كيف نتربى على تذوق الجمال؟

كتاب يتناول تغير المفاهيم وتطور القيم الجمالية

من أعمال الفنان محمد سعيد الصكار
من أعمال الفنان محمد سعيد الصكار
TT

كيف نتربى على تذوق الجمال؟

من أعمال الفنان محمد سعيد الصكار
من أعمال الفنان محمد سعيد الصكار

صدرَ عن دار الثقافة والإعلام بالشارقة كتاب جديد يحمل عنوان «التربية الجمالية في الفكر المعاصر - سِراج المنهاج والخيال الوهّاج» للناقد التشكيلي العراقي موسى الخميسي وهو في الأصل بحث شارك فيه بمسابقة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي عام 2016 وفاز بالجائزة الثانية.
يتألف هذا الكتاب من مقدمة وستة فصول، إضافة إلى ثبت بالمصادر والمراجع العربية والإيطالية التي أغنت البحث وأثرت خِطابه الفكري والجمالي. تبدو الآراء الواردة في المقدمة وكأنها الخلاصة التي خلا منها هذا البحث الذي يتمحور تحديدًا حول «مناهج التربية الفنية في المدارس والمعاهد ودورها في خلق فنان تشكيلي مميز في الوطن العربي».
يستهل الخميسي مقدمته بالقول إنّ الفن شكلٌ من أشكال النشاط الاجتماعي الذي لا يهدف إلى تغيير الطبيعة فحسب، وإنما يسعى إلى تغيير الإنسان، وتطوير ذائقته الفنية، وتشذيب رؤيته الجمالية. فالفن من وجهة نظره «طريق للمعرفة» التي لا تتحقّق من دون مشاركة الآخرين، فلا غرابة أن يؤكد، مرارًا وتكرارًا، ضرورة التوحّد بين ذات الفنّان وذوات الآخرين على اعتبار «أن الفنّ يتشكّل في وجدان المبدع، ويحيا في وجدان المتلقي» (ص15). ويركِّز المؤلف على أهمية الخيال ويعتبره قوة رئيسية من قوى الطبيعة الإنسانية التي تفتح آفاقًا جديدة لم يألفها الإنسان من قبل، فمن بين ثمرات الفن المتعددة: المتعة والدهشة والانبهار، وهي في مجملها تجعل الحياة أخفّ وطأة على الكائن البشري. ينوّه الباحث إلى أنّ الفن تعويض عن انعدام التوازن في الواقع، وكلّما ازداد الواقع اضطرابًا تضاعفت الحاجة إلى الفن لاستعادة التوازن بين الإنسان ومحيطه الخارجي. ثمة آراء أخرى تحفل بها هذه المقدمة لكنها باتت في حُكم المسلّمات، من بينها أنّ الفن منحاز للحق والخير والجمال، وأنه لم يعد تقليدًا أعمى للطبيعة، أو أنه يطهِّر النفس البشرية، ويهذِّب السلوك الإنساني وما إلى ذلك.
يرى الخميسي في الفصل الأول من الكتاب أنه ليس هناك معيار ثابت لمفهومي الجَمال والقُبح، فما تراه جميلاً قد يراه الآخر قبيحاً ويسوق أمثلة كثيرة على ثنائية الجمال والقبح التي تثير الدهشة حقاً، فعلى الرغم من استقرار كثير من القيم الإغريقية للجمال فإن الناس المنضوين تحت الحركات الهامشية، مثل الهيبز والبانك والكلوشار وغيرها، بدأوا يسعون للقُبح المُستفِّز كنوع من التمرد على القيم الرأسمالية المهيمنة، فصاروا يعمدون إلى غرز الدبابيس في الأنف واللسان والشفاه والحواجب، كما وشَموا غالبية مناطق الجسد الظاهرة منها والمخفيّة، هذا إضافة إلى ارتدائهم الملابس الرثّة المُهلهلة. وفي عصر النهضة كانت المرأة الإيطالية تنتف حاجبيها كلياً، كما في لوحة الموناليزا، بينما تكتفي غالبية النساء في مختلف أرجاء العالم بالحفِّ والتزجيج. وفي السياق ذاته يَعتبر السُكّان الأصليون في أستراليا الأنفَ المُفلطح جميلاً بينما يرى مُعظم الناس في الأنف الصغير ميزة جمالية يسعون لتحقيقها بعمليات تجميلية باهظة الأثمان.
ويقول الباحث إن ظهور الديانة الإسلامية في القرن السابع الميلادي قد أثرّ تأثيراً جذرياً في تطوّر الفنون والنظريات الجمالية على الشعوب المجاورة لمركز الخلافة الإسلامية آنذاك، وإن جوهر الدين الإسلامي لا يتعارض مع القيم الجمالية، الأمر الذي أفضى إلى ازدهار الخط العربي، والزخرفة، والنقش، والموسيقى، والعمارة وسواها من المظاهر الفنية والعمرانية على مدى قرون طويلة. يزدان هذا الفصل بآراء مهمة لفلاسفة ومفكرين كبار، قدماء ومحدثين، أمثال سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وإمبيرتو إيكو، وبنديتو كروتشه، وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعا.
ويناقش الخميسي في فصل «التذوّق الفني» مفاهيم كثيرة تتمحور حول إدراك الأعمال الفنية والاستمتاع بها. فثمة أعمال جميلة لكنها ليست فنيّة، وهناك أعمال قبيحة لكنها تنطوي على مسحة فنية جميلة. ويورد مثالاً مهماً في هذا الصدد مفاده أن الفن يمكن أن نلمسه في التناغم الهندسي الموجود في الأواني البابلية والفرعونية والأتروسكية والإغريقية كما يمكن أن نلمسه في غياب هذا التناغم في الفن البدائي. وبغية تذوّق أي عمل فني قديم أو حديث لا بد من تأمله والاستغراق فيه، والنفاذ إلى أعماقه، وإجراء نوع من التواصل الوجداني معه، فالتأمل العميق كما يذهب الناقد البريطاني روجر فراي «هو تمرين روحي ذو أهمية متميزة» (ص42).
يُعتبر فصل «التربية الجمالية والطفل» من الفصول المهمة في الكتاب لأنّ الباحث يتتبّع فيه الإنسان في مختلف مراحله العمرية التي تبدأ بالمرحلة الجنينيّة، ورياض الأطفال، مرورًا بالمرحلة الابتدائية والمتوسطة، ولا تنتهي في المرحلتين الثانوية والجامعية، وإنما تستمر مع الإنسان الذي ينفعل ويتفاعل دائمًا مع العمل الفني بوصفه مُتلقياً إيجابياً يطوِّر من قدراته الفنية طالما بقي على قيد الحياة. وبما أنّ الجنين يستجيب للموسيقى الهادئة وهو في رحم أمه فما بالكَ إذا خرج للنور وبدأ يُخربش على الأرض أو يرسم على الجدران. ينتقد الباحث عالمنا العربي الذي يُغرب الطفل عن واقعه الاجتماعي ولا يوجِّه عنايته إلى الأعمال الفنية التراثية أو الشعبية لسهولة النهل من المصادر الغربية، كما يعيب على المدارس العربية التي تسمّي الحصص الفنية ترفيهيّة بينما يُطلق عليها الغرب «الفن والتصورات» ويدّرسون فيها الفن بدءًا من رسوم الكهوف حتى آخر المدارس والتيارات الفنية المعاصرة دون أن يغفلوا تاريخ الفن، وأصول النقد الفني وكل ما ينمّي الذائقة الجمالية عند الإنسان.
يُركِّز الخميسي في فصل «الفن والطفل» على دور المربّين والمربيّات الذين توصلوا إلى نتائج مُذهلة من خلال دراساتهم التي أثبتت أن الأطفال الرُضّع يعبِّرون عن إعجابهم بالأشكال والألوان من خلال مدة التحديق، وهم يفضِّلون الألوان المُبهجة كالأحمر والأزرق والأصفر على الألوان المعتمة والرمادية، ويتذوّقون الأشكال بعد سنتين من الولادة. أما الأعمال الفنية التي يستمتعون بها فإنها تستقر في المنطقة المحصورة ما بين الوعي واللاوعي التي تُلهِم المبدعين منهم لاحقًا. يدرس الباحث أوجه التشابه بين رسوم الأطفال والفن المعاصر ويتوصل إلى أن الطرفين ينطلقان في الخيال الجامح بلا قيود، ويُعبرّان عن العواطف والأحاسيس بحرية تامة.
أوفى الباحث حق المُتحف ودوره العميق في التربية الجمالية فقد شبّه المتحف بـ«كنزٍ مقدّس» أو بـ«معبد للثقافة والفنون» وبإمكان المتلقي أن ينهل منه ما يشاء من الفنون البصرية المتعددة، فهو منجم لذاكرات تاريخية وفنية واجتماعية لذلك لا تخلو المناهج الدراسية لكل المراحل من زيارات سنوية مُنظّمة لهذه المتاحف، وغالباً ما تعقبها دروس مكثفة عن عصر النهضة والفن المعاصر بكل مدارسه المعروفة كالانطباعية والواقعية والسريالية والمستقبلية.
يختم الخميسي بحثه في كيفية قراءة العمل الفني ولا يجد ضيرًا في تفسيره مستعيراً من بول فاليري مقولته الذائعة: «لا ينبغي أبدا الاعتذار عن الكلام في الرسم» (ص115). فكل عمل قولي أو بصري «يفسِّر إمكانيات خالقه، ولكنه يفسر أيضًا رأي المتلقي» (ص117). بكلمات أخرى... إذا أراد المتلقي أن يلج العمل الفني، ويغوص في شبكة علاقاته الداخلية العميقة، فعليه أن يتحول إلى تلميذ، ليس بالمعنى الأكاديمي كما يذهب الباحث، وإنما أن يكون لكل تلميذ قراءته الخاصة به، وتفسيره المختلف والمغاير لتفسيرات الآخرين.
لا يمجِّد الخميسي في هذا الكتاب الفنان الخالق فقط، وإنما يصطف إلى جانب المتلقي الذي يفهم العمل، ويتذوقه، ويستمتع بلذّته الفنية.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.