عبد الحليم حافظ... لا يزال رمز الرومانسية بعد 40 عاماً على رحيله

شعبية جماهيرية جارفة لم تتغير بمرور السنين، تحمل حباً وتقديراً لفنان مصري عظيم خلق في قلوب الجماهير العربية مكانة لم ينافسه عليها أحد... إنه العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، الذي رحل عن عالمنا منذ أربعين عاماً في 30 مارس (آذار) عام 1977.
في شهر مارس من كل عام يشهد حي الزمالك توافد محبي العندليب عبد الحليم حافظ من مختلف الأطياف والأعمار، بعضهم يحرص على التقاط الصور داخل أرجاء منزله ومع مقتنياته أو كتابة كلمات للذكرى على جدران العقار الذي شهد أنفاس العندليب. فيما يتوجه آخرون وخاصة من أصدقائه إلى قبره يترحمون عليه وعلى زمنه وفنه ويقرأون الفاتحة، ويودعونه الزهور والخطابات.
يقول ابن شقيق العندليب د. محمد شبانة، الأستاذ بأكاديمية الفنون: «تحرص الأسرة على استقبال عشاق العندليب كما اعتادوا. تلك اللحظات الغالية تشعرنا بوجوده بيننا كما تسعد محبيه جيلاً بعد جيل».
وتحتفل اليوم الخميس جميع الوسائل الإعلامية المصرية والعربية بذكرى العندليب بعرض أفلامه وباقات من أغنياته الخالدة. فقد خصصت قنوات الأفلام يوماً لأفلامه، بينما تبث جميع القنوات أغنياته. أما الإذاعة المصرية بقنواتها المختلفة فسوف تبث برامج تستضيف المقربين من العندليب لسرد ذكرياتهم، ومنهم: هاني مهنا وسمير صبري ومجدي الحسيني، والدكتور محمد شبانة ومفيد فوزي. وخصصت إذاعة صوت العرب برنامجاً بعنوان «حليم والوطن الأكبر»، وفقرة حكاية «حب مع العندليب» التي ستضم حوارات مع المستمعين حول أغنيات لعبد الحليم تمثل لهم ذكرى وما زالت تعيش في وجدانهم. كما تقدم إذاعة البرنامج الثقافي برنامج «مذهب وكوبليه» حول التركيبة الموسيقية في ألحان أغنيات عبد الحليم. وأقامت دار الأوبرا المصرية حفلاً تكرم فيه جميع أصدقاء العندليب، وقدمت حفلات على مدار الشهر خاصة بأغانيه، بينما تحتفل إذاعة البرنامج الموسيقي بذكرى العندليب على مدار يومين، حيث تبث باقة من أروع ما تغنى به العندليب. كما أصدرت كل المجلات الفنية أعداداً تذكارية خاصة عن العندليب.
عند باعة الجرائد وسط القاهرة ستجد شاباً عشرينيا وثلاثينيا يلتف حول المجلات ينتقي منها التي تكشف أسراراً جديدة عن حياته أو علاقاته الغرامية وغيرها من العناوين الجذابة. عم محمد رجل ستيني مثقف يقف بالجرائد في موقع شهير أمام الجامعة الأميركية بالقاهرة يشير إلى أن أعداد مجلات فنية نفدت فور نزولها الأسواق بسبب إقبال الشباب على التعرف على حياة وسيرة العندليب. وفي أثناء الحديث عن العندليب شاركنا الحديث شاب في المرحلة الجامعية يقول بتباهٍ وفخر شديد: «لقد جمعت كل الأعداد التذكارية للعندليب وقصاصات الجرائد التي تتحدث عن حياته، وكل عام في شهر مارس أقتني كل الأعداد والجرائد لجمع المزيد من القصص عنه. أعتقد أنه أسطورة الغناء الرومانسي ولن ينافسه أحد». وبجوار المجلات يقبل البعض على شراء كتاب «لغز مقتل السندريلا» الذي نشر مؤخراً ويضم وثائق عن قصة زواج العندليب والسندريلا التي لا تزال محل جدال بين عائلة السندريلا والعندليب، وتثير محبي النجمين الراحلين.
كانت وما زالت علاقات عبد الحليم حافظ العاطفية مثارا للجدل، رغم أنه كان محاطاً بالمعجبات في كل مكان، وذكر ذلك في مذكراته حيث كن يطاردنه كل ليلة عقب الحفلات في الإسكندرية على الشاطئ وغيرها من المواقف لكنه كان دوماً يقول لهن إن قلبه ملك حبه الأول وهو الفن. وعقب وفاته انهارت الفتيات وبعضهن أقبل على الانتحار، وهناك من انتحرن بالفعل، وخرج الملايين في جنازته في مشهد مهيب.
ولد العندليب في قرية «الحلوات» مركز هيها بمحافظة الشرقية يوم 21 يونيو (حزيران) عام 1930. عاش حياة صعبة منذ طفولته، حيث ولد يتيم الأم بعد أن فاضت روحها عقب ولادته، وتوفى والده عقب أسبوعين من وفاة والدته، فبات يتيماً، وتولت خالته تربيته ورعايته. في مذكراته التي نشرتها مجلة «الكواكب» في عددها الصادر في أغسطس (آب) عام 1957، وأعادت نشرها دار الهلال في كتالوج مصور أصدره مركز الهلال لتراث الصحافي، كتب العندليب: «كنت محل عجب أسرتنا ودهشتها وأنا في الثانية من عمري، كنت أتوقف عن البكاء عندما يحمل (الراديو) صوت الموسيقار عبد الوهاب، بل أكثر من هذا كنت أحاول دائماً أن أنطق كلمات الأغاني التي أسمعها منه عندما بدأت أنمو وأقذف بالكلمات مختلطة غير واضحة».
ويسرد العندليب في مذكراته التي نشرت على 9 حلقات كيف كان أصغر طلاب معهد الموسيقى حيث انضم إليه بعد المرحلة الابتدائية، حيث إنه اختار دراسة الموسيقى كشقيقه الأكبر إسماعيل شبانة. تم تعيين العندليب مدرساً للموسيقى في مدرسة للبنات في مدينة طنطا بعد تخرجه في معهد الفنون للموسيقى المسرحية، لكن القاهرة بزخمها الفني كانت دوماً حلمه الذهبي... وشق طريقة إلى أن استطاع أن يغني أمام لجنة الاستماع بالإذاعة المصرية، التي كانت تضم آنذاك أم كلثوم وعبد الوهاب والقصبجي، والإذاعي حافظ عبد الوهاب الذي كان السبب في أن يغير العندليب اسمه من عبد الحليم شبانة إلى عبد الحليم حافظ.
قد تجهل الأجيال الجديدة ما قدمه عبد الحليم حافظ للموسيقى العربية، حيث قدم لوناً غنائياً أسهم في تطوير الأغنية العربية التي كانت ذات طابع تراثي يتمثل في الأدوار والتواشيح والموال والقصائد والطقاطيق. كان النقاد يقولون عنه إنه أضاف للغناء العربي لهجة طربية مبتكرة.
قال عنه الناقد الموسيقي الراحل كمال النجمي: «لقد أنجز الموجي وعبد الحليم معا عملا كبيرا في الغناء العربي، يتمثل في هذه (اللهجة الرابعة) التي أخذت مكانها، إلى جانب لهجة أم كلثوم وعبد الوهاب والكلاسيكيين الأوائل، وهي اللهجات الثلاث الرئيسية في الغناء العربي المعاصر».
شق العندليب طريقه الفني في أوائل الخمسينات بعد أن تغنى بلحن محمد الموجي «صافيني مرة» الذي رفض أن يغنّيه المطرب عبد الغني السيد، فتغنى به العندليب في حفل الإذاعة المصرية بحديقة الأندلس، فبزغ نجمه وظل متوجهاً طوال 25 سنة؛ هي عمره الفني أثناء حياته، إلا أن ذلك النجم لم يفقد بريقه بل يزداد توجهاً عبر السنين، فلا يزال متوجاً كملك الأغنية الرومانسية ورمز الأغنية القومية والعروبية. كان أول أفلامه «لحن الوفاء» عام 1955، ومن أشهر أفلامه «الوسادة الخالية»، «شارع الحب»، «حكاية حب»، «البنات والصيف»، «يوم من عمري» و«أبي فوق الشجرة».
الفنان والإعلامي القدير سمير صبري ارتبط بعلاقة صداقة شخصية مع العندليب منذ أن كان طفلاً يقطن في عقار عبد الحليم حافظ نفسه، وله ذكريات فريدة معه، حيث يروي لـ«الشرق الأوسط» بعضاً منها ويقول: «حينما انتقلت مع والدي من الإسكندرية إلى القاهرة كان عمري 9 سنوات كنا نقطن أسفل الطابق الذي يقطنه عبد الحليم في عمارة الزمالك، وكنت يومياً أنتظره في البلكونة (الشرفة) حتى أراه وهو يدخل العمارة ليستقل المصعد، كنت أنزل فوراً حتى أمر أمامه على السلم وأتحدث معه، وذات يوم قررت أن ألفت نظره، فتحدثت معه بالإنجليزية وأقنعته أنني أميركي الجنسية واسمي بيتر، وظللنا سنة على هذا الحال، وطلبت منه حضور تصوير أحد أفلامه. وقد صدق ذلك لطلاقتي في الإنجليزية. عندها «زوغت» وهربت من المدرسة وحضرت تصوير الفيلم، وكنت آنذاك في (فيكتوريا كوليدج القاهرة) وأقوم بالتمثيل في مسرحيات المدرسة. ومن بعدها ظهرت معه أثناء تصوير أغنية (بحلم بيك)، وامتدت صداقتنا بعد ذلك طويلاً».
ويقول «صبري» بحنين كبير: «لم يكن مغروراً بل كان دائماً مؤمناً بأن مصر سيتوالد فيها أعظم المطربين، كان نموذجاً للفنان الدؤوب ورغم مرضه واللحظات الصعبة والشائعات التي كانت تطارده في مكان، فكان يصر على أن يكون الأفضل ويقدم لفنه كل ما في وسعه».
وفي إحدى حلقات برنامج الإعلامي سمير صبري «النادي الدولي» كشف العندليب حكاية قصيدة «قارئة الفنجان» وروى: «كانت القصيدة معي منذ 3 سنوات، لكن الموجي أراد أن يغير بعض الكلمات وإضافة أخرى لتساعده في اللحن، فكنت أتصل بالأستاذ نزار في جميع الأماكن التي كان يمكن أن يتواجد فيها في بيروت أو دبي أو دمشق، ظللت أسبوعاً أتحدث إليه ساعتين لتعديل القصيدة، فمثلاً كلمات: «من مات على دين المحبوب» تم تغييرها لتصبح: «من مات فداء للمحبوب».
يستمر الحوار الممتع بين صبري وعبد الحليم ليقول له العندليب: «أول مواجهة مع الجمهور المصري كانت في حفل أغسطس عام 1952، وكانت تحييها تحية كاريوكا وشهرزاد، تعاقد على أجر جنيهاً واحداً فقط في الليلة من غير أجر الموسيقيين، لم نكن نطمع في أكثر من جنيه لكي نعيش في الإسكندرية في ذاك الوقت». ويضيف ضاحكاً: «وقت أن غنيت (صافيني مرة) طالبني الجمهور بالنزول من على المسرح، وأن أكف عن غناء هذا اللون، وأن أغني أغاني الأستاذ عبد الوهاب، وهو ما رفضته لأنني كنت مؤمنا بأهمية اللون الغنائي الذي أقدمه... كافحت ولم تخفت إرادتي». ويضيف: «السعادة الحقيقية بالنسبة لي هي أن أسعد الآخرين، ولذلك أنا أتفانى في غنائي وعملي كله، ولا أحب أبداً أن يخرج عملي (نصف نصف)، لأنني أشعر بأنني أغش الناس».
وعن استعداداته لغناء قارئة الفنجان آخر أغنياته في حفل الربيع، قال: «البروفات قد تصل لنحو 30 بروفة، كل أغنية نعمل لها بروفة في المرة الواحدة 3 ساعات. معاناة أول حفلة هي المعاناة نفسها كل حفلة، أخاف ألا تعجب الأغنية الناس، أشعر بسعادة الناس أثناء الحفلة بداية من المقدمة».
وفي حلقة من برنامج «نجمك المفضل» مع المذيعة الراحلة ليلى رستم، أعدها الإعلامي القدير مفيد فوزي تم تسجيلها عقب عودة العندليب من رحلة علاج دامت لستة أشهر، وكان عمره الفني 13 عاماً، سأله أحد جمهور الاستديو عن اللون الطربي الذي يغنيه وطموحه للعالمية؛ فرد العندليب: «أي فنان مطرب أو ملحن أو كاتب يعبر عن الناس والشعب، وكل ما يقدمه الفنان يمثل انعكاسا للتطور في مجتمعه ويعطي ذلك عبر فنه»، فقد كان يؤمن بتطور الأغنية لكي تضارب العالمية وتنافسها وهو ما تحقق بعد وفاته بعده سنوات، ففي نهاية التسعينات قدم مطرب البوب الأميركي جي زي أغنية Big Pimpin بالتيمة الغنائية نفسها التي تغنى بها العندليب في أغنية «خسارة خسارة فراقك يا جارة»، بينما يغني آلاف المطربين حول العالم العربي أغاني العندليب لتكون مفتاحاً لقلوب الجماهير.
توفي حليم عن 47 عاماً، بعد صراع طويل مع مرض البلهارسيا الذي ظل يتفاقم معه حتى أصابه بتليف كبدي، ولم يكن هناك علاج لهذا المرض في مصر. أجرى خلال حياته 61 عملية جراحية، لكنه كان متشبثا بالحياة والبهجة التي كان يبثها لجمهوره. قدم تراثا قوامه 230 أغنية عاطفية ووطنية وابتهالات دينية، فمن منا لا يعشق أداء العندليب في الأغاني الوطنية أو يطرب حينما تحظى بنشوة النجاح والتفوق فيتغني بـ«الناجح يرفع إيده»، لا تزال أغاني العندليب هي إكسير الحياة في قلوب العشاق والمحبين حول العالم العربي.