يقول المؤرخ الإسباني أميريكو كاسترو في كتابه «إسبانيا في تاريخها»: «لو كان جبل طارق عند مدينة مارسيليا لكانت فرنسا قد عاشت أحداثاً تاريخية مختلفة». وكم هي كبيرة تلك الـ«لو»، لأنها هنا لا تفتح سوى التاريخ، تفتحه على احتمالات من الوعي المعرفي لتغيرات حضارية، بعضها تحقق والبعض الآخر ظل في ضمير الممكن. الـ«لو» التاريخية «لو» حاسمة وخطيرة في الوقت نفسه. وهي في الوقت نفسه «لو» لا بد منها لقراءة التاريخ، قد يراها البعض ملتوية وبغيضة، في حين يراها البعض الآخر غنية بمعرفة الواقع بقدر ما هي زاخرة باحتمالات لم تقع «فمن دون (لو) وما يشبهها لم يكن للعلوم أن تتطور أو للكشوفات والاختراعات أن تحدث». المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد غيبون وظف تلك الـ«لو» حين نظر فيما نسميه في التاريخ العربي للأندلس معركة بلاط الشهداء ويسميه الأوروبيون معركة بواتييه ومعركة تورز، فقال في كتابه الشهير: «انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» إنه لو أن نتيجة تلك المعركة جاءت مختلفة «فلربما كانت تفاسير القرآن الآن تدرّس في مدارس أكسفورد، لتثبت المنابر لشعب مختن قدسية وحقيقة ما أنزل على محمد».
هذا النظر إلى تاريخ الأندلس من الزاوية الأوروبية يقابله النظر إلى تاريخ الأندلس من الزاوية العربية. يولّد الأول احتمالات لتاريخ أوروبا، بينما يكاد يقف الثاني حيث وقفت الدول العربية الإسلامية في توسعها الأوروبي. ينظر الأول فيما نال أوروبا من علاقتها بالعرب، ويكتفي الثاني بما أنتجه العرب لأنفسهم، أي بدراسة التاريخ والأدب الأندلسيين بوصفهما جزءاً من تاريخ العرب وأدبهم. ينتُج من الأول ما يمكن أن نسميه جزيرة أوروبا العربية، ومن الثاني جزيرة العرب الأوروبية. ويكمن الفرق في أن الأولى جزء من أوروبا، من ثقافتها، أنها مجموعة من النتائج أو العوامل أو الأحداث التي غيرت وجه الحضارة الأوروبية، في حين أن الثانية امتداد للأدب والثقافة العربية في أرض غريبة ليس إلا. ومع أن كلا الجانبين مهتم بما في الجانب الآخر فإن التركيز يقع عادة على أحدهما وعلى حساب الثاني.
في الملاحظات التالية سأقترح بعض مناطق الالتقاء منظوراً إليها من الجانب الأوروبي وليس العربي سعياً لتوسع المنطقة الوسطى من الالتقاء الحضاري، المنطقة التي يهتم بها المقارنون عادة، وإن اتسمت بالرمادي، واتشحت بالجدل والخلاف.
المناطق التي أشير إليها يمكن اختصارها فيما أسميه لحظات تماس ثقافية تاريخية، بما يحمله التماس أحياناً من توتر وقلق، فليس أصعب من أن تقول ثقافة لأخرى: لولا أنني أعطيتكم كذا وكذا لما وجدتم في ثقافتكم كيت وكيت، أو لو أنني لم آت إلى دياركم لما عرفتم ما عرفتموه. إنه ثقل المدينية الذي تعرفه الثقافة العربية منذ ما يقارب القرنين في علاقتها بأوروبا، مثلما عرفته ثقافات أخرى في فترات مختلفة من تاريخها: كوريا في علاقتها باليابان، واليابان في علاقتها بالصين وأوروبا في علاقتها بالحضارة العربية الإسلامية. المؤرخ الإسباني أميريكو كاسترو يقارن علاقة الإسبان الأوروبيين بالإرث الأندلسي العربي من ناحية بعلاقة الرومان بالإرث اليوناني من ناحية أخرى، وذلك ضمن حديثه عما حدث بعد ما يعرف بالاسترداد (الريكونكويستا) حين كان هدف الإسبان المسيحيين هو السيطرة على المسلمين وليس الإفادة منهم. يتساءل المؤرخ الإسباني: «ألم يكن ذلك يشبه بشكل ما الذي وقع بين روما واليونان؟ فقد فرض الرومان سيطرتهم وقوتهم السياسية، أما اليونانيون فقد ظلوا مع الفلسفة والعلوم، وكذا الكثير من الأنشطة النافعة التي لم يفكر المنتصرون في تقليدهم فيها، وعلينا أن نحاول تأمل هذه المشكلة التاريخية الحساسة من الداخل» (إسبانيا في تاريخها، ص62). غير أن عدم تفكير المنتصرين بتقليد المسلمين المهزومين آنذاك لم يعن عدم تأثرهم على نحو ما بما وجدوا من كنوز المعارف وأسباب التحضر، وهو ما يسرد كاسترو الكثير منه ابتداء بالآثار المعمارية وانتهاء بمفردات اللغة وآثار الأدب.
ذلك المنظور الأوروبي إلى الأندلس تبنته الباحثة الكوبية ماريا روزا مينوكال في كتابين معروفين، أحدهما ترجمه الدكتور صالح معيض الغامدي الأستاذ بجامعة الملك سعود حول «الدور العربي في تاريخ القرون الوسطى الأوروبية»، والثاني ترجم في المغرب بعنوان «الأندلس العربية»، وهو الذي أشير إليه هنا. في هذا الكتاب الذي نشر في الأصل بعنوان «زينة العالم: كيف صنع المسلمون واليهود والمسيحيون ثقافة من التسامح في إسبانيا العصور الوسطى؟» (2002). تتحدث مينوكال ضمن أشياء أخرى عن دور المسلمين في إحياء ثقافات كانت في حالة سبات أو موات. لم يقتصر دور المسلمين على تقديم عطاءاتهم الخاصة وإنما استطاعوا، كما تقول: «أنْ يمتصوا ويبثوا الحياة في المواهب الغنية لثقافات محلية سابقة»، وتضرب لذلك أمثلة كثيرة. سأشير هنا إلى بعض تلك الأمثلة ضمن ما أسميته لحظات تماس قد لا يعرفها البعض أو لا يتخيل أهميتها. تلك اللحظات هي التي تؤلف المنطقة البرزخية، المنطقة التي تنبعث منها ملامح الأندلس الأوروبية العربية.
ولعل من الطبيعي أن أختار من بين تلك اللحظات ما كان ثقافياً وأدبياً، ما كان لحظات ملحمية، فهي تتألف من ملحمتين ومجموعة حكايات ورواية. الملحمتان هما «أنشودة رولاند» و«السيد»، بينما مجموعة الحكايات هي التي عرفت بعنوان «قواعد كهنوتية» (Disciplina Clericalis)، وأما الرواية فليست غير رواية سيرفانتيس الشهيرة «دون كيخوتِه» (سأشير إليها مع الأعمال السردية في مقال قادم). في تلك الأعمال الأدبية الأوروبية نجد لحظات حاسمة من التمازج الثقافي يشبه ذلك الذي وصفته مينوكال في حديثها عن ولادة الأندلس العربية في ركن أوروبا الجنوبي الغربي: «إنها لحظة تأسيسية حقيقية للثقافة الأوروبية تستحق أن توصف بأنها من (الطبقة الأولى)».
هناك بالتأكيد تفاوت مهم بين هذه اللحظات. «أنشودة رولاند» الفرنسية ولدت في فترة مقاربة لولادة «السيد» (كلاهما في القرن الثاني عشر الميلادي)، لكنهما مختلفتان على نحو يعكس اختلاف التجربة الإسبانية عن التجربة الفرنسية، و«قواعد كهنوتية» (أيضاً في القرن الثاني عشر) لا تختلف زمنياً فحسب عن «دون كيخوتِه» (القرن السابع عشر)، وإنما على مستويات كثيرة، لكنهما تلتقيان في الجانب السردي، في ربط العرب بالحكايات وموروث السرد الذي كان يدور مشافهة قبل أن يجري تدوينه. الصورة لن تكتمل بطبيعة الحال إلا بالنظر إلى الجانبين معاً، جانب التشابه وجانب الاختلاف.
يقول الناقد والمؤرخ الأدبي الفرنسي فردينان برونتيير إن «اللحظة الدقيقة» لولادة الملحمة الفرنسية «هي المواجهة أو الصدمة التي حدثت بين الشرق والغرب، بين الإسلام والمسيحية، بين العربي والفرنسي...». تلك اللحظة كانت معركة بلاط الشهداء التي أوقفت المد الإسلامي في حدود شبه الجزيرة الأيبيرية، اللحظة التي اختارها الشاعر المجهول خلف تلك الملحمة الفرنسية ليرسم المعالم المبكرة للهوية الفرنسية. لقد قام ذلك الشاعر بمزج حدثين تاريخيين منفصلين وقع كلاهما في القرن الثامن الميلادي، كان أحدهما معركة بلاط الشهداء بين جيش عبد الرحمن الغافقي وجيش شارل مارتيل، والآخر هجوم جماعة من الباسك على جيش شارلمان، ليحول الباسك إلى مسلمين يهجمون على شارلمان بدلاً من مارتيل. أما الدلالة فتكمن في أن المسلمين وليس الباسك هم الذين رآهم الشاعر عدواً جديراً بالمنازلة مع الجيش الفرنسي وكأنه بذلك يستعيد، في القرن الثاني عشر، لحظات الصدام المتكررة سواء بين طارق بين زياد والقوط أو ما تلاها من حروب توسعية أدت إلى إيجاد الأندلس العربية الإسلامية على أرض أوروبا المسيحية. كان من الضروري إذن أن يحدث ذلك الصدام بين ثقافتين أو أمتين لكي يولد الشعر الملحمي في فرنسا، لكي يكتشف الفرنسيون أنهم بحاجة إلى شعر ملحمي مثل اليونان والرومان من قبل ومثلما حدث بعد ذلك في الملاحم الإيطالية على يد أريوستو وتاسو وغيرهما من شعراء عصر النهضة الذين صوروا الحروب الصليبية بعد انتهائها بفترة طويلة. وبالطبع فقد كان ضرورياً أن يمتلئ ذلك الشعر بالكثير من الآيديولوجيا أو «البروباغندا» التي تخدم المحاربين المسيحيين كوصف المسلمين بالوثنيين والكفار وما إلى ذلك.
من الضروري تذكر تلك الآيديولوجيا لمقارنة الملحمة الفرنسية بالملحمة الإسبانية «السيد» التي حملت الاسم الذي أطلقه العرب الموريسكيون على البطل الذي عرفه الإسبان بـ«الكامبيادور» وهو الفارس رودريغو دياز دي فيفار، ولكن الملحمة استمرت بالاسم العربي «أنشودة سيدي»، لتتحول إلى أعمال أدبية في مراحل متأخرة. ففي القرن السابع عشر كتب الإسباني غيان دي كاسترو مسرحية بعنوان «أفعال السيد» بنى عليها المسرحي الفرنسي الشهير كورني مسرحيته «السيد» (Le Cid) التي عدت فيما بعد فتحاً في المسرح الفرنسي؛ لكسرها الوحدات الثلاث (المكان والزمان والحدث) التي أسسها المسرح اليوناني، ولكن أهل القرن السابع عشر في فرنسا عدّو كسرها معيباً لما اكتسبته تلك الوحدات مما يشبه القدسية في عصر عرف بأنه عصر الاتباعية الجديدة (النيو كلاسيك).
كل ذلك يلفت انتباهنا إلى الدور الأدبي الثقافي الذي لعبه الالتحام السياسي العسكري في تاريخ أوروبا عن طريق إسبانيا في عهدها الأندلسي، وتحول ذلك إلى ذاكرة شعبية استمدت بعض مكونات هويتها من ذلك التلاحم، لتسهم بدورها في تشكيل الهوية الثقافية لفرنسا وإسبانيا. فقد ولدت الملاحم من خلال ذلك التلاحم أو الالتحام التصادمي الذي حمل على الرغم من وجوه العداء وجوهاً من الانسجام الذي فرضته اللغة والثقافة حين تستعير ممن يعدون أعداءً اسماً لأشهر أبطالها «السيد»، ليشتهر بدلاً من الاسم الإسباني «كامبيادور». وسأشير في مقال قادم إلى دور الحكايات في تحقيق ذلك الالتحام الحضاري البعيد عن الصراع.
الأندلس... جزيرة أوروبا العربية
مناطق التقاء شكلت لحظات تماس ثقافية وتاريخية
الأندلس... جزيرة أوروبا العربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة