان أكثر من تسويقه في وسائل الإعلام». وبالتالي، من العناصر التي ساهمت في اختياره أنه «قليل الظهور، ولا يتكلم بصوت مرتفع، كما أنه متحفظ إلى حد المبالغة... هو أيضا من النوع الذي لا يمكن أن يقول لقيادة الحزب كل شيء، لذلك يبدو للآخرين قابلا للتفاهم».
«ولقد ظهر ذلك - حسب كلام البوز - في المنهجية التي بدأ بها مفاوضات تشكيل الحكومة، والتي يمكن أن نقول عنها بأنها أشبه بانقلاب حقيقي على منهجية ابن كيران... ذلك أنه فاجأ الجميع، فأسقط الشرط الذي تشبث به ابن كيران، وهكذا أصبح حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان يواجه بشدة داخل (العدالة والتنمية) من حلفائه داخل الحكومة».
في المقابل، تجنبا لأي تأويل مغرض لما سماه البعض «انقلاب العثماني على ابن كيران» سارع عدد من قيادات الحزب إلى نفي تهمة الخذلان عن رئيس الحكومة المكلف. وكتب محمد يتيم «تدوينة» قال فيها إن «نجاح العثماني في تشكيل الحكومة لا يعني فشل ابن كيران في ذلك، و(صمود) هذا الأخير لا يعني تخاذل الأول، فكلاهما كان مصيبا بحسب المعطيات التي كانت متوافرة، وكلاهما اجتهد من خلال تلك المعطيات، والأهم من ذلك أن كليهما تلقى مساندة من هيئات الحزب، كما تلقى العثماني مساندة ابن كيران».
ووصف نبيل شيخي، عضو الأمانة العامة لـ«حزب العدالة والتنمية» ورئيس فريق الحزب في مجلس المستشارين، العثماني بأنه «رجل قوته في هدوئه». وأردف شيخي لـ«الشرق الأوسط» خلال حوار معه «أن العثماني من خلال مساره السياسي سواءً داخل الحزب أو خارجه، شخصية مرنة تحسن الرجوع - عندما تقتضي الظروف - خطوة إلى الوراء للتقدم خطوات إلى الأمام في الوقت المناسب». وقال عنه أيضا إنه «رجل من الذين كانت لهم بصمة قوية في مسار تجربة حزب العدالة والتنمية ومسار مشاركته الفاعلة والراشدة في المشهد السياسي بالمغرب». وهو بنظره «شخصية نادرة جمعت بين العلوم التطبيقية، بصفته حاصلا على شهادة الدكتوراه في الطب، والعلوم الشرعية من خلال حصوله على عدد من الشهادات العلمية الأخرى»، كما أنه «شخصية معروفة بطابعها الهادئ الذي يكسبها قوتها الحقيقية».

مرحلة مؤقتة
من ناحية أخرى، لم يستبعد البوز أن يكون اختيار العثماني «مجرد تدبير لمرحلة انتقالية بانتظار أن تتضح الصورة أكثر في المستقبل» ورأى أنه «اختيار قصير الأمد مرتبط بهاجس ألا يستمر ابن كيران في تدبير المرحلة السياسية الحالية، وأن يبتعد نسبيا عن الحياة السياسية، وتطوى صفحة فرضه هيمنته وتوجهه على حزبه». وهذا الجانب، بالذات، لم يغفل عنه عدد من قيادات الحزب ضمنهم عبد العالي حامي الدين، الذي كتب أن «محاولة تغييب ابن كيران عن الساحة السياسية، خسارة كبرى للوطن ولمشروع التحول السياسي في البلاد». بيد أنه، في المقابل، هناك من يرى أن وجود العثماني على رأس الحكومة قد يكون لصالح «العدالة والتنمية» في ما يتعلق «بمأسسة الحزب، وإبعاده عن الشخصنة التي طبعت الحزب في عهد ابن كيران».

المسار السياسي للعثماني
كان سعد الدين العثماني، بين الذين أشرفوا مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي على إعداد ميثاق «الجماعة الإسلامية» باعتباره أحد مؤسسيها إلى جانب عبد الإله ابن كيران ومحمد يتيم، بعد انفصالهم عن منظمة «الشبيبة الإسلامية» في أعقاب تبنيها العنف. ومن ثم تحولت «الجماعة» إلى حركة «الإصلاح والتجديد»، وتضمن الميثاق مجموعة من المراجعات الفكرية للحركة الإسلامية. انشغل العثماني منذ بداية الثمانينات بالجانب الثقافي والفكري وكان مسؤولا عن مجلة «الفرقان» يحاول تأصيل المفاهيم الجديدة في كيفية التعامل مع الأفرقاء السياسيين والدولة والملكية. وألف العثماني في هذا المجال، ثلاثة كتب فقهية.
وبعد عام 1987 انشغل العثماني بالمشاركة السياسية للإسلاميين والتأصيل الشرعي لهذه المشاركة. وعندما التحق الإسلاميون أعضاء حركة «الإصلاح والتجديد» بحزب الحركة الشعبية الدستورية برئاسة الدكتور عبد الكريم الخطي، عين مديرا للحزب. وأشرف على تأمين الإطار السياسي وإنشاء فروع الحزب في كل مناطق المغرب وأيضا فروع النقابة التابعة للحزب، وهي الاتحاد الوطني للشغل. ثم حين أعلن عن تأسيس حزب العدالة والتنمية شغل العثماني منصب الأمين العام من 2004 إلى 2008. وشارك الحزب في محطتين انتخابيتين هما الانتخابات البرلمانية لعام 2002 و2007، وقد حقق الحزب تقدما ملحوظا في2002 عندما انتقلت عدد مقاعده من 14 إلى 42 مقعدا. ولكن في انتخابات 2007 كانت نتائجه محدودة فانطلق نقاش داخل الحزب من أجل تحديد الأسباب.
وهنا قال عضو في المجلس الوطني لحزب «العدالة والتنمية» - فضل إغفال ذكر اسمه إنه «خلال المرحلة التي أدار فيها العثماني الحزب حاول ما أمكن أن ينتقل بالحزب من خطاب الهوية والتخليق إلى خطاب التدبير. وبالتالي، تراجعت مفردات الهوية بشكل كبير في زمن العثماني، حتى أن المراقبين بدأوا يتحدثون عن (علمانية مؤمنة) داخل هذه التجربة. وفي هذه المرحلة خصص العثماني جزءا كبيرا من اهتمامه للجانب الفكري أكثر من السياسي، وهو ما برز في كتابه (تصرفات الرسول بالإمامة) الذي يركز فيه على التمايز بين الديني والسياسي ووصل في هذا الأمر إلى مستويات أقرب ما تكون إلى العلمنة».
وتابع المسؤول الحزبي «ولكن على المستوى السياسي بدا أداء العثماني مرتبكا، لأنه خلال انتخابات 2002 ثم 2007 أثارت تحالفات الحزب وتموقعه العديد من التساؤلات لأنه لم يختر التحالف سوى مع حزب (القوات المواطنة)، وهو حزب ضعيف جدا.
وكان يرمز من خلال التحالف معه إلى أنه لا مشكل لديه مع نخبة رجال الأعمال. وهكذا، ابتعد (العدالة والتنمية) عن الأحزاب الوطنية وأحزاب الكتلة الديمقراطية فكانت نتائج الحزب محدودة لأن تموقعه وتحالفاته لم تكن مغرية للناخبين ولم يتمكن من إضافة سوى أربعة مقاعد فقط».
بطاقة هوية

- ولد سعد العثماني في مدينة إنزكان بإقليم سوس يوم 16 يناير (كانون الثاني) 1956
- متزوج وأب لثلاثة أولاد
- حصل على شهادة الثانوية العامة في العلوم التجريبية عام 1976 في إحدى مدارس إنزكان
- حاز شهادة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية من كلية الشريعة بآيت ملول عام 1983... وتابع تعليمه في دراسة الشريعة حيث حصل على شهادة الدراسات العليا في الفقه وأصوله من دار الحديث الحسنية بالرباط عام 1987
- درس في كلية الطب والصيدلة بالدار البيضاء وحصل منها على الدكتوراه في الطب العام عام 1986... والتحق بالمركز الجامعي للطب النفسي بالدار البيضاء وحصل على دبلوم التخصص النفسي عام 1994
- درس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا في الدراسات الإسلامية عام 1999 تحت عنوان «تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة وتطبيقاتها الأصولية»

مناصبه السياسية
* رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية مند يوليو (تموز) 2008
* الأمين العام لحزب العدالة والتنمية منذ أبريل (نيسان) 2004
* نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية منذ ديسمبر (كانون الأول) 1999
* نائب رئيس لجنة الخارجية بمجلس النواب (2001 - 2002)
* نائب في مجلس النواب المغربي- إبان الولاية التشريعية 1997 - 2002... ثم في الولاية 2002 - 2007
* عضو مجلس الشورى المغاربي (منذ سنة 2002)
* مدير حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية من يناير 98 إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 1999



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.