هل حان وقت تنفيذ استراتيجية الأمم المتحدة لحصار الارهاب؟

في ظل تصاعد عنف المتطرفين

هلع ورعب في لندن بعد هجمة إرهابية أمام مجلس العموم («الشرق الأوسط»)
هلع ورعب في لندن بعد هجمة إرهابية أمام مجلس العموم («الشرق الأوسط»)
TT

هل حان وقت تنفيذ استراتيجية الأمم المتحدة لحصار الارهاب؟

هلع ورعب في لندن بعد هجمة إرهابية أمام مجلس العموم («الشرق الأوسط»)
هلع ورعب في لندن بعد هجمة إرهابية أمام مجلس العموم («الشرق الأوسط»)

«نفذ السهم» كما قال يوليوس قيصر ذات مرة، وبات على الإنسانية مواجهة التطرف العنيف، الذي غيّر حال العالم من الأمن والأمان إلى الخوف والقلق. وصار الإرهاب العنيف أداة عابرة للحدود والسدود... إرهاباً يتصل بالأفكار، وكذا بالجماعات. وأضحى يمثل حربا عالمية غير معلنة... حيث ما من بقعة أو رقعة في شرق البسيطة أو غربها إلا وتشهد في السنوات الأخيرة عمليات قتل وترويع وسفك دماء.
ولعل ما جرى في لندن خلال الأيام القليلة الماضية قد أرسل أكثر من إشارة للقابضين على جمر حماية الحريات الإنسانية، مفادها أن حروبهم ضد عقول شديدة الذكاء، وإن كانت من أسف شديد تستغله في الدمار والمرار، فاختيار موعد تنفيذ العملية، لم يكن عشوائيا، بل تذكير متجدد لما جرى في العاصمة البلجيكية بروكسل قبل سنة.
لم يعد الإرهاب الأسود يداري أو يواري نفسه، سواء تلبس الأمر مشهد «الذئاب الفردية»، أو أعلنت منظمات بعينها، وفي المقدمة منها تنظيم داعش المتطرف الإرهابي مسؤوليتها عن تلك الحوادث. فمنفذ عملية دهس المارة في لندن «هو جندي لـ(داعش)، نفذ العملية استجابة لنداءات استهداف رعايا دول للتحالف الدولي...»... هكذا تحدث بيان «داعش» الذي أعلن من قبل مسؤوليته تجاه ثلاث عمليات عشوائية، دهست من خلالها مركبات أتباعه وأشياعه، مواطنين أوروبيين أبرياء.
ثم أنه وطوال عقد أو أكثر، وتحديدا منذ السابع من يوليو (تموز) من عام 2005، والإرهاب «القاعدي» ثم «الداعشي» يطارد الآمنين، ويؤدي إلى مقتل العشرات والمئات، كما رأينا في نيس وبرلين. ولهذا؛ أضحت الحاجة ملحة إلى جهود دولية وتنادٍ عالمي للمجابهة والمواجهة، على أكثر من صعيد... بدءاً من معارك القتال المسلح على الأرض، كما هي الحال في الرقة والموصل، وصولا إلى المعارك «السيبرانية» (الإنترنت) خلف الشاشات وفي الغرف المغلقة.
أليس هذا هو الوقت القيّم لتفعيل خطة العمل من أجل منع التطرف العنيف التي قدّمها الأمين العام السابق للأمم المتحدة «بان كي مون» للجمعية العامة للأمم المتحدة في 12 فبراير (شباط) 2016 وقوبلت بالترحاب؟
ربما تكون المنظمة الأممية الآن أمام أحد أهم الاستحقاقات التي يرتبط بها وجودها، ذلك أنه إن قدّر لها بلورة نهج كامل وفاعل على الأرض لمحاربة الإرهاب، فإنها بذلك تكتب شهادة ميلاد جديدة لحضورها الأممي. هذا نهج لا يتخذ من التدابير الأمنية فقط أساسا لمكافحة الإرهاب، بل يبدع ويبتكر أيضا في اتخاذ خطوات وقائية منهجية لمعالجة الظروف الكامنة التي تدفع الأفراد إلى التطرف والانضمام إلى الجماعات المتطرفة العنيفة.
الأمم المتحدة في هذا التوقيت الملتهب، تدافع عن جوهر كيانها؛ إذ إن التطرف العنيف إساءة مباشرة لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها؛ لأنه يقوّض السلام والأمن وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة، ولا يسلم أي بلد أو منطقة من إثارة. على أن ثمة قائلا يقول إن واشنطن شهدت الأيام القليلة الماضية مؤتمرا شارك فيه وزراء خارجية 68 دولة بهدف واضح، هو محاربة «داعش»، وربما هذا يكفي في الحال؛ ذلك أن الخلاص من «داعش» يعني الخلاص من الإرهاب حول العالم.
ولكن هنا يبقى التوضيح أمراً حتمياً، ذلك أن القضاء على «داعش» عسكرياً لا يعني نهاية حضوره فكرياً، ولا سيما أنه يتستّر وراء حواجز دوغماتية لا تغيب عن ناظري المتابعين للمشهد؛ فالأفكار لا تموت، وإنما تطير بأجنحة. والشاهد أن مؤتمر واشنطن على أهميته لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون أداة بديلة للإجماع الأممي.
إذ ربما أقصى ما يمكن أن يتوصّل إليه المجتمعون في واشنطن هو طرح خطة سياسية عسكرية للقضاء على «داعش»، وهذا أمر جيد في حد ذاته، وواشنطن ماضية فيه قدماً. فلقد أعلن الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة نهار الخميس 23 فبراير الماضي، أن خطة تقودها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لهزيمة «داعش»، من المقرّر أن تظهر سريعاً في شكل مسوّدة تتجاوز أطرها اللوجيستية حدود العراق وسوريا لتشمل الخطر الذي يمثله المتشددون حول العالم في إذكاء الصراعات.
وفق «البنتاغون» اجتذب «داعش» نحو 45 ألف مقاتل أجنبي من أكثر من 100 دولة حول العالم. ومن ثم، لكي تنجح الخطة الأميركية، فإن هناك حاجة أولا إلى قطع النسيج الذي يضم الجماعات الإقليمية التي تشكل الآن خطراً عالمياً.
القضية المحورية هنا هي أن واشنطن تتقاطع خيوطها عكسياً مع بعض من تلك الدول. وعليه، يبقى معين الأمم المتحدة هو الأنفع والأرفع في المواجهة القائمة والمقبلة، وتبقى استراتيجية المنظمة العالمية لمكافحة الإرهاب «القاسم المشترك» الذي يحتمي خلف جداره كل من يود الفرار من نيران الكراهية والعداوات الأصولية.
في هذا السياق، تنتاب الكثير من السياسيين والقادة حول العالم المخاوف من أن إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب إدارة «انعزالية»، بمعنى أنها تشعر بأهمية المنظمة الأممية، بل تسعى إلى تنفيذ أجندة «أميركا أولا» بمنأى عن الجميع. والمؤكد أن ذلك قد يكون بعضه صحيحا بالفعل، لكن مواجهة الإرهاب حكما تحتم على إدارة ترمب التعاطي بإيجابية تتجاوز حدود البرغماتية الضيقة، إلى ما يمكن أن نسميه «الأنانية المستنيرة». فمن خلال زخم الجهود العالمية لمحاربة الإرهاب، تضمن الولايات المتحدة الأميركية بناء مجتمعات قوية، وتعزّز من إمكانات حماية الداخل الأميركي. وأغلب الظن أن اجتماع واشنطن الأخير، كان بداية لتعاون أميركي - أممي إيجابي سيشهد العالم آثاره عما قريب.
من المثير جدا أن استراتيجية الأمم المتحدة التي نحن بصددها لم تسلط عليها الأضواء، في حين أن موضوعات أقل أهمية تصدح بها وسائل الإعلام صباح مساء كل يوم، ولولا التصاعد المخيف لوتيرة الإرهاب في الفترات الأخيرة لما أعارها أحد التفاتاً يذكر على أهميتها.
ولكن يبقى أن كارثة الإرهاب والإرهابيين التي تحتاج اليوم إلى جهود أممية للمواجهة، باتت تسيطر على الأراضي بالمعنى الجغرافي التقليدي. ثم تنطلق إلى الفضاءات الرحبة عبر وسائط التواصل الاجتماعي لإيصال أفكارها و«إنجازاتها» المذمومة آنيا إلى مختلف أرجاء العالم. وفي هذا تعمل على تحوير قيم السلام والعدالة والكرامة الإنسانية التي نشترك فيها جميعا، بحسب منطوق ونص الاستراتيجية.
من أفضل الأوراق والمداخلات التي قدمت أمام مجلس الأمن حول السلام والأمن الدوليين، يأتي حديث السفير مارك ليال غرانت، رئيس بعثة بريطانيا لدى الأمم المتحدة عن التطرف وسبل مكافحته. وكان السفير قد قدم ورقته قبل سنتين تقريبا، ولكن لم يُلتفت إليها. وها هي بلاده في مقدمة الدول التي تدفع ثمن تقاعس المجتمع الدولي عن مكافحة التطرف العنيف بوصفه نوعا من أكبر التحديات الدولية المسلحة التي تواجهها.
السفير البريطاني يرى أنه لا بد من مواجهة المتطرفين بكل حزم، ومن الواجب على القيادات السياسية، والقيادات الدينية تحديدا، القول بوضوح «هذا لا يمثل ديني». لكن عنده أيضا أن هذا غير كاف. ففعل الإدانة هنا يتوقف عند الحدود السلبية، في حين أن التغيير الإيجابي والمواجهة الخلاقة تقتضي تشجيع بديل إيجابي يتمثل في الحديث عن التسامح والشمولية على سبيل المثال.
عبر الأعوام الماضية تساءل الكثيرون: «لماذا يقدِم هؤلاء الشباب على التطرف؟ ولماذا يسعى بعضهم لدهس الأبرياء أو تفخيخهم بالعبوات الناسفة، أو قطع رؤوسهم دون أدنى ملمح أو ملمس من إنسانية؟
الجواب العقلاني الذي تقودنا إليه سطور الاستراتيجية المشار إليها يتمثل في غياب المجتمعات المنفتحة والمنصفة... المجتمعات التعددية التي تحتضن الجميع وتقوم على الاحترام الكامل لحقوق الإنسان، وتتيح الفرص الاقتصادية للجميع. وحال توافر الوجه الإيجابي لتلك المجتمعات وانتفاء الوجه السلبي المتقدم، سيضحى لدى العالم أفضل بديل ملموس ومجد للتطرف العنيف وأفضل وأنجح استراتيجية تنزع عنه جاذبيته.
يستدعي المشهد الدولي المأزوم حالياً، تناديا دولياً، لمناقشة حال ومآل وقود التطرف والإرهاب، أي الشباب، من كل الأديان والأجناس، ذلك أنه وإن كانت الأصوليات المذهبية تكثر عند البعض، فإن صعود القوميات والشعوبيات عند البعض الآخر سيقود حتما إلى عنف وعنف مضاد. بل ربما نرى الإرهاب متصاعدا داخل الجنس والعرق الواحد؛ لأن كارثة المتطرف أنه لا يرى غير نفسه في عينيه، ولا مكان لطرح آخر عند «ملاك الحقيقة المطلقة». في هذا الإطار الأممي، ربما يتوجب على المنظمة الأممية الدعوة إلى مؤتمر عالمي، قياداته من علماء النفس والاجتماع، لا من السياسيين أو العسكريين ورجالات الاستخبارات... مؤتمر هدفه الرئيس دراسة العوامل التي تدفع الشباب للتطرف، عطفا على الضمانات اللازمة لمنع الترويج للأفكار المتطرفة التي لا تتماشى مع شرعة حقوق الإنسان، والآداب والأخلاقيات العامة.
حديث الضمانات لا يعني أبدا القمع وكبت الحريات؛ ذلك أن مكافحة الأفكار المتطرفة تكون ممكنة فقط حين يكون لدى الناس حرية مواجهتها. والأفكار الظلامية تولد في أوساط الجهلين الفكري والثقافي، فبائع الشموع يفضل أن يظل التيار الكهربائي مقطوعاً. والمتطرفون يعتدون على المدارس والجامعات، والمؤسسات التعليمية والإعلامية لخشيتهم مما يجلبه التعليم من تغيير ومساواة وتنوير، تكشف زيف دعواهم، وإفك أحاديثهم.
من ناحية أخرى، رغم أن المشهد مأساوي، والمخاوف خلف الباب قائمة، وعلامة الاستفهام... أين ومتى ستكون العملية الإرهابية المقبلة؟ فإن استراتيجية الأمم المتحدة، تعطي قارئها مسرباً من مسارب الأمل إذا أحسنت المجتمعات المختلفة تسخير مثالية الشباب وإبداعهم وطاقتهم، وغيرهم من الفئات التي تشعر بالحرمان لبلوغ غاية السلام والوئام عوضاً عن الحروب والخصام.
يتطلع «فاعلو الإثم» إلى الشباب حول العالم بوصفهم المعين والخزان البشري، الذي منه يستقطبون مجنديهم الجدد. وعليه لا بد من فعاليات وخطط تبدأ من المحليات الصغيرة، وصولا إلى حدود الدولة الوطنية، ثم الإقليم الجغرافي؛ فالقارئ، حتى تكتمل الصورة العالمية... فعاليات تستوعب هؤلاء بوصفهم مكسبا يجب تمكينه ليسهم إسهاما بنّاء في التنمية السياسية والاقتصادية لمجتمعاتهم ودولهم. فهم يشكلون موردا لم يستغل بعد، ويجب أن نمكنهم من النظر إلى مستقبلهم نظرة إيجابية، وأن تتاح لهم فرصة حقيقية لتحقيق تطلعاتهم وإدراك أحلامهم.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.