هل سيعوض مجتمع الشبكات المجتمع الصناعي والزراعي؟

يمحو الاعتبارات الأخلاقية والدينية واللغوية والتمايزات العصبية والقبلية

مانويل كاستلز
مانويل كاستلز
TT

هل سيعوض مجتمع الشبكات المجتمع الصناعي والزراعي؟

مانويل كاستلز
مانويل كاستلز

ولد السوسيولوجي الإنساني مانويل كاستلز، سنة 1942 بهيلين (إسبانيا). وهو أستاذ علم الاجتماع ومخطط حضري وجهوي منذ 1979 بجامعة كاليفورنيا بيركلي في الولايات المتحدة. حصل على جائزة هولبرت سنة 2012، وجائزة بالزان سنة 2013. غادر إسبانيا في عقده الثاني، بسبب نضاله ضد فاشية فرنكو. عن ذلك قال: «كنت في الثامنة عشرة من عمري. كان توقي للحرية يصطدم بالجدران التي أقامها الديكتاتور حول الحياة. حياتي وحياة الآخرين. وكتبت مقالا في مجلة مدرسة الحقوق وأغلقت المجلة».
درس السوسيولوجيا الحضرية، حيث صرح في حواره مع سيرج ليلوش بمجلة العلوم الإنسانية الفرنسية، عدد 29 يونيو (حزيران) 2000 (والمخصص للوجوه الجديدة للرأسمالية): «لم أغادر مجال تخصصي حتى عندما رحلت إلى بيركلي: أي السوسيولوجيا الحضرية التي أمارسها دوماً».
بلور كاستلز رؤية مهمة في بنيوية الأشكال الحضرية، تجد أثرها البارز في مختلف كتاباته الكثيرة التي نذكر منها: «المسألة الحضرية» (1972)، و«النضالات الحضرية والسلطة السياسية» (1975)، و«المسألة الحضرية: المقاربة الماركسية» (1977)، و«كائن الاتصال: الجزء الأول مجتمع الاتصال» (1998)، والجزء الثاني «سُلطة الهوية» (1999)، والجزء الثالث «نهاية الألفية» (1999). وفي سنة 2001 أصدر عمله القيم: في أي عالم نعيش؟ الشغل، والعائلة والرابطة الاجتماعية في عصر الاتصال بالاشتراك مع مارتن كارنوي وبول شيملا، وفي 2009 كتب سلطة الاتصال.
بعد مغادرته إسبانيا، درس ما بين 1967 و1979 بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس. ولأن عمه يشغل منصب رقيب في وسائل الإعلام، فقد استفاد منه بعضا من سلوك وفطنة وحدس الرقابة، حيث يقول: «ما استشعرته، في ذلك الوقت، وأؤمن به الآن، هو أن السلطة تقوم على السيطرة على الاتصال والإعلام، سواء كانت السلطة العملاقة للدولة وشركات وسائل الإعلام الكبرى، أو السلطة الصغيرة للمنظمات من كل نوع. ولهذا كان كفاحي للاتصال الحر، ومدونتي البدائية، لذاك العصر، ذات الحبر الأرجواني، تحديا بالفعل. وكان الفاشيون، من وجهة نظرهم، على حق في أن يُلقوا القبض علينا ويخرسوا أصواتنا. فالسلطة أكبر من كونها اتصال، والاتصال أكبر من كونه سلطة. لكن السلطة تعتمد على التحكم في الاتصال، لأن السلطة المضادة تعتمد على خرق هذه السيطرة». (سلطة الاتصال: 27).
عُد كتابه «سلطة الاتصال»، أهم ما يُلخص فكره السوسيولوجي والسياسي معاً، حيث عالج فيه مجموع القضايا المتصلة بالإعلام والسياسة والسلطة، مستفيدا من نتائج العلوم المعاصرة ومن تحليل فوكو للسلطة، لينحت مفهوم «مجتمع الشبكات» الذي اعتبره كثيرا من المهتمين بفكره، نظرية معاصرة تستحق كامل الاهتمام لارتباطها بالتغيرات الحاصلة في عالم اليوم، وعلى الرغم من أن مجموع الشواهد والأمثلة والوقائع، التي ارتكز عليها تحليله، تمحورت حول المجتمع الأميركي، فإن النتائج التي توصل إليها بخصوص السلطة نجدها في كل رقعة من عالمنا المعاصر.
نعيش فعلا في مجتمع شبكي لم تعد فيه وسائل التنشئة تلعب أدوارا مهمة، حيث تحول دور الأسرة والمدرسة إلى مستويات أدنى مما كان عليه قبل ثلاثة عقود. في هذا يقول: «يمثل مجتمع الشبكات مجتمعا يقوم هيكله الاجتماعي حول شبكات تنشطها تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي تعالج رقميا وقائمة على تقنيات الإلكترونيات الدقيقة. والشبكات الرقمية عالمية، لأنها قادرة على إعادة تشكيل نفسها وفق توجيه مبرمجيها، وتتجاوز الحدود المؤسسية والحدودية عبر شبكات كومبيوتر متصلة عن بعد» (...)، لذا يقوم بـ«تحليل مجتمع الشبكات:
* أولاً، باعتباره بناءً معمارياً عالمياً مكوناً من شبكات تُعيدُ تشكيل نفسها، ويبرمجها ويعيد برمجتها أصحاب النُفوذ في كل نطاق.
* ثانياً، باعتباره نتيجة التفاعل بين أنماط الهندسة والجغرافيا المختلفة للشبكات التي تتضمن الأنشطة المحورية، أي الأنشطة التي تشكل الحياة والعمل في المجتمع.
* ثالثاً، باعتباره نتيجة لتفاعل من المرتبة الثانية بين الشبكات المُهيمنة تلك، وبين هندسة وجغرافيا عدم اتصال الصور الاجتماعية التي تركت خارج منطق إقامة شبكات العولمة». (المصدر نفسه 57).
مجتمع الشبكات إذن، هو بناء اجتماعي محدد، أي ذاك البناء الاجتماعي الذي يميز المجتمع مع بداية الألفية الثالثة، بناءٌ أقيم حول شبكات الاتصال الرقمية، لأن علاقات السُلطة تغيرت بشكل حاسم مع السياق التكنولوجي والتنظيمي الجديد، الناتج عن ظهور شبكات الاتصال الرقمية العالمية، باعتبارها النظام الأساسي لمعالجة الرموز في عصرنا.
يتساءل كاستلز في كتابه «سلطة الاتصال»: من يبني علاقات السلطة ويمارسها من خلال إدارة عمليات الاتصال، ولماذا؟ وكيف؟ كيف يمكن لعلاقات السلطة هذه أن تتغير من خلال أطراف اجتماعية تستهدف التغيير الاجتماعي عبر التأثير على عقول الجماهير؟ وذلك ليقارب سؤال الاتصال والسلطة السياسية وواقع الحركات الاجتماعية مميزا بين شبكتين أساسيتين تتحكمان في عملية الاتصال ككل: شبكة وسائل الإعلام، وشبكة الإنترنت، وذلك لفحص فرضيته الأساس، والمتمثلة في أن الصيغة الأكثر أصولية للسلطة، تكمن في القدرة على تشكيل العقل البشري، لأن الطريقة التي نشعر ونفكر بها، تحدد الطريقة التي نتصرف بها فردياً وجماعياً.
خصص كاستلز الفصول الثلاثة الأولى من كتابه لاستقصاء وضع السلطة في مجتمع الشبكات، وطبيعة الاتصال في العصر الرقمي، لإبراز العلاقة بين شبكات العقل والسلطة. وقد حدد معنى السلطة بالاعتماد على بعض المساهمات الكلاسيكية في العلوم الاجتماعية، كصندوق أدوات لفهم الواقع الاجتماعي، فإذا كان المجتمع الصناعي قد ارتبط بالعصر الصناعي، فإن مجتمع الشبكات يرتبط بعصر المعلومات. وشرع في تحليل الاتصال، وتحديدا الاتصال الجماهيري في زمن العولمة والرقمنة، وما صاحبه من تحول في جوهر الشخص الذي تحول من متلق إلى مرسل، ليكشف عن الروابط بين النشاط الاقتصادي ووسائل الإعلام والسياسة.
إذا كانت السلطة تسير من خلال العمل على العقل البشري بوسائل توصيل الرسائل، فنحن في حاجة إلى فهم كيف يعالج العقل البشري هذه الرسائل، وكيف تترجم هذه المعالجة في المجال السياسي، مركزا تحليله على ما وصلت إليه مدرسة الذكاء العاطفي والأعمال الأخرى للاتصال السياسي، والتي توفر جسرا بين الهيكلة الاجتماعية والمعالجة الفردية لعلاقات السلطة، إلى جانب الاكتشافات الجديدة لعلم الأعضاء وعلم الإدراك المعرفي.
يستشهد بالتضليل الإعلامي الذي مارسته إدارة الرئيس بوش على الجمهور الأميركي، فيما يتعلق بحرب العراق لبيان العلاقات الخاصة بين الانفعال والإدراك المعرفي والسياسة. هكذا إذن، يتطلب فهم بناء علاقات السُلطة خلال الاتصال في مجتمع الشبكات إدماج ثلاثة عناصر:
* المحددات الهيكلية للسلطة السياسية والاجتماعية في مجتمع الشبكات في ظل العولمة.
* المحددات الهيكلية لعملية الاتصال الجماهيري في ظل الظروف التكنولوجية والثقافية في عصرنا.
• المعالجة المعرفية للإشارات التي يحملها نظام الاتصال إلى العقل البشري، لأنها ترتبط بالممارسة الاجتماعية ذات الصلة السياسية.
ويرصد في الفصل الرابع كيف أنه في ظل مجتمعات الشبكات تكون السياسة في الأساس سياسة الإعلام، وعلى الأخص سياسة الفضائح في زمن أزمة المشروعية السياسية التي تتحدى معنى الديمقراطية في معظم البلدان. وفي الفصل الخامس، سيكشف عن كيفية عمل الحركات الاجتماعية وعوامل التغيير السياسي من خلال إعادة برمجة شبكات الاتصال للتأثير وإيصال صوتها. فالإعلام السياسي والحركات الاجتماعية، تستعمل كلا النمطين من الشبكات: شبكات وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت، من منطلق أن الحركات الاجتماعية كلما انخرطت في وسائل الاتصال الجماهيري عبر شبكة الإنترنت كانت حظوظها أوفر في تحقيق التغيير الاجتماعي.
وانتقل إلى إعادة برمجة شبكات الاتصال والحركات الاجتماعية والسياسة المتمردة والفضاء العمومي الجديد، ليشدد على دور وسائل الاتصال الجديدة في ظهور هذا الفضاء الذي يتم فيه التحكم في الرأي العام وفي صناعة القرار السياسي، عن طريق الشبكات التي تنامت مع الشبكات الاجتماعية والإنترنت، على الرغم مما تحمله من خطورة على السيادة الوطنية، لأنه مع مجتمع الشبكات، ستنمحي الاعتبارات الأخلاقية والدينية واللغوية، والتمايزات العصبية والقبلية، لصالح ثقافة جديدة قوامها الارتباط المباشر بشبكات افتراضية غير مستقلة عن الرؤى الآيديولوجية، لذا نتساءل: هل سيعوض حقا مجتمع الشبكات العالمي المجتمع الصناعي والزراعي؟



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.