الحجر يستيقظ من غفوته في «القصر الكبير»

للنحت التعبيري الفرنسي في القرن العشرين موعد في «القصر الكبير»، في باريس، هذه الأيام، بمناسبة إحياء الذكرى المئوية لوفاة النحات الشهير أوغست رودان. إنه معرض يلقي أضواءً متقابلة على روائع «الأستاذ» وأعمال بعض طلابه، وأيضاً على تركه فنانين آخرين كثيرين من المرحلة ذاتها، بعضهم من ربوع بعيدة عن فرنسا.
لعل منحوتات رودان (1840 - 1917) هي الأشهر عالمياً، ويمكن القول إنه النحات الأكثر شعبية لدى محبي الفن في أرجاء المعمورة، وحتى الفرنسيين من ذوي الثقافة المتواضعة والجاهلين بتاريخ الحركة التشكيلية، يعرفون من يكون رودان وقد سمعوا بحكايته مع النحاتة كاميل كلوديل، ويحفظون أسماء منحوتات خالدة له، مثل «الرجل ذي الأنف المكسور» و«عصر البرونز» و«يوحنا المعمدان». لكن، من دون منازع، يمثل تمثال «المفكر» أشهر أعمال النحات على الإطلاق. و«المفكر» هو مَن يستقبل زوار المعرض، وقد أنجزه عام 1903 وجعل من ذلك الرجل الذي يسند رأسه بقبضته ويضع كفّه على ركبته، منحوتة ناطقة من الحجر الصلد، تختصر فكرة الإنسان المهموم في إطراقته المعبرة عن تفكير عميق. لكن هذه النسخة ليست الأصلية، وهي أكبر منها حجماً، وقد صنعت من الجبس المطلي لغرض وضعها في المعرض الذي يقام في «القصر الكبير»، معقل معارض الفنون في باريس وأروعها هندسة وتاريخاً. وهو حدث يستمر حتى نهاية يوليو (تموز) المقبل.
ويحرس الجانب الآخر من الباب الكبير للمعرض عملاق آخر، يضاهي سابقه حجماً إنّما أصغر منه سناً بأكثر من قرن. وهو تمثال ابتكره الفنان الألماني جورج باسيليتز في عام 2009، وطلاه بالأبيض والأزرق، وجعله يعتمر قبعة تحاكي خوذة عمال البناء، كتب عليها كلمة صفر، «زيرو»، في إشارة إلى العدم واللاجدوى. ولا شك أن ذلك التضارب في الأسلوب بين العملاقين الحارسين، «مفكر» رودان و«صفر» الفنان الألماني المعاصر، يعطي الزائر، حالما تطأ قدماه بوابة المعرض، فكرة عما سيراه في القاعات الداخلية من تعددية في الأنماط المعروضة. لكنّ للعملين قاسمَيْن مشتركين يتمثلان في المنحى التعبيري، من جهة، والسعي إلى تجربة ما هو غير مألوف في زمانيهما، من جهة أخرى.
وكعادة أي فنان ممتلئ بذاته، يؤكد باسيليتز أنه لم يتأثر قط برودان. وإذا كان لهذا الأخير من تأثير ضئيل في مساره، فهو ملمح غير مباشر، جاء ربما عبر أساتذة نحت آخرين مثل الهولندي فيليم دي كوننغ، والفرنسي جان فوترييه اللذين اعترفا ولم ينكرا تأثير رودان في أسلوبيهما الفنيين. وكان باسيليتز يؤكد مراراً إعجابه بهما ويعدّهما بمثابة قدوتين له.
يلحظ الزائر، في المنحوتات المعروضة الأخرى، قواسم مشتركة، مثل الولع باختيار نوعية المواد المصنوعة منها، والحس التجديدي، وتنمية ما هو عَرَضي وعفوي وغير مدروس بشكل أكاديمي، وأحياناً ربما غير متوازن لكي يبدو طبيعياً. ومن السمات المميزة الأخرى، يمكن استشفاف ضرب من الميل إلى عدم إكمال التحفة النهائية، بحيث تبدو وكأن صاحبها قرر التوقف فجأة عن العمل. أو ربما يُخَيّل إلى الناظر أن حياة الفنان نفسها توقفت عند تلك اللحظة.
لكل معرض فرنسي محافظ يشرف على إعداده وتنظيمه. ولهذا المعرض محافظتان، كاترين شوفيّو مديرة متحف رودان الباريسي، وأنطوانيت لونورمان رومان، خبيرة فن النحت في القرن العشرين. وقد حرصت كل منهنّ على اختيار المعروضات وتصنيفها في خانات حسب الأساليب والمواضيع وتوجهات العمل الأساسية، بما فيها تأثيرات الرسوم التخطيطية في المنحوتة النهائية، أو الوجوه المنحوتة بشكل جزئي، أو الانسيابية في الحركة، وهذه الأخيرة تميز مثلاً منحوتة «الرجل الماشي» الشهيرة للفنان السويسري ألبيرتو جاكوميتي، وبذلك، تغاضت المحافظتان عن النهج الأكاديمي البحت الذي اتسمت به العقود الأربعة الأولى من مسار رودان الفني.
إضافة إلى ذلك «التعتيم» على إبداعات رودان الأولى، يتميز المعرض بالتخلي عن التيارات التجريدية التي كانت قد تبَوَّأت منزلة كبيرة في القرن العشرين. فالمعرض يتمركز حول «رودان التعبيري للغاية»، ويهدف إلى إحياء الذكرى المئوية لرحيله، وإيقاظ الأحجار من غفوتها. لذا، كان من الطبيعي التشديد على النحت التعبيري على حساب الأنماط الأخرى. ولا ننسى أن نهج رودان هذا يمثّل تتويجاً إبداعياً لتجاربه الماضية المتعاقبة في الرومانسية والكلاسيكية التي تمخضت عن مدرسة تعبيرية لها بصمتها الخاصة.
لكن، عقب الحرب العالمية الثانية، بدءاً من عام 1945، طغت على فنون النحت التشكيلية تيارات التكعيبية والدادائية والسوريالية والبيومورفية. وذاع صيت روادها من أمثال الروماني قسطنطين برانكوشي والفرنسي هنري لورنس والألماني الفرنسي جان آرب. وبعد جيل منهم، عادت التعبيرية لكي تتبوأ الصدارة على ساحة النحت، وعاد نفَس رودان ونفحته لكي يُلهما نحاتين معاصرين كثيرين، كالسويسري جاكوميتي، آنف الذكر، والفرنسية جيرمين ريشييه ومواطنها سيزار بالداسيني الشهير باسم «سيزار».
وضعت المعروضات في محيط محايد، بين جدران وقواطع من اللونين الرمادي أو الأحمر. وربما كان الهدف خلق تضارب بصري مع ألوان المنحوتات الأصلية نفسها وإبرازها، كما هي، من دون تحيز لهذا الطراز أو ذاك. وعلى الرغم من القاسم المشترك الأعظم بينها، وهو التعبيرية، فإن هناك أنماطًا وأساليب وبصمات شخصية متعددة بقدر تعدد الفنانين المقتناة أعمال لهم. وهكذا يتنقل الزائر بين إيحاءات إبداعية متباينة، بعكس ما هي عليه الحال في متحف رودان الباريسي، المسمى أيضاً «أوتيل بريون»، وبيته في ضاحية مودون، جنوب غربي العاصمة الفرنسية. إنهما المكانان المخصصان لـ«الأستاذ» من دون غيره، وهما يشكلان وجهتين دائمتين لمحبيه وللآلاف من السياح.
من بين المعروضات الأخرى، لا بد من التوقف لتأمل «برجوازيو كاليه»، النصب البرونزي المهيب الذي أنجزه رودان عام 1895، و«القُبلة»، أي التمثال الرخامي للعاشقين المتعانقين الذي أنجزه عام 1880. هناك أيضاً مجموعة منحوتات «باب الجحيم» الرائعة، التي عكف رودان على إبداعها طوال 37 سنة، منذ 1880 حتى وفاته عام 1917. وبجوار السلالم المفضية إلى الطابق الأول من «القصر الكبير»، تستوقف الزائر نسخة لرائعة جاكوميتي «الرجل الماشي»، تليها نسخة من تمثال «بلزاك»، الذي صنعه رودان عام 1897 لمُجايله الكاتب الفرنسي الشهير. وقد تستولي الدهشة على الزائر وهو يرى تمثال «الخوف» الذي قُدّ من البرونز والعائد لعام 1912. وهو من إبداع نحات تشيكي مغمور من التلاميذ. ثم يأتي دور «ثوب النوم» لرودان، المنحوتة التي أثارت فضيحة في وقتها، أي نهاية القرن التاسع عشر، إذ يُظهر ثوب الأديب بلزاك فارغاً، من دون شخص بالزاك نفسه، وكأنه مجرد شبح.
ومن «الشبح»، يأخذنا المعرض إلى أشكال أخَّاذة لنساء يظهرن من مزهريات عتيقة، تبدو وكأنها منحوتات راقصة. وتنتهي تلك التركيبة العجيبة بعمل نحتي فريد لبابلو بيكاسو، أنجزه يافعاً عام 1914، بعنوان «كأس شراب الأفسنتين». ففي شبابه، جرّب الرسام الإسباني الشهير فن النحت أيضاً، وأبلى فيه بلاء حسناً. ومن أعماله المعروضة الأخرى في «القصر الكبير»، يقف الزائر سعيداً متمتعاً وهو يتفرج على منحوتة «الرجل الذي يحمل خروفاً».
ومن بين المعروضات الكثيرة التي تحيل هذا المعرض حَدَث فني نادر، فلا بد من الإشارة إلى عمل مذهل يظهر حاويات سفن جرى تحويرها بحيث تشبه تماثيل «عذارى كارواي» الإغريقية القديمة. وهذا العمل من إبداع الفنان والمصور البلجيكي ديدييه فيرميرين، أنجزه عام 1997. وإلى جانب المنحوتات، حين يشبع المتفرج من الحجر والرخام والبرونز المصبوب، يضم المعرض رسوماً بالأبيض والأسود لرودان وغيره من زملائه وتلاميذه. ويبدو أن رسومه الحسيّة تلك، التي يتّسم بعضها بلمسات إيروتيكية، ألهمت رسامين من أمثال ماتيس ودي شيل وبول كلي وغيرهم.