الأندلس... جزيرة أوروبا العربية

مناطق التقاء شكلت لحظات تماس ثقافية وتاريخية

قصر الحمراء في غرناطة  -  غلاف «إسبانيا في تاريخها»  -  غلاف «انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»
قصر الحمراء في غرناطة - غلاف «إسبانيا في تاريخها» - غلاف «انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»
TT

الأندلس... جزيرة أوروبا العربية

قصر الحمراء في غرناطة  -  غلاف «إسبانيا في تاريخها»  -  غلاف «انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»
قصر الحمراء في غرناطة - غلاف «إسبانيا في تاريخها» - غلاف «انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»

يقول المؤرخ الإسباني أميريكو كاسترو في كتابه «إسبانيا في تاريخها»: «لو كان جبل طارق عند مدينة مارسيليا لكانت فرنسا قد عاشت أحداثاً تاريخية مختلفة». وكم هي كبيرة تلك الـ«لو»، لأنها هنا لا تفتح سوى التاريخ، تفتحه على احتمالات من الوعي المعرفي لتغيرات حضارية، بعضها تحقق والبعض الآخر ظل في ضمير الممكن. الـ«لو» التاريخية «لو» حاسمة وخطيرة في الوقت نفسه. وهي في الوقت نفسه «لو» لا بد منها لقراءة التاريخ، قد يراها البعض ملتوية وبغيضة، في حين يراها البعض الآخر غنية بمعرفة الواقع بقدر ما هي زاخرة باحتمالات لم تقع «فمن دون (لو) وما يشبهها لم يكن للعلوم أن تتطور أو للكشوفات والاختراعات أن تحدث». المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد غيبون وظف تلك الـ«لو» حين نظر فيما نسميه في التاريخ العربي للأندلس معركة بلاط الشهداء ويسميه الأوروبيون معركة بواتييه ومعركة تورز، فقال في كتابه الشهير: «انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» إنه لو أن نتيجة تلك المعركة جاءت مختلفة «فلربما كانت تفاسير القرآن الآن تدرّس في مدارس أكسفورد، لتثبت المنابر لشعب مختن قدسية وحقيقة ما أنزل على محمد».
هذا النظر إلى تاريخ الأندلس من الزاوية الأوروبية يقابله النظر إلى تاريخ الأندلس من الزاوية العربية. يولّد الأول احتمالات لتاريخ أوروبا، بينما يكاد يقف الثاني حيث وقفت الدول العربية الإسلامية في توسعها الأوروبي. ينظر الأول فيما نال أوروبا من علاقتها بالعرب، ويكتفي الثاني بما أنتجه العرب لأنفسهم، أي بدراسة التاريخ والأدب الأندلسيين بوصفهما جزءاً من تاريخ العرب وأدبهم. ينتُج من الأول ما يمكن أن نسميه جزيرة أوروبا العربية، ومن الثاني جزيرة العرب الأوروبية. ويكمن الفرق في أن الأولى جزء من أوروبا، من ثقافتها، أنها مجموعة من النتائج أو العوامل أو الأحداث التي غيرت وجه الحضارة الأوروبية، في حين أن الثانية امتداد للأدب والثقافة العربية في أرض غريبة ليس إلا. ومع أن كلا الجانبين مهتم بما في الجانب الآخر فإن التركيز يقع عادة على أحدهما وعلى حساب الثاني.
في الملاحظات التالية سأقترح بعض مناطق الالتقاء منظوراً إليها من الجانب الأوروبي وليس العربي سعياً لتوسع المنطقة الوسطى من الالتقاء الحضاري، المنطقة التي يهتم بها المقارنون عادة، وإن اتسمت بالرمادي، واتشحت بالجدل والخلاف.
المناطق التي أشير إليها يمكن اختصارها فيما أسميه لحظات تماس ثقافية تاريخية، بما يحمله التماس أحياناً من توتر وقلق، فليس أصعب من أن تقول ثقافة لأخرى: لولا أنني أعطيتكم كذا وكذا لما وجدتم في ثقافتكم كيت وكيت، أو لو أنني لم آت إلى دياركم لما عرفتم ما عرفتموه. إنه ثقل المدينية الذي تعرفه الثقافة العربية منذ ما يقارب القرنين في علاقتها بأوروبا، مثلما عرفته ثقافات أخرى في فترات مختلفة من تاريخها: كوريا في علاقتها باليابان، واليابان في علاقتها بالصين وأوروبا في علاقتها بالحضارة العربية الإسلامية. المؤرخ الإسباني أميريكو كاسترو يقارن علاقة الإسبان الأوروبيين بالإرث الأندلسي العربي من ناحية بعلاقة الرومان بالإرث اليوناني من ناحية أخرى، وذلك ضمن حديثه عما حدث بعد ما يعرف بالاسترداد (الريكونكويستا) حين كان هدف الإسبان المسيحيين هو السيطرة على المسلمين وليس الإفادة منهم. يتساءل المؤرخ الإسباني: «ألم يكن ذلك يشبه بشكل ما الذي وقع بين روما واليونان؟ فقد فرض الرومان سيطرتهم وقوتهم السياسية، أما اليونانيون فقد ظلوا مع الفلسفة والعلوم، وكذا الكثير من الأنشطة النافعة التي لم يفكر المنتصرون في تقليدهم فيها، وعلينا أن نحاول تأمل هذه المشكلة التاريخية الحساسة من الداخل» (إسبانيا في تاريخها، ص62). غير أن عدم تفكير المنتصرين بتقليد المسلمين المهزومين آنذاك لم يعن عدم تأثرهم على نحو ما بما وجدوا من كنوز المعارف وأسباب التحضر، وهو ما يسرد كاسترو الكثير منه ابتداء بالآثار المعمارية وانتهاء بمفردات اللغة وآثار الأدب.
ذلك المنظور الأوروبي إلى الأندلس تبنته الباحثة الكوبية ماريا روزا مينوكال في كتابين معروفين، أحدهما ترجمه الدكتور صالح معيض الغامدي الأستاذ بجامعة الملك سعود حول «الدور العربي في تاريخ القرون الوسطى الأوروبية»، والثاني ترجم في المغرب بعنوان «الأندلس العربية»، وهو الذي أشير إليه هنا. في هذا الكتاب الذي نشر في الأصل بعنوان «زينة العالم: كيف صنع المسلمون واليهود والمسيحيون ثقافة من التسامح في إسبانيا العصور الوسطى؟» (2002). تتحدث مينوكال ضمن أشياء أخرى عن دور المسلمين في إحياء ثقافات كانت في حالة سبات أو موات. لم يقتصر دور المسلمين على تقديم عطاءاتهم الخاصة وإنما استطاعوا، كما تقول: «أنْ يمتصوا ويبثوا الحياة في المواهب الغنية لثقافات محلية سابقة»، وتضرب لذلك أمثلة كثيرة. سأشير هنا إلى بعض تلك الأمثلة ضمن ما أسميته لحظات تماس قد لا يعرفها البعض أو لا يتخيل أهميتها. تلك اللحظات هي التي تؤلف المنطقة البرزخية، المنطقة التي تنبعث منها ملامح الأندلس الأوروبية العربية.
ولعل من الطبيعي أن أختار من بين تلك اللحظات ما كان ثقافياً وأدبياً، ما كان لحظات ملحمية، فهي تتألف من ملحمتين ومجموعة حكايات ورواية. الملحمتان هما «أنشودة رولاند» و«السيد»، بينما مجموعة الحكايات هي التي عرفت بعنوان «قواعد كهنوتية» (Disciplina Clericalis)، وأما الرواية فليست غير رواية سيرفانتيس الشهيرة «دون كيخوتِه» (سأشير إليها مع الأعمال السردية في مقال قادم). في تلك الأعمال الأدبية الأوروبية نجد لحظات حاسمة من التمازج الثقافي يشبه ذلك الذي وصفته مينوكال في حديثها عن ولادة الأندلس العربية في ركن أوروبا الجنوبي الغربي: «إنها لحظة تأسيسية حقيقية للثقافة الأوروبية تستحق أن توصف بأنها من (الطبقة الأولى)».
هناك بالتأكيد تفاوت مهم بين هذه اللحظات. «أنشودة رولاند» الفرنسية ولدت في فترة مقاربة لولادة «السيد» (كلاهما في القرن الثاني عشر الميلادي)، لكنهما مختلفتان على نحو يعكس اختلاف التجربة الإسبانية عن التجربة الفرنسية، و«قواعد كهنوتية» (أيضاً في القرن الثاني عشر) لا تختلف زمنياً فحسب عن «دون كيخوتِه» (القرن السابع عشر)، وإنما على مستويات كثيرة، لكنهما تلتقيان في الجانب السردي، في ربط العرب بالحكايات وموروث السرد الذي كان يدور مشافهة قبل أن يجري تدوينه. الصورة لن تكتمل بطبيعة الحال إلا بالنظر إلى الجانبين معاً، جانب التشابه وجانب الاختلاف.
يقول الناقد والمؤرخ الأدبي الفرنسي فردينان برونتيير إن «اللحظة الدقيقة» لولادة الملحمة الفرنسية «هي المواجهة أو الصدمة التي حدثت بين الشرق والغرب، بين الإسلام والمسيحية، بين العربي والفرنسي...». تلك اللحظة كانت معركة بلاط الشهداء التي أوقفت المد الإسلامي في حدود شبه الجزيرة الأيبيرية، اللحظة التي اختارها الشاعر المجهول خلف تلك الملحمة الفرنسية ليرسم المعالم المبكرة للهوية الفرنسية. لقد قام ذلك الشاعر بمزج حدثين تاريخيين منفصلين وقع كلاهما في القرن الثامن الميلادي، كان أحدهما معركة بلاط الشهداء بين جيش عبد الرحمن الغافقي وجيش شارل مارتيل، والآخر هجوم جماعة من الباسك على جيش شارلمان، ليحول الباسك إلى مسلمين يهجمون على شارلمان بدلاً من مارتيل. أما الدلالة فتكمن في أن المسلمين وليس الباسك هم الذين رآهم الشاعر عدواً جديراً بالمنازلة مع الجيش الفرنسي وكأنه بذلك يستعيد، في القرن الثاني عشر، لحظات الصدام المتكررة سواء بين طارق بين زياد والقوط أو ما تلاها من حروب توسعية أدت إلى إيجاد الأندلس العربية الإسلامية على أرض أوروبا المسيحية. كان من الضروري إذن أن يحدث ذلك الصدام بين ثقافتين أو أمتين لكي يولد الشعر الملحمي في فرنسا، لكي يكتشف الفرنسيون أنهم بحاجة إلى شعر ملحمي مثل اليونان والرومان من قبل ومثلما حدث بعد ذلك في الملاحم الإيطالية على يد أريوستو وتاسو وغيرهما من شعراء عصر النهضة الذين صوروا الحروب الصليبية بعد انتهائها بفترة طويلة. وبالطبع فقد كان ضرورياً أن يمتلئ ذلك الشعر بالكثير من الآيديولوجيا أو «البروباغندا» التي تخدم المحاربين المسيحيين كوصف المسلمين بالوثنيين والكفار وما إلى ذلك.
من الضروري تذكر تلك الآيديولوجيا لمقارنة الملحمة الفرنسية بالملحمة الإسبانية «السيد» التي حملت الاسم الذي أطلقه العرب الموريسكيون على البطل الذي عرفه الإسبان بـ«الكامبيادور» وهو الفارس رودريغو دياز دي فيفار، ولكن الملحمة استمرت بالاسم العربي «أنشودة سيدي»، لتتحول إلى أعمال أدبية في مراحل متأخرة. ففي القرن السابع عشر كتب الإسباني غيان دي كاسترو مسرحية بعنوان «أفعال السيد» بنى عليها المسرحي الفرنسي الشهير كورني مسرحيته «السيد» (Le Cid) التي عدت فيما بعد فتحاً في المسرح الفرنسي؛ لكسرها الوحدات الثلاث (المكان والزمان والحدث) التي أسسها المسرح اليوناني، ولكن أهل القرن السابع عشر في فرنسا عدّو كسرها معيباً لما اكتسبته تلك الوحدات مما يشبه القدسية في عصر عرف بأنه عصر الاتباعية الجديدة (النيو كلاسيك).
كل ذلك يلفت انتباهنا إلى الدور الأدبي الثقافي الذي لعبه الالتحام السياسي العسكري في تاريخ أوروبا عن طريق إسبانيا في عهدها الأندلسي، وتحول ذلك إلى ذاكرة شعبية استمدت بعض مكونات هويتها من ذلك التلاحم، لتسهم بدورها في تشكيل الهوية الثقافية لفرنسا وإسبانيا. فقد ولدت الملاحم من خلال ذلك التلاحم أو الالتحام التصادمي الذي حمل على الرغم من وجوه العداء وجوهاً من الانسجام الذي فرضته اللغة والثقافة حين تستعير ممن يعدون أعداءً اسماً لأشهر أبطالها «السيد»، ليشتهر بدلاً من الاسم الإسباني «كامبيادور». وسأشير في مقال قادم إلى دور الحكايات في تحقيق ذلك الالتحام الحضاري البعيد عن الصراع.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.