حياة هيدغر.. هي فلسفته

فضل الحقل على شغل كرسي الأستاذية في الفلسفة بجامعة برلين

حياة هيدغر.. هي فلسفته
TT

حياة هيدغر.. هي فلسفته

حياة هيدغر.. هي فلسفته

كانت النبذة الماضية عن فلسفة هيدغر وتشعبها، عن مفاهيمه الأساسية، لكن - كما أشرت من قبل، فإن سيرته الحياتية خطيرة، ذلك أنها بحد ذاتها نظرية، كانت سيرته متسقة مع فلسفته إلى حد كبير. وربما كانت من أفضل السير التي كتبها تلميذ عن أستاذه السيرة التي كتبها الفيلسوف الألماني والتلميذ الأبرز لهيدغر وأعني به «هانز جورج غادامير»، التي طبعت في كتاب «طرق هيدغر»، بالإضافة إلى كتابه «التلمذة الفلسفية»، وهما مترجمان إلى العربية. وحين يحضر اسم هيدغر ينعطف قلم غادامير ليكتب ببشاشة وزهو عن ذلك «الأستاذ» الذي يجلس على موقده وهو يتحدث في أكثر الموضوعات إشكالا، وربما جلس صامتا. وحين أهدى بول ناتورب لغادامير بحثا لهيدغر عن أرسطو في أربعين صفحة هتف: «لقد أصبت بصعقة كهربائية»، من لحظتها كان هيدغر أستاذا فعليا لغادامير، بل وصديقا له فيما بعد.
كما تقدم، كانت حياته هي فلسفته، وعن «الدروب المتعددة» العبارة الشهيرة له؛ كان يذكر بها طلابه في أيام «التزلج» - تلك الرياضة التي يعشقها ويقنع بها الآخرين. ألقى ذات مرة محاضرة وهو يلبس سترة التزلج، افتتحها بعبارة هيدغرية: «يستطيع المرء التزلج فقط على المنحدرات ومن أجل المنحدرات»، وكان تلاميذه يطلقون عليها تندرا «السترة الوجودية».
وفي معرض تقديم تلميذه الفيلسوف هانز جورج غادامير لكتاب هيدغر «أصل العمل الفني»، يكتب أن بوادر الظهور التاريخي لهيدغر كانت واضحة منذ أن بدأ بنقد الفلسفة المنبرية السائدة آنذاك. يكتب: «كانت لغته القوية العنيفة غير العادية، التي كان صداها ينطلق من فوق المنصة الفرايبورغية، تدل على أن قوة أصيلة للتفلسف على وشك الظهور، فعن طريق الاتصال الخصب المتوتر مع العلوم البروتستانتية، التي تمكن منها هيدغر عام 1923 من خلال استدعائه للتدريس في جامعة ماربورغ، نشأ كتاب هيدغر الأساسي (الوجود والزمان)، الذي قدم في 1972 لدوائر متسعة من الرأي العام بصورة مفاجئة شيئا من الفكر الجديد».
كانت سطوته في تاريخ الفلسفة الحديث لا تقل عن منعطفات كبرى كالتي رسمها ديكارت وكانط وهيغل ونيتشه، كان مفصلا أساسيا في العصر الحديث. يبالغ بعض عشاق فلسفته وأسلوبه ونمط تنظيره فيقولون: «مع هيدغر انتهت الفلسفة». لكن المنعطف الذي رسمه هيدغر أحيا الفلسفة، ولا تزال مفاهيمه فاعلة ومضيئة وحية، وعلى رأسها مفهوم «التقويض» الذي أسس لجيل من الفلاسفة الأهم في القرن العشرين، مثل دريدا وفوكو ودلوز وليوتار.
كان فلاحا، وحين تعب من وطأة التهم السياسية، يمم وجهه في بيت جبلي (كوخ) في توتناوبرغ، وثمة علاقة بين آلام الفلاسفة والجبال، وقد رأيت من خلال التتبع أن «هيراقليطس، وفيلوكتات، وبرموثيوس، وأمبيدوكل، ونيتشه، وهيدغر» كلهم لجأوا إلى الجبال للتفكير والتأمل، وكل دروب أولئك كانت صادمة، ذلك أن الوجود في الجبال هو «وجود الأعالي» بتعبير نيتشه.
كان موقفه الذاتي قويا حين كتب النص ذائع الصيت، الذي كتبت عنه مرارا وترجمه بجمال «حسونة المصباحي»: «وحدها الغابة السوداء تلهمني»، وذلك بعد أن تلقى العرض الثاني لشغل الأستاذية في الفلسفة بجامعة برلين، فكتب نص الرفض، الذي انتصر فيه للفلاحة والحقل، وأذيع نصه الشاعري بعد كتابته في «الإذاعة». كان قد كتبه في كوخه على ارتفاع 1150 مترا، في بيت من (6 إلى 7) أمتار. جاء في نص الاعتذار للجامعة: «في ليل الشتاء العميق، تنفجر عاصفة ثلجية حول البيت، وتأخذ في تغطية مواراة كل شيء، عندئذ يبدأ زمن الفلسفة... والعمل الفلسفي لا يتم بعيدا كما لو أنه فريد من نوعه، إن كان يوجد وسط عمل الفلاحين، عندما يجر المزارع الشاب المزلاج الثقيل المحمل بحطب أجار الزان، على طول المنحدر الوعر، والخطر باتجاه ضيعته... أجلس مع الفلاحين على مقعد أمام المدفأة أو حول طاولة، هناك في الركن، وفي أغلب الأحيان لا أتحدث معهم وهم لا يتحدثون أيضا، فقط ندخن الغليون بصمت، ومن حين إلى حين تسقط منا كلمة لنقول مثلا إن قطع الخشب في الغابة يقترب من نهايته، وإن السمور في الليلة الماضية داهم قن الدجاج وأتلف الكثير منه، وأنه من المحتمل أن تلد البقرة».
ويضيف في نصه: «في السنة الماضية، كنت قد قضيت أسابيع بأكملها وحدي في البيت، صعدتْ تلك العجوز البالغة من العمر 83 عاما المنحدر الوعر من أجل مقابلتي، وقالت إنها تود التحقق من أنني ما زلت موجودا ومن أن اللصوص لم يأتوا لسرقة بيتي في غفلة مني، وقد أمضتْ ليلة موتها في نقاش مع أفراد عائلتها، وقبل نصف ساعة من رحيلها إلى العالم الآخر كلفتهم إبلاغ تحياتها إلى (الأستاذ). إن ذاكرة كهذه في رأيي أكثر قيمة من أي (روبرتاج) حتى ولو كان جيدا في أي صحيفة مشهورة في العالم حول فلسفتي المزعومة».
انعزل هيدغر طويلا في بيته الريفي، لكنه توفي في 26 مايو (أيار) 1976 بمسقط رأسه مسكرش، وإذ تطير الغربان في يوم موته الكئيب ترفرف روح والده أمين خزانة الكنيسة، ليترك هيدغر الإرث الصعب، مما جعل بعض مؤرخي الفلسفة يعدونه أهم فيلسوف في التاريخ، استطاع أن يبدأ مشروع إنقاذ الفلسفة من قبضة هيغل، كان هذا هو المشروع الذي سيستأنفه من بعده ميشيل فوكو.
لقد عاش هيدغر عصب فلسفته من تزلجه إلى تمرده السياسي إلى كوخه، وفي نص من شعره يكتب:
الكوخ سطر مكتوب في الكتاب
أي أسماء أستقبل قبل اسمي
أمل في قلبي... وممر الغابة متعرج



كيف عبّرت الكاتبات العربيات عن همومهن في السيرة الذاتية؟

كيف عبّرت الكاتبات العربيات عن همومهن في السيرة الذاتية؟
TT

كيف عبّرت الكاتبات العربيات عن همومهن في السيرة الذاتية؟

كيف عبّرت الكاتبات العربيات عن همومهن في السيرة الذاتية؟

يتناول كتاب «خطاب الذات في السيرة الذاتية النسائية»، للباحثة د. نعيمة عاشور، من خلال منهج لغوي نقدي تحليلي، هواجس عدد من الكاتبات العربيات اللواتي عبّرن عن ذواتهن، ضمن شكل محدّد هو السيرة الذاتية، وطبيعة الرؤى المطروحة لغوياً وفكرياً ضمن هذا الشكل. وتشير المؤلفة في كتابها، الصادر أخيراً عن دار «بيت الحكمة»، إلى أن مفهوم «السيرة الذاتية النسائية» ينصرف إلى السيرة التي كتبتها أنثى مبدعة في مجتمعها عن نفسها، لتكون المؤلف والراوي والبطل في آن.

ومن الملاحظ أن هذا النمط من الكتابات النسوية يتّسم بالفردية، وتركّز الذات فيه على عدة قضايا وجودية تعدها ركيزة أساسية في البحث عن ذاتها. وتتجلّى هذه السمات في العديد من السير المهمة، مثل «أوراق شخصية» للطيفة الزيات، و«على الجسر بين الحياة والموت»، لعائشة عبد الرحمن، المعروفة بلقب «بنت الشاطئ»، و«أثقل من رضوى»، لرضوى عاشور، و«يوميات مطلّقة»، لهيفاء بيطار.

نضال أنثوي

يرتبط خطاب الذات في هذه الأعمال بنضال المرأة المثقفة في مجتمعها، حيث تتصدى للبنى الفكرية والاجتماعية، من خلال توثيق تجربتها وهمومها، وإلقاء الضوء على الأنماط والتحيّزات القائمة على أساس الجنس أو النوع، فضلاً عن إحداث زعزعة جذرية للأعراف السائدة بهدف تغييرها مجتمعياً.

وتنتمي الذات الساردة في السيرة النسائية إلى طبقات وأعراق مختلفة، كما مرّت بتجارب حياتية مختلفة، وفي خطابها يتجلّى الكثير من الأخطاء والهموم والأزمات المحورية، سواء مع النفس أو المجتمع.

تقول لطيفة الزيات في «أوراق شخصية»: «الإدراك يواتيني متأخراً، ربما الحبوب المهدئة تصيب حواسّي بالتبلّد، وربما لأن الانتقال من حالة اكتئاب مرضي إلى حالة انتعاش انتقال لا يملك الإنسان التوصل إلى معرفة أبعاده، وربما لأن مثل هذا الإدراك لا يواتي الإنسان إلا في لحظة انفعالية مكثّفة تجمع وتشحذ وتُضاعف وتدرج كل اللحظات، الفرِحة والمعذّبة المنتصرة والمجروحة رغم كل منحنياتها، في خط بياني صاعد».

وتوضح الباحثة أن الأهمية الآيديولوجية للنص تكمن في تضافُر بعض مفرداته لتعطي معاني محدّدة، حيث إن بناء الكلمات «الحبوب المهدئة - اكتئاب مرضي - انتعاش - انفعالية»، تنتمي إلى مجال الطب النفسي، ووجود كل مفردة منها حدّد الموقع الآيديولوجي لها بواسطة الاشتباك الظاهر والمضمر بعضها مع بعض، فكلمة «الإدراك» تتضافر مع كلمة محذوفة هي «العقل»، وجملة «الحبوب المهدئة» تتضافر مع «الحواس»، وكلمة «اكتئاب» تتشابك مع «السلوك المرضي»، وكلمة «انتعاش» تتشابك مع كلمة «حالة». أنشأت هذه الكلمات نظاماً آيديولوجياً محدداً لنمط خطاب نفسي، بينما الكلمات «منحنياتها - خط بياني - صاعد» تنتمي إلى مجال آخر، وهو مجال الرياضيات؛ إذ تجمع اللحظات الانفعالية المكثّفة عدة لحظات أخرى تحقّق تصاعداً في الخط البياني رغم كل منحنياتها، فالمعاني المنوعة للمجالَين تتنوع بدلالة الألفاظ المترادفة والمتضادة.

ونقرأ لرضوى عاشور في «أثقل من رضوى» هذه العبارة: «فشلنا في مهمتنا، قمنا للمغادرة، ونحن وقوف، قبل أن نصافح رئيس الجامعة قال زميلنا أستاذ التاريخ: هذا هو الحال منذ عشرات السنين، نعاقب الطلاب ونتعقّبهم ونسجنهم ونقتلهم أحياناً، ثم في المرحلة اللاحقة نمجّدهم لأنهم صنعوا تاريخ البلاد. قال عبارته وسبقنا إلى الباب»، وهنا تركيز على العلاقات الاجتماعية السلبية والإيجابية بين المشاركين الظاهرين، كالطلاب النشطاء، وأساتذة الجامعات، ورئيس الجامعة، فأساتذة الجامعات المشاركون يجتمعون بمكتب رئيس الجامعة دون دعوة لمحاولة ثنيه عن قرار بحرمان النشطاء من الطلاب من دخول الحرم الجامعي عقاباً لهم على المشاركة في مظاهرة سياسية ما تخص مراحل تاريخية سابقة، لكنهم في الوقت ذاته يرفضون نهج المسؤولين وواقعهم في التعامل مع هؤلاء الطلبة منذ عشرات السنين، من معاقبتهم وتعقّبهم وسجنهم وقتلهم.

شاعرية لغوية

وفي «يوميات مطلّقة»، لهيفاء بيطار، نقرأ: «أعود إلى بيت أهلي، أعتني بالصغيرة الحلوة، أدفن رأسي في صدرها وبين ذراعيها، وأقول لها: هيا طبطبي على رأس الماما؛ لأني أنا الصغيرة وأنت الماما، أنت الملجأ والملاذ والأمل، أنت حبي الكبير الذي يفيض من صدري ويغمر الدنيا، وبعد أن تغفو صغيرتي في حضني وأنقلها إلى سريرها، أعود لأتراس رأس المثلث الوهمي، أبي وأمي وأنا، وتمر السنوات».

يجسّد النص هنا زخماً لغوياً شاعرياً ممثّلاً في صيغة الفعل المضارع المتناغمة في: «أعود» و«أعتني» و«أدفن» و«أقول»، ثم في نهاية المقطع «أنقلها» على نحو يُوحِي باستمرارية الحدث وديمومته، وتكشف السيرة الذاتية هنا عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها الذات الساردة، والدخل المحدود للأطباء، حتى إنها تدفن همومها بين ذراعَي صغيرتها لتتخلّص مما يمر بها من أزمات متعددة، فالشاعرية اللغوية في النص لها وظيفة محدّدة، وهي تكوين صورة رهيفة معبّرة عن أزمة الذات، كاشفة عن حالاتها النفسية المتباينة، وتكوين مراحل حياتها المختلفة، ورغبتها في الخلاص من هذا الواقع.

وتقدّم عائشة عبد الرحمن في «على الجسر بين الحياة والموت» نموذجاً مختلفاً، يتمثّل في إصرار الكاتبة على إتمام تعليمها الذي حرمها منه الأب، قائلاً: «ليس لبنات المشايخ العلماء أن يخرجن إلى المدارس الفاسدة المفسدة، وإنما يتعلّمن في بيوتهن»، وتتطلّع الكاتبة لاستكمال تعليمها بمدينة «المنصورة»، وشاءت الظروف أن يتحدّد موعد امتحان القبول بها أثناء غياب والدها عن مدينتها «دمياط» في إحدى رحلاته المتتابعة لحضور مناسبة ما تخص الاحتفالات الصوفية بين القاهرة وطنطا ودسوق.

وتقول المؤلفة في موضع آخر: «ورقّ قلب أمي حين رأت إصراري على أداء الامتحان، وليكن بعد ذلك ما يكون، فجازفَت وتسلّلت بي من دمياط ذات صباح إلى المنصورة، حيث تركتني بالقسم الداخلي في مدرسة المعلمات، على أن أعود بعد أيام الامتحانات الأربعة مع زميلاتي من بنات دمياط، وأديت الامتحان الأول للسنة الثانية وأنا أقهر شعور الخوف من والدي، حتى إذا فرغت منه وأخذت أول قطار إلى دمياط عاودَني ذلك الخوف الذي أفلحتُ في مقاومته لمدى أيام، فعاد أقسى ضراوةً وحِدّة، وتدخّل الجد رحمه الله لحسم الموقف، فما زال بوالدي حتى انتزع موافقته المُكرهة على التحاقي بمدرسة (اللوزي – بنات)».

وتلفت المؤلفة إلى أنه يلاحَظ في السيرة الذاتية لعائشة عبد الرحمن هيمنة ثنائية «الهدف - تحقيقه»، فجاء الهدف نتيجة للمشكلة المتمثّلة في حرمان الكاتبة من التعليم، ويتمثل في إصرارها على إتمام تعليمها الذي حرمها منه الأب، وهو ما تحقّق بمساعدة الجد والأم والأهل والزملاء، وقبل كل ذلك بإصرارها نفسه.