إيما واتسون لـ«الشرق الأوسط»: كنت مثل أليس في بلاد العجائب

«فتاة الملايين» فضلت «الجميلة والوحش» على «لا لا لاند» لصعوبة الجمع بينهما

إيما واتسون مع دان ستيفنز في مشهد من «الجميلة والوحش» (ديزني) - إيما واتسون في افتتاح «الجميلة والوحش» بنيويورك (أ.ف.ب)
إيما واتسون مع دان ستيفنز في مشهد من «الجميلة والوحش» (ديزني) - إيما واتسون في افتتاح «الجميلة والوحش» بنيويورك (أ.ف.ب)
TT

إيما واتسون لـ«الشرق الأوسط»: كنت مثل أليس في بلاد العجائب

إيما واتسون مع دان ستيفنز في مشهد من «الجميلة والوحش» (ديزني) - إيما واتسون في افتتاح «الجميلة والوحش» بنيويورك (أ.ف.ب)
إيما واتسون مع دان ستيفنز في مشهد من «الجميلة والوحش» (ديزني) - إيما واتسون في افتتاح «الجميلة والوحش» بنيويورك (أ.ف.ب)

هناك خط دائري بين فيلمي «الجميلة والوحش» و«هاري بوتر». كلاهما فانتازيا مقتبسة عن قصة أدبية. أحدهما كلاسيكي للأطفال والثاني معاصر في كلاسيكيته لكنه يبقى، في الأساس، أدب أطفال بالدرجة الأولى.
«الجميلة والوحش» مأخوذ عن حكاية فرنسية الأصل وضعتها غبرييل سوزان باربو د فيلنيوف سنة 1740 وتبلورت لتصبح عملاً أسطورياً رقيقاً عولج منذ ذلك الحين في إصدارات مختلفة وترجم إلى عشرات اللغات وتسربت تأثيراته إلى عدد كبير من الأفلام من العقد الأول من القرن العشرين وإلى اليوم، أما «هاري بوتر»، كما نعرف جميعاً، فهي رواية فانتازية حديثة العهد.
الرابط الآخر بينهما أن الفيلم الحديث والسلسلة المعروفة بـ«هاري بوتر» التي تتضمن تسعة أفلام أنتجت ما بين 2000 و2011، أنها من بطولة إيما واتسون. الفتاة التي انطلقت للتمثيل في سن الحادية عشرة والتي تبلغ الآن السادسة والعشرين من العمر (عيد ميلادها في منتصف هذا الشهر أبريل/نيسان).
وما هو لافت ليس النوع الشامل لهذين الفيلمين، بل للممثلة إيما واتسون التي انطلقت وانتهت، حتى الآن، بفيلمين من الفانتازيا كلاهما أنجز كنزا من الإيرادات.
حتى الآن حقق «الجميلة والوحش» 342 مليون دولار في الولايات المتحدة وكندا. أما حول العالم فإن الفيلم يندفع باتجاه الـ500 مليون دولار حالياً. وحتى نهاية الأسبوع المنصرم كان الرقم العالمي قد وصل إلى 751 مليونا و163 ألفا و125 دولارا في 4210 صالات.
كل ذلك يعود بالفائدة طبعاً على الممثلة الشابة، كونها لم تتحوّل إلى نجمة كبيرة بعد تركها سلسلة «هاري بوتر»، ولو أنها مثلت أفلاماً رئيسية (من آخرها مثلاً «نوح»). ذلك لأن النجاح التجاري لم يحصد معظم ما قامت به من بعد عام 2011 وحتى انطلاق هذا الفيلم الجديد الذي يشاركها بطولته دان ستيفنز ولوك إيفانز وكيفن كلاين والبريطانية الأخرى إيما تومسون.
حول ذلك الفيلم، وبسببه، جرى هذا اللقاء وهو الثاني من بعد لقاء سابق معها على أعتاب فيلم «ذا بلينغ رينغ» الذي كان عرض في مهرجان «كان» قبل ثلاث سنوات.

* التحدي
* هل كان تمثيل شخصية الفتاة بيل في «الجميلة والوحش» ما كنت تتطلعين إليه في هذه المرحلة؟
- نعم. إلى حد معين. كان عمري سنة واحدة عندما أنتجت شركة وولت ديزني هذا الفيلم كأنيميشن (1991) وبعد خمس عشرة سنة عندما كنت أمثل ثالث أو رابع فيلم في سلسلة «هاري بوتر» شاهدته للمرّة الأولى. ثم شاهدته مرّة أخرى قبل تصوير هذا الفيلم.
* كيف كان انطباعك عنه؟
- في المرتين؟ كان جيداً. في المرّة الأولى كنت مبهورة وفي الثانية ازداد انبهاري لا بكيف تم إخراج هذه الرسومات والتقنيات المقنعة التي استخدمت آنذاك فقط، بل بصوت بايج أوهارا التي لعبت هذا الدور وهي تغني.
* كان فيلمها السينمائي الأول.
- صحيح؟
* وكانت في الثلاثين من عمرها لكن شخصية الجميلة كانت كما تعلمين في مقتبل الشباب.
- أعتقد أنها امتلكت صوتاً شاباً في أي حال. عندما سمعتها اقتنعت بها. لم أفكر فيها كممثلة بل كشخصية.
* هل كان تمثيلك للدور صعباً على أي وجه؟
- وجه الصعوبة الوحيد كان في أني رغبت فعلاً في أن أترك أثراً كبيراً بتمثيلي دور الفتاة بيل التي تعبّر عن فترة من الصبا كما تعبّر، عندي، عن الأنثى التي تقود مصيرها ولا تنقاد له. إنه تحد شعرت به منذ أن عرض الدور عليّ. وكنت أريد قبل أن تبدأ اللقطة الأولى من أنني سأنجح في التعبير عن خصوصية هذه الفتاة ورمزها.
* هل تعبر بيل عنك على نحو ما؟ ربما من حيث أنك ما زلت امرأة شابّـة.
- تعبر عني كثيراً. عندما قبلت الدور فإن كل ما أردت القيام به هو أن ألتقي والشخصية في كل ما تنص عليه. بيلي بالنسبة إلى هي شخصية قيادية كما ذكرت وهي في السن القريبة من سني وحبها بريء لكن فيه هدف. أردت أن أخوض التجربة بالمبادئ ذاتها. وشعرت فعلاً أننا نلتقي في كثير من الأوجه بما فيها أنها فتاة نشطة في حقوق المرأة في مجتمعها. على قدر كبير من المعرفة والثقافة. هذا ما جعلني أعيش هذه الشخصية لأنها تلائم ما أؤمن به فعلياً.
* هل تقرأين كثيراً؟
- أقرأ كثيراً جداً. المعرفة عندي مثل صندوق من اللآلئ لا تفنى قيمتها. وربما سأكرر نفسي هنا قليلاً، لأن حقيقة أن بيل في الفيلم مقدّمة على أنها فتاة تعشق القراءة وذات قدرة معرفية مهمة جعلتني أتحمس كثيراً للعب هذه الشخصية. إنها تماماً ما أؤمن به.

أمام اختيار
* قرأت أنه عرض عليك الدور النسائي الأول في «لا لا لاند» ورفضته، بينما عرض على رايان غوزلينغ الدور الرجالي الأول في «الجميلة والوحش» ورفضه. أليس هذا غريباً؟
- بلى، لكن المسألة ناتجة عن صدفة ليس إلا. بالنسبة إلي كان المشروعان قريبين إلى نفسي، لكن «لا لا لاند» في رأيي كان يجب أن يكون فيلمي التالي بعد «الجميلة والوحش» وليس قبله. لا أدري لماذا أقول ذلك أو لماذا شعرت بذلك، لكن عندما وجدت نفسي بين خيارين لا أستطيع الجمع بينهما، قررت أن أمثل في فيلم يعني لي أكثر قليلاً من الفيلم الآخر.
* انطلقت طبعاً من أفلام فانتازية هي سلسلة «هاري بوتر» وشاهدناك تكبرين فيلماً وراء فيلم. أعتقد أنك كنت في الحادية عشرة عندما مثلت دور هرمايني لأول مرّة وبلغت العشرين عندما تركت الدور سنة 2011، هل ما زالت السلسلة هي السبب الأول في شهرتك في رأيك؟
- نعم.. هي أول ما جعلني معروفة وكما تقول، لقد كبرت سنة بعد سنة في هذا الدور حتى بتنا (هي والشخصية) ثنائياً لا يمكن تفرقتنا. لكن كنت أعلم قبل سنوات قليلة من انتهاء السلسلة أنني أمام خيارين، إما أن اكتفي وأعتزل ولو مؤقتاً لأنصرف إلى استكمال دراستي وإما أن أمضي في التمثيل من دون أن أنقطع عن الدراسة، واخترت الحل الثاني.
* هل كان صعباً إيجاد أدوار مناسبة بعد تلك السلسلة؟
- من حسن الحظ أن السلسلة وجدت نجاحاً كبيراً، بحيث لم أشعر بصعوبة البحث عن أدوار مناسبة أو جديدة. لكنني كنت أريد أن أدرس خطواتي على نحو جيد. أعني أنني كنت أريد التنويع وفي الوقت ذاته أريد النجاح، وكان في بالي كل أولئك الممثلين الذين تركوا أدواراً اشتهروا بها ولم ينجحوا في أدوار بديلة عندما احتاجوا للاستمرار في التمثيل.
* التقينا في مهرجان «كان» عندما عرض لك فيلم «ذا بلينغ رينغ» سنة 2013، وأذكر أنك كنت مثل أليس في أرض العجائب، أقول هذا بإيجابية...
- صحيح. كان كل شيء جديدا علي وشعرت حينها بأنني أنتقل عبر ذلك الفيلم إلى معرفة الجانب الآخر من السينما لم أتعرف عليه في سلسلة «هاري بوتر». تلك كانت سلسلة رائعة وبالغة النجاح، لكن الفيلم الذي تذكره كان فيلماً مستقلاً صغيراً لصوفيا (كوبولا) وكلنا تعلقنا برغبة خوض تجربة المهرجانات وعالمها بحماس. بالنسبة لي كنت فعلاً مثل أليس وهي تكتشف عالماً جديداً عليها.
* ولدت في فرنسا وكان عمرك سبع سنوات عندما انتقلت إلى العيش في لندن مع أهلك. هل لديك علاقة عاطفية ما مع فرنسا كمكان؟
- لا. كنت في الخامسة عندما عدت ووالداي إلى أكسفوردشاير، وليس لندن. وبالنسبة لذكرياتي كوني كنت صغيرة جداً عندما تركت باريس، فإن ما أذكره لا يعتبر «نوستالجيا». مجرد ذكريات لي وأنا فتاة صغيرة.

غرور
* وفي أي سن أدركت أنك تريدين أن تصبحي ممثلة؟
- منذ ذلك الحين. تدربت على الغناء والتمثيل، وعندما كنت في العاشرة ظهرت في مسرحيات الكلية التي كنت أدرس فيها.
* أعتقد أنك كنت محظوظة جداً، لا من حيث نجاح أفلام «هاري بوتر» وانعكاس هذا النجاح على مسيرتك فقط، بل من حيث اشتراكك التمثيل مع نخبة رائعة من الممثلين البريطانيين...
- بالتأكيد.
* ممثلون من عينة رتشارد غريفيث وفيونا شو وبرندان غليسون وراف فاينز وغاري أودلمان. كيف أثر ذلك عليك؟
- كنت أمثل أمام الكبار. لا تنس ماغي سميث ومايكل غامبون وإميلدا ستانتون. كنا جميعاً عائلة واحدة سعيدة وروابطنا متينة. بالنسبة لي كوني تدربت على التمثيل كانت المناسبة فرصة ثمينة لكي أراقب وأتعلم ثم اشترك مع هذه النخبة من الممثلين.
* لم يُـقل عنك أنك مغرورة. ربما بعض الممثلين يصيبهم النجاح بالغرور.
- المغرور لا يستطيع التقدم كثيراً في عمله خصوصاً إذا ما كان بدأ التمثيل في مثل سني. هذا شيء يجب ألا يقع لأي منا.
* هل تبدو لك سلسلة «هاري بوتر» كما لو أنها قديمة جداً أو بعيدة جداً عنك اليوم؟
- نعم. بدأت أشعر بذلك قبل عامين مثلاً. لكن الأفلام حاضرة جداً في بال المشاهدين وهذا يعيدني إلى إدراك أنها ما زالت حديثة العهد في الوقت ذاته.
* هل تشعرين بالحاجة لمشاهدة أحد هذه الأفلام اليوم؟
- غريب سؤالك، لأن هذا ما شعرت به فعلاً قبل أيام قليلة. جلست في بيتي وشعرت بأني أحتاج لأن أشاهد أحد هذه الأفلام لأرى كيف كنت.
* «الجميلة والوحش» يعيدك نوعاً ما إلى الفانتازيا... طبعاً فانتازيا مختلفة عن تلك التي في «هاري بوتر». هل هي خطوة جديدة بالنسبة لك؟
- أعتقد ذلك. وأنا سعيدة جداً بهذا النجاح الكبير الذي حققه الفيلم. وأحب أن اعتبر أنني جزء من هذا النجاح في الوقت الذي هو جزء من مهنتي. إنه شيء متبادل فعلاً.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)