من التاريخ: حضارة المايا

أحد أهرام المايا في المكسيك
أحد أهرام المايا في المكسيك
TT

من التاريخ: حضارة المايا

أحد أهرام المايا في المكسيك
أحد أهرام المايا في المكسيك

أذكر جيداً زيارتي لمدينة كانكون المكسيكية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي بصحبة أسرتي. وكان ضمن هذه الرحلة التي نظمتها الحكومة المكسيكية لإطلاق السياحة في شواطئ شبه جزيرة يوكاتان البديعة رحلة لمدة يوم إلى مدينة تشيتشين إيتسا الشهيرة التي تعد أحد مراكز حضارة شعب المايا Maya.
وأذكر جيداً أنني وجدت نفسي أمام هرم متوسط الحجم تحيط به الأدغال من كل جانب، وهو يختلف نوعاً ما عن الأهرام في مصر بكونه مدرّجاً. ومن الواضح أنه كان للأهرام استخدامات مختلفة، بدليل أن لها درجاً يؤدي إلى علٍ، لكنني لم أكن مدركاً في ذلك الوقت العمق الحقيقي لما يمثله هذا الهرم لحضارة لم أكن حتى على دراية بوجودها في سني المبكرة يومذاك. ومع ذلك استأت للغاية عندما سئل والدي فأجاب أنها حضارة عظيمة وأن أهرام يوكاتان ليست بعيدة عن أهرام مصر، في مجاملة أقل ما توصف به بأنها كانت مبالغة لم أكن على استعداد لقبولها. يومها دار بيني وبين والدي - رحمه الله - حوار ممتد فهمت منه أن حضارة المايا كانت حقاً عظيمة وكبيرة برغم من أنها تقل كماً وكيفاً وشكلاً عن الحضارة المصرية القديمة. ذلك أن الطبيعة الديموغرافية في المنطقة التي احتلتها هذه الإمبراطورية تختلف عن نظيرتها في مصر والعراق واليونان.
منذ ذلك الوقت سعيت عندما سمحت لي الظروف أن أقرأ مقتطفات عن هذه الحضارة من دون الخوض بعمق فيها، نظراً لأن تاريخها وثقافتها، بل ولغاتها، أمور مختلف عليها بين المؤرخين والمستكشفين وغيرهم، وبالتالي فإن تاريخها كان ويظل يحوم حوله الغموض.
الثابت تاريخياً أن حضارة المايا تركزت في المنطقة المعروفة اليوم بجنوب المكسيك أو ولايات يوكاتان وتاباسكو كامبيشي وتشياباس، إضافة إلى دولتي غواتيمالا وبليز وأطراف منهما. ويقدر أنها امتدت عبر قرون طويلة تصل إلى القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، إلا أن التطور الكبير لهذه الحضارة حدث بين القرن الثالث والقرن العاشر الميلادي، لكن الفترة الزمنية التي احتاجتها هذه القبائل لتكوين حضارتها أو إمبراطوريتها كانت ممتدة وطويلة بعكس الحضارات المعروفة لدينا في مصر والعراق واليونان.
والثابت تاريخياً أيضاً أن هذه الإمبراطورية كانت متحركة الحدود، بسب التوسع والانكماش الطبيعيين على مر الزمن، إذ إنها لم تثبت على نسق واحد كالحضارات الأخرى. وأغلب الظن أن مردّ ذلك إلى الطبيعة الجغرافية الوعرة لهذه المنطقة الممتدة التي كانت الأدغال والغابات تمثل جزءاً كبيراً منها، ومن ثم صعوبة خلق كيان متصل الأجزاء Contiguous، وهو ما جعلها تقارب حضارة اليونان قبيل توحيد الإسكندر الأكبر مناطقها ومدنها التي انطبقت عليها تسمية «الدولة - المدينة» City State، التي كانت تحكمها في بعض الفترات سلطة مركزية تختلف سيطرتها من فترة زمنية إلى أخرى وفقاً للظروف السياسية والاقتصادية السائدة.
ولقد استغرب كثير من المؤرخين حول كيفية إنشاء حضارة متوسطة القوة مثل المايا في منطقة مدارية محاطة بالغابات الكثيرة الأمطار، خاصة أن التكوين المعروف للحضارات كان يعتمد بشكل كبير على نظم ري مرتبطة بالأنهار لا الأمطار. ولعل هذا من المفارقات التي جعلت المؤرخين وعلماء علم الاجتماع يحتارون في تجسيد هذه الحضارة في أسئلة غير معلوم إجاباتها حتى الآن.
واقع الأمر أن حضارة المايا برغم كونها ممتدة، كانت لها قواسم ثقافية واجتماعية مشتركة بين مدنها، فالمدن بدأت من خلال القرى التي توسعت وارتبطت بسلسلة من المزارع. وهذه الأخيرة وفرت الغذاء للمدينة. هذا، وتركزت الزراعة أساساً على الذرة الصفراء التي كانت جزءاً هاماً من المنظومة الغذائية لكل منطقة أميركا الوسطى إلى جانب الفول والقمح والخضراوات. ومع توسع المدن أصبح هناك نوع من التوازن بين المجتمع الزراعي والحضري برغم تقارب المسافات، وهو ما مهد بطبيعة الحالة لظهور ثقافة قوية لدى شعب المايا ارتبطت بتطوير أبجدية هيروغليفية اعتمدت على الرموز والرسوم. ومن ثم، ربطت المدن المختلفة بمنظومة ثقافية متقاربة على الرغم من تعدد اللغات. ولعل ما أذهل العالم اليوم كان وجود تقويم زمني خاص بهذه الحضارة يعتمد على ثلاثمائة وستين يوماً للعام، وقسّم المايا الشهور وفقاً لذلك واعتبروا الأيام الخمسة المتبقية نذير شؤم غير مبرّر له. كما أن الحفريات أكدت ارتباطاً كبيراً للمايا بالفلك وحركته، وهو ما انعكس بدوره على إيجاد بعد روحي أو ميتافيزيقي لهم، تمثل في منظومة الآلهة التي خلقوها، سواءً لتفسير الظواهر الطبيعية أو الابتهال إلى إله يساعدهم في حياتهم ولإخضاع الطبيعة. وهذا ما يبرّر وجود آلهة للكثير من الخيرات التي ارتبطوا بها مثل الذرة والمطر وغيرهما. ولكن بعكس الآلهة في الحضارات المصرية واليونانية والرومانية على سبيل المثال فإن كبير الآلهة لديهم كان أنثى اعتبروها كبيرة الآلهة.
أيضاً ارتبطت بالمنظومة «الإلهية» هذه عملية القرابين أو الأضاحي البشري التي ابتليت بها حضارات أميركا الوسطى. وأغلب الظن أنها نبعت من حضارة المايا، إذ كان يُزعَم أن الآلهة بحاجة إلى قربان بشري لترضى عن عامة الناس، وهو ما جعل الكثير من أهرام المايا تحتوى على مذابح في أعلاها المذبح منها بشكل حجر عريض. وكان الكهنة يمسكون بالقربان أو الضحية، ويثبّتون أطرافه من كل الجوانب، ويقوم كبير الكهنة بشق صدره حياً وتكسير قفصه الصدري وإخراج قلبه النابض وسط ألم الضحية وصراخه وابتهالات العامة ثم تقطع أطرافه وترمي من فوق الهرم. ومن الاعتقادات السائدة حينذاك أن أكل أجزاء من الضحية البشرية من شأنه زيادة البركة الإلهية والخصوبة والعفو. ولقد انتشرت هذه العادة المقيتة وجرى تصديرها إلى الثقافات المجاورة مثل ثقافة شعب الأزتيك في وسط المكسيك، وباتت جزءاً من التقاليد القائمة إلى أن منعها الغزاة الإسبان بقوة السلاح وبرغم إرادة شعوب تلك البلاد.
من ناحية أخرى، لعل أكثر ما يحير المؤرخين هو سبب اندثار حضارة المايا، الذي جاء بشكل فجائي وغير مبرّر. إذ أفلت هذه الحضارة في القرن العاشر الميلادي تقريباً، وصاغ المؤرخون أسباباً مختلفة لهذه الظاهرة الغريبة، بعضهم لخص السبب في تغير فجائي بمنظومة الري المعتمدة على المطر، بينما رأى آخرون أن الأمر ارتبط بالزيادة السكانية المفاجئة التي صاحبها اضمحلال الغابات deforestation. وتعدّدت النظريات إلا أن الحقيقة لا تزال تائهة، وكل ما تبقى من هذه الحضارة هو أهرامها وتماثيلها وأبجديتها وبعض منتجاتها الثقافية.
كانت هذه رحلة خاطفة لأعماق حضارة المايا التي تلامست معها وأنا في سن مبكرة من عمري. وإذا كنت قد سعيت للتقليل من قيمة هذه الحضارة في ذلك الوقت ارتباطاً بحجم أهرامها وفقاً لقدراتي الفكرية في طفولتي، فإنني لم أبتعد كثيراً عن هذه الرؤية ولكن لأسباب لا علاقة لها بحجم الأهرام. فاعتقادي أن السبب وراء هذا الآن هو قلة المتاح من المعرفة حول هذه الحضارة، التي مما لا شك فيه أنها كانت عظيمة آنذاك بشكلها وهياكلها وثقافتها في إطار محيطها. إضافة إلى أنه من الظلم البيّن أن نقارنها بحضارات مصر واليونان وبلاد ما بين النهرين وشرق المتوسط لاختلاف الظروف والديموغرافية التي أثرت مباشرة على نسبة التطور والتمدن المقارن لحضارة المايا.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.