أفلاطون وجمهوريته «الفاضلة» بلا شعراء!

كان يرى أن هناك خصومة قديمة بين الفلسفة والشعر

أفلاطون وجمهوريته «الفاضلة» بلا شعراء!
TT

أفلاطون وجمهوريته «الفاضلة» بلا شعراء!

أفلاطون وجمهوريته «الفاضلة» بلا شعراء!

قبل الحديث عن جمهورية أفلاطون لا بد من الإشارة إلى إشكالية متعلقة بأفلاطون نفسه. لا أعني هنا مسألة حقيقة وجوده التاريخي، بل قضية العلاقة بينه وبين سقراط ونسبة الأطروحات لأي منهما. واقعيا، سقراط لم يكتب شيئا، بينما كل ما كتبه أفلاطون نسبه إلى سقراط. أي أننا أمام أفلاطون الذي كتب كل شيء ثم نسبه لسقراط. لا يوجد شيء منسوب مباشرة لأفلاطون، وكل ما ينسب لسقراط لم يكتبه بنفسه. للخروج من هذه الإشكالية يرى بعض الباحثين أنه يمكن التمييز بين أفلاطون وسقراط في كتابات أفلاطون كالتالي: سقراط هو المحاور المتسائل الشكاك، بينما أفلاطون هو الذي يقدم أطروحات إيجابية. يحضر سقراط أكثر في المحاورات الأولى، مثل محاورة بروتاغوراس، بينما يحضر أفلاطون في المحاورات الأخيرة كالسفسطائي والسياسي والقوانين. في المقابل يحضر الاثنان في الأعمال المتوسطة، ومنها «الجمهورية» العمل الذي يهمنا أكثر في هذه المحطة. عادة ما ينسب العمل البنائي في الجمهورية لأفلاطون، وهذا ما أتبناه هنا ليكون الموقف من الشعراء المذكور على لسان سقراط في «الجمهورية» هو موقف أفلاطون.
في بداية «الجمهورية» يرى أفلاطون أن هناك حربا وخصومة قديمة بين الشعر والفلسفة، وفي بنائه لـ«الجمهورية» تستمر هذه الخصومة ويتم تعزيزها. تبدأ مبررات هذه الخصومة مبكرا في بدايات «الجمهورية» حين يتحدث أفلاطون عن الشعراء وحديثهم الغامض. حين سأل سيموندس عن العدالة ولم يكن جوابه واضحا وصفه أفلاطون بأنه يتحدث كما يتحدث الشعراء. في الكتاب الثاني من «الجمهورية» يبدأ أفلاطون في رسم جمهوريته الفاضلة، وهي بالمناسبة جمهورية غير مثالية، بمعنى أنه لا يتطلب بناؤها إدراج أي طبيعة مثالية للبشر بقدر ما تقوم على هندسة اجتماعية واقعية تتعامل مع البشر تبعا لخصائصهم الطبيعية. من منظور عام لا يوجد مانع ميتافيزيقي أو وجودي لتحقيق تلك المدينة. في هذا الكتاب يدخل الشعر كجزء من التربية الضرورية للأطفال. الشعر هنا يقدم المعاني الفاضلة الضرورية للجمهورية في المستقبل. لذا فالشعر هنا يتم الإشراف عليه من المربين والساسة للتأكد من عدم تمريره لقيم ومعان تفسد تربية الأطفال. ينتقد أفلاطون الشعر المتداول في أيامه وما يحتويه من معان فاسدة، ويطالبه برميه خارج أسوار الجمهورية الفاضلة. يراقب أفلاطون الشعر هنا وفقا لمعايير أخلاقية وإبستمولوجية. أخلاقيا الشعر ذو المعاني الفاسدة يجب استبعاده، وإبستمولوجيا الشعر الذي يفسد التفكير بالعروض الغامضة والمشوّشة يجب استبعاده أيضا.
في الكتاب الثالث يستمر الشعراء في الظهور كخصوم لمشروع الجمهورية العادلة. الجمهورية يفترض أن تبنى على العقلانية، لكن الشعراء يمنعون الناس من إدراك ذلك بتشويش أذهانهم بقصصهم ومعانيهم غير الصحيحة. على سبيل المثال الصور التي يقدمها الشعراء للآلهة الإغريقية متضاربة وغير معقولة، مما يجعل الناس يفقدون الثقة في وجود أي مشاريع عقلانية ومنتظمة. هذا لب اعتراضات أفلاطون على مضمون الشعر، ولكن ليس هذا كل شيء، فأفلاطون لديه اعتراضات على أسلوب الشعر ذاته ولذا يميز بين ثلاثة أنواع: المحاكاة الخالصة كما في التراجيديا والكوميديا، السرد الخالص كما في التسابيح الدينية، وثالثا النوع الذي يجمع المحاكاة بالسرد كما في الملاحم. بالنسبة للنوع الأول فيمكن تمريره في التعليم بشرط أن تكون المحاكاة لشخصيات فاضلة وعاقلة. بينما يطال المنع النوعين الآخرين رغم ما فيهما من الترفيه بسبب التشويش الذي يحدثونه بين الحقيقة والخيال.
في الكتاب الرابع يبدو الشعراء كأعداء ومنافسين سياسيين باعتبار أنهم يعززون الاستبداد ويعاملون المستبدين كالآلهة. الشعر هنا هو أداة لتخدير الناس وتشويش وعيهم، وبالتالي فهو خصم لمشروع الجمهورية السياسي. رغم إعجاب وتقدير أفلاطون لهومر شاعر اليونان العظيم فإن المنع يطال أعماله أيضا. الشاعر هنا في أحسن أحواله يبعد عن الحقيقة ثلاث خطوات. الشاعر يتحدث عن الموجودات التي هي في الأخير صور للحقيقة. الشاعر هنا مثل الرسّام الذي ينتج نسخة أبعد عن الأصل. الصورة في ذهن أفلاطون كالتالي: حقيقة الأشياء في المثل، وتحققات الأشياء ماديا هي صورة لتلك المثل. الشاعر كما الرسام، يتواصل مع الصور لينتج صورة جديدة أبعد بثلاث خطوات عن الأصل.
أسئلة كثيرة تثيرها مواقف أفلاطون من الشعر والشعراء. من هذه التساؤلات: هل هذا الموقف مرتبط بطبيعة الشعر الإغريقي في عصر أفلاطون وبالتالي تكون مواقف أفلاطون موجهة لهذا النوع بالذات، أم أن هذا الموقف من جوهر الشعر وطبيعته التي لا يسمى شعرا إلا بها؟ تساؤل مهم آخر وهو: هل كل النقد الأفلاطوني للشعر مرتبط بمشروع الجمهورية الفاضلة وبنائها الفلسفي كما يجادل غادامير على سبيل المثال، أم أن المجادلة الأفلاطونية ميتافيزيقية ويمكن تأسيسها خارج مشروع الدولة الجديدة؟ هذه أسئلة مهمة ليس هنا المجال للخوض فيها بالتفصيل، لكن ما أحب أن أختم به هذا المقال هو صورة الجمهورية في ذهن أفلاطون المشابهة لصورة المدرسة التقليدية كما نفهمها اليوم. أي المكان الذي يعمل كآلة ضخمة لإنتاج كائنات بشرية بمواصفات محددة.
أفلاطون زعم أنه عرف الحقيقة وأبصرها بعد الخروج من كهف الأوهام والتعلق بظلال الأشياء. مهمته الآن هي العودة للكهف لإنقاذ أسرى العادة والتقليد. الجمهورية بكل ما فيها من تنظيمات وقوانين صارمة هي آلة نقل هؤلاء الناس من الظلمات إلى النور. مشروع أفلاطون بدأ من هذه المقدمة، وكان من الطبيعي أن ينتهي إلى نتائج حجب ورقابة على ساكني الجمهورية، كما تمارس المدرسة الحجب والرقابة على الأطفال في المدارس. سكان جمهورية أفلاطون يشبهون أطفال المدارس. المدارس تراقب وتصفي كل المعارف قبل أن تصل للأطفال، وكذلك كانت مهمة جمهورية أفلاطون. الشعراء خطر، والناس عاجزون عن التعامل معه، لذا كان الحل هو الحجب والطرد والإبعاد للشعر والشعراء، وقبل ذلك لإمكانية تعامل الناس بأنفسهم مع الشعر.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.