ما سر احتفاظ نتنياهو بالسلطة؟

8 سنوات متصلة من الحكم... رغم الانتقادات والشكوك

ما سر احتفاظ نتنياهو بالسلطة؟
TT

ما سر احتفاظ نتنياهو بالسلطة؟

ما سر احتفاظ نتنياهو بالسلطة؟

أمر عجيب يحصل للإسرائيليين. في كل استطلاعات الرأي التي أجريت من عدة معاهد أبحث أكاديمية، طيلة حكم بنيامين نتنياهو (منذ سنة 2009)، يقول غالبية الجمهور إنه ليس راضيا عنه. ولكن عندما يسألون أي رئيس حكومة يفضلون، نجده يحظى بأعلى الأصوات. ثم عندما يسألون لأي حزب سيصوّتون فيما لو أجريت الانتخابات اليوم، تظهر النتائج أن تكتل أحزاب اليمين الحاكم اليوم سيعزّز قوته. وفي أحد الاستطلاعات نشر «المعهد الإسرائيلي للديمقراطية» استطلاعاً بمناسبة مرور سنتين على الانتخابات الأخيرة وصدر في مطلع الشهر - 7 مارس (آذار) 2017 - وفيه قال 53 في المائة من المستطلعة آراؤهم إن نتنياهو لا يمارس مهمات رئيس الحكومة بشكل جيد (33 في المائة قالوا إنه يمارسه بشكل جيد)، وهي أعلى نسبة سقوط حتى بين وزرائه الآخرين. فوزير الدفاع في حكومته يحظى بتقدير من 44 في المائة ووزير المالية موشيه كحلون 46 في المائة ووزير الصحة 47 في المائة.
غالبية الجمهور الإسرائيلي غاضبة من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. وهي لا تصدق رواياته في التحقيقات الجارية ضده في شبهات الرشوة والفساد. بل حسب استطلاع أجراه معهد أبحاث جامعة تل أبيب في شهر فبراير (شباط) الماضي، قال 52 في المائة من الجمهور إنه سيكون على نتنياهو أن يستقيل من الحكومة إذا وجهت له لائحة اتهام، مع أن القانون لا يلزم باستقالة أو إقالة رئيس الحكومة قبل أن يدان في المحكمة. والمعروف أن نتنياهو يمارس خلال سنوات حكمه التسع - بلا انقطاع - المساس بالإعلام والجهاز القضائي وصلاحيات المحكمة العليا ويسن قوانين تنطوي على تراجع واضح في المفاهيم والقيم الديمقراطية. ومع ذلك، بين استطلاع آخر هو الذي أجرته «القناة العاشرة» للتلفزيون، هذه المرة، وبثته ليلة الخميس 16 مارس (آذار) أن نتنياهو سيكون صاحب أفضل الاحتمالات لتشكيل حكومة جديدة فيما لو جرت الانتخابات اليوم.
ما الذي يجعل الإسرائيليين متناقضين إلى هذا الحد؟ وما هو سرّ قوة نتنياهو؟
كيف يصمد هذا الرجل وهو الذي ينظر إليه كأكثر رؤساء الحكومات الإسرائيلية تردداً وجبناً، وأنه جبان لا يحسم في الأمور، كما أنه أكثر رؤساء الحكومات مجافاة للحقيقة وعنده من الصلف ما يجعله يزيف التاريخ، وأنه أيضاً أكثر رؤساء الحكومات رضوخاً للضغوط، وبالأخص من طرف معسكره اليميني؟

فنان في إدارة حرب البقاء
الجواب الأكبر على هذه التساؤلات هو أن نتنياهو يضع لنفسه هدف أن يبقى رئيس حكومة لأطول فترة ممكنة، فالرجل مغرم بالمنصب، ومستعد لعمل أي شيء يضمن له التمسك بالكرسي. بل كل ما يفعله يندرج تحت هذا البند: البقاء في الكرسي.
لا يهمه أن يقول الشيء ونقيضه، لا يرمش له جفن وهو يقول أمورا لا تمت للحقائق بصلة. لا يتردد في تغيير رأيه ومواقفه وقراراته في سبيل إرضاء أولئك الذين يعتبرون جمهور مصوتيه المحتملين.
في الانتخابات الأخيرة، أشارت كل استطلاعات الرأي إلى أنه سيخسر المعركة، إذ منحته الاستطلاعات 24 مقعدا فقط، في حين حصل منافسوه في المعسكر الصهيوني بقيادة يتسحاق هيرتسوغ وتسيبي ليفني 26 مقعدا. ولكن في الأيام الأخيرة وتحديداً، بل قبل ست ساعات من إغلاق صناديق الاقتراع، خرج بحملة يحذّر فيها اليهود من تدفّق الناخبين العرب إلى الصناديق «بواسطة حافلات بتمويل عربي وأجنبي». وهكذا أحدث انقلابا في الرأي العام، وزاد رصيده بستة مقاعد حاصلاً على 30 مقعدا بضربة واحدة.
حصل نتنياهو على هذه الزيادة بالأساس من منافسيه في اليمين. فحزب المستوطنين (البيت اليهودي)، الذي كان ممثلا في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) بـ12 مقعدا، هبط رصيده إلى 8 مقاعد، وحزب «يسرائيل بيتينو» بقيادة أفيغدور ليبرمان، الذي كان ممثلا بعشرة مقاعد هبط رصيده إلى 6 مقاعد، وهكذا استطاع زعيم الليكود تشكيل الحكومة الجديدة. وبالطريقة نفسها ينجح في الحفاظ على هذه النسبة من التأييد، إذ أنه يواصل دغدغة غرائز اليمين العنصري بالتحريض على المواطنين العرب (فلسطينيي 48)، وبسن قوانين خاصة لقمعهم وتقليم نفوذهم وبممارسة عمليات هدم لبيوتهم ومهاجمة قياداتهم.
أيضاً، النظام الانتخابي النسبة لملء مقاعد البرلمان يساعد نتنياهو على ذلك. فهو يفوز فقط بربع مقاعد الكنيست (30 من 120)، لكن القانون الإسرائيلي ينص على أن مرشح الكتلة الأكبر يعطى حق محاولة تشكيل الحكومة.
في الماضي كان حزب السلطة يحصل في الانتخابات على 40 و50 بل على 65 مقعدا. وبالتالي، نتنياهو هو رئيس الحكومة الذي حصل على أقل عدد من المقاعد في التاريخ الإسرائيلي. لكن ما يحصل عليه يكفيه لتشكيل الحكومة، لأن قوى اليمين من أحزاب أخرى (البيت اليهودي و«يسرائيل بيتينو») وقوى المتدينين المتزمتين (تحديداً «شاس» لليهود الشرقيين و«يهدوت هتوراة» لليهود الاشكناز) تقف إلى جانبه. قادتها وجمهورها لا يحبونه. نفتالي بنيت وأييلت شكيد وأفيغدور ليبرمان كلهم قد عملوا تحت قيادته وتركوه غاضبين ومحبطين. لكنهم يعرفون أنه الوحيد القادر على تشكيل حكومة يمينية بمشاركتهم. فشكلوا معه حلفاً من اللحظة الأولى، رغم أنه نجح بالأحابيل الانتخابية في خطف عشرات الألوف من ناخبيهم.

إسرائيل تجنح إلى اليمين
الحقيقة أن أحزاب اليمين في إسرائيل ازدادت قوة، بل ضاعفت قوتها بنسب عالية. في بدايات إسرائيل سيطر حزب العمل، الذي يمثل الجناح الاشتراكي الليبرالي في الحركة الصهيونية. وظل حزب العمل في الحكم بشكل متواصل حتى عام 1977، وكان يتحالف مع اليسار الصهيوني وكذلك مع الليبراليين وأحزاب الوسط الأخرى. إلا أن سياسة هذا الحزب، وإن كانت يسارية وسطية ليبرالية من الناحية الاقتصادية الاجتماعية، فإنها من الناحية السياسية - العسكرية قادت الحروب ونفّذت عمليات التشريد للفلسطينيين، في زمن نكبة 1948 وحرب 1956 ونكسة 1967، وهي التي ضمت القدس وهضبة الجولان السورية لإسرائيل، وهي التي وضعت أسس الاستيطان اليهودي في المنطق المحتلة، والتي غرست النبتات الأولى للسياسة العنصرية والغطرسة السياسية والعربدة العسكرية.
ولقد كانت هذه الأسس رافعة لقوى اليمين حتى انتصر بقيادة مناحيم بيغن عام 1977، واتضح أن الجمهور فضّل اليمين الأصلي على من يدير سياسة يمين ويحمل اسم اليسار أو الوسط.
في الانتخابات الأولى فاز حزب اليمين (وكان اسمه «حيروت» - الذي هو «الليكود» اليوم - ) بـ16 مقعدا فقط. وفي الانتخابات الثانية فاز بـ20 مقعدا. وفي الثالثة تراجع إلى 15، ثم حصل على 17 مقعدا في ثلاث انتخابات متتالية.
فقط عام 1973، بعد الفشل الإسرائيلي في حرب أكتوبر (تشرين الأول) من تلك السنة، حظي «الليكود» (وكان اسمه يومذاك «جاحل») بـ39 مقعدا وأخذ يهدد حكم «اليسار» (الذي تراجع نصيبه يومها من 56 إلى 51 مقعدا). وأخيراً، تحقق له الانتصار عام 1977، عندما حصل «الليكود» برئاسة بيغن على 43 مقعدا فيما تراجعت حصة العمل بقيادة شمعون بيريس إلى 39 مقعدا وخسر الحكم.
بعدها، فشل «الليكود» في الحكم واضطر في الانتخابات التي أجريت عام 1984 إلى تشكيل حكومة مشتركة مع حزب العمل. ثم خسر الحكم تماماً عام 1992 لصالح حزب العمل بقيادة «الجنرال» إسحق رابين. لكنه عاد إلى الحكم برئاسة نتنياهو عام 1996، ومع أن «الليكود» خسر أمام العمل تحت قيادة جنرال آخر هو إيهود باراك عام 1999، فإنه عاد إلى الحكم برئاسة جنرال ثالث هو أرئيل شارون. غير أن هذا الأخير اضطر إلى ترك الحكم، إذ دخل في غيبوبة لم يفق منها أبدا، فتولى الحكم إيهود أولمرت. ثم عاد نتنياهو واستمر إلى اليوم.
ومن نتائج الانتخابات وتوزيع المقاعد على أحزاب اليمين، يبدو بوضوح أن إسرائيل تذهب بمثابرة وإصرار نحو اليمين. وحسب آخر انتخابات، حظي «الليكود» بثلاثين مقعدا، والبيت اليهودي بثمانية، و«يسرائيل بيتينو» بستة، وحزبا المتدينين بـ13 مقعدا (7 للشرقيين و6 للاشكناز). كذلك حصل حزب «كولانو» برئاسة وزير المالية، موشيه كحلون، المنشق عن «الليكود» على 10 مقاعد. وهكذا غدا للائتلاف اليميني 67 نائباً من أصل 120 نائبا.
ولكن من ناحية سياسية، يرى البعض أن اليمين في إسرائيل يذهب نحو اليسار. ذلك أحزاب اليمين كانت ترفض أي تسوية مع الفلسطينيين. وكانت تضع شعارا يطالب بـ«أرض إسرائيل» الكاملة من البحر إلى النهر، وأكثر من ذلك - «للأردن ضفتان، هذه لنا وتلك أيضا». لكنهم تنازلوا عن شرقي الأردن، وراحوا يطالبون باعتباره (أي الأردن) الدولة الفلسطينية.
وما زال الكثير من أوساط اليمين يقدمون هذا الطرح إلى اليوم. إلا أن مناحيم بيغن وقّع على اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، وانسحب حتى آخر شبر من الأراضي المصرية المحتلة، وهدم بنفسه المستوطنات التي أقيمت في سيناء. ولقد تحوّل الأمر إلى سابقة، إذ أن سوريا طالبت إسرائيل بانسحاب مماثل (كامل وشامل) من هضبة الجولان. وحصل الأردن على اتفاق مماثل عام 1994.
وعندما وصل نتنياهو إلى الحكم لأول مرة عام 1996، أعلن موافقته على اتفاقيات أوسلو، ووقع على اتفاقيتين في إطار تطبيقها، فانسحب من الخليل ومن 13 في المائة من الضفة الغربية. وعندما تولى شارون الحكم أعلن موافقته على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية. وبسبب المعارضة داخل حزبه أحدث انشقاقا في «الليكود» وأسس حزبا جديدا مع شمعون بيريس (المنشق عن حزب العمل) وانسحب من قطاع غزة، وهدم بنفسه المستوطنات هناك، كما هدم 4 مستوطنات في شمالي الضفة الغربية.
وعندما وصل إلى الحكم يميني آخر تربّى في «الليكود»، هو إيهود أولمرت، عرض على الرئيس الفلسطيني حدودا للدولة الفلسطينية مساحتها تساوي 22 في المائة من مساحة الضفة الغربية مع ممرٍّ آمن لقطاع غزة وموافقة على تحويل القدس الشرقية إلى عاصمة فلسطين.
وحتى نتنياهو أعلن قبوله حل الدولتين عام 2009، وهذا أولا لاسترضاء دول العالم، لكنه أيضا لاسترضاء شريحة واسعة من المواطنين في إسرائيل. إذ حسب آخر استطلاع أجراه معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب ونشر في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، قال 59 في المائة من الإسرائيليين إنهم يؤيدون هذا الحل. واللافت أن 41 في المائة من أنصار الليكود في إسرائيل يؤيدون هم أيضا هذا الحل.

حرب الجنرالات
هنا يُطرح السؤال: لماذا إذن لا يتجاوب نتنياهو مع رغبة الغالبية وينفذ وعده في تطبيق حل الدولتين؟
هنا نعود إلى المربع الأول: نتنياهو يضع في المقام الأول الحفاظ على كرسيه. وهو يعرف أن هذا الكرسي يستند إلى اليمين المتطرف. فقد حصل على نسبة 60 في المائة من أصوات اليمين التقليدي، وعلى 37 ألف صوت (ما يعادل 18 في المائة) من أصوات المستوطنين. وهو يراهن عمليا على عدد من الأصوات يكفيه لثلاثين مقعدا.
ثم إنه يجري حساباته على الحقيقة بأنه لا يوجد مَن يهدّد مكانته من المعارضة. ذلك أن كل استطلاعات الرأي تشير إلى أن الجمهور لا يرى بديلا عنه بين المرشحين المنافسين في المعارضة. ففي استطلاع القناة الأول للتلفزيون الإسرائيلي أجري في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، قال 27 في المائة إنهم يفضلون نتنياهو وقال 16 في المائة أنهم يفضلون يائير لبيد، زعيم حزب الوسط «يوجد مستقبل» و7 في المائة فضلوا نفتالي بينيت وعدد مماثل فضلوا وزير الدفاع السابق موشيه يعلون، الذي ترك «الليكود» و5 في المائة فضلوا أفيغدور ليبرمان، و5 في المائة فضلوا يتسحاق هيرتسوغ. بينما قال 31 في المائة إنهم لا يرون أيا من هؤلاء المرشحين صالحا لمنصب رئيس حكومة.
وهناك محاولات كثيرة من شخصيات قيادية أخرى لخوض المعركة، بالأساس من صفوف الجنرالات الذين تسرحوا من الجيش، أمثال رؤساء أركان الجيش السابقين غابي اشكنازي ودان حالوتس وبيني غانتس، وحتى إيهود باراك، لملء الفراغ. لكن نتنياهو وقوى اليمين الأخرى تتابع نشاط هؤلاء وتحاربهم وتنشر القصص لتشويه سمعتهم. واستطلاعات الرأي تشير إلى أن هذا التشويه يترك أثره على الجمهور، وبالتالي لا يحظى أي منهم لما يكفي من الشعبية.
أيضاً، ثمة قوى تسعى لتوحيد صفوف هذه الشخصيات في إطار واحد أو تعزيز صفوف الأحزاب القائمة بضم تلك الشخصيات، لكن معارضي نتنياهو مبتلون بالنرجسية التي تمنع توحيد قواهم ضده. كل واحد منهم يرى نفسه قائدا أول، وليس مستعدا لاحتلال المرتبة الثانية أو الثالثة. ونتنياهو يستمتع بهذه الخلافات لأنها تؤدي إلى إبقائه المرشح الأقوى، رغم إخفاقاته الكثيرة.

المعركة الأخيرة
اليوم، يشعر نتنياهو بأن ما يقدر على كسر ظهره يأتي من جهتين: الشرطة والإعلام. فالصحافة الإسرائيلية تحاربه بشراسة، كما كانت تحارب كل رؤساء الحكومات وأكثر قليلا. وهي التي كشفت فضائح الفساد، التي دفعت الشرطة إلى التحقيق فيها.
من جانبه، حاول نتنياهو مجابهة هاتين القوتين بأسلوب لا يقل شراسة. فمن جهة جلب مفتشا عاما للشرطة ممن يثق بهم، هو روني الشيخ، وقد جاء به من جهاز المخابرات وفرضه على الشرطة. وعيّن سكرتير حكومته أبيحاي مندلبليت مستشارا قضائيا للحكومة وشاي نتسان مدعيا عاما. وهو يسعى إلى إدخال رجال اليمين قضاة في المحكمة العليا، وفي الوقت نفسه تولى بنفسه وزارة الإعلام ويسعى لإلغاء سلطة البث وإعادة بنائها من جديد وإحداث تغييرات في القنوات والإذاعات التجارية لزيادة تأثير ونفوذ الحكومة عليها.
وتدور حول الموضوع حرب وطيس. وفي بعض الحالات يحقق أرباحا، فيرهب صحافيين ويماطل في التحقيقات في الشرطة. إلا أن التحقيق المهني في الشرطة جار على قدم وساق وهناك قناعة لدى ضباط التحقيق بأن هناك أساسا متينا لتقديم لائحة اتهام ضده. كما أن الصحافة بشكل عام لم تستسلم. وتواصل انتقاد نتنياهو على سياسته في كل المجالات، بدءا بانعدام الأمن في زمنه إلى العزلة الدولية وعرقلة مسيرة المفاوضات وحتى الوضع الاقتصادي والفساد.
بيد أن القوة السياسية الأساس التي عليها واجب إدارة هذه الحرب، تبدو ساكنة تغط في نوم عميق. فمع أن هناك 53 نائبا في المعارضة، فإن صوتهم لا يسمع.
نتنياهو يعمل تقريبا بلا معارضة. وإسرائيل لا تشهد منذ إقامتها معارضة كسولة هزيلة عاجزة كما هي المعارضة اليوم.
رئيس المعارضة، هيرتسوغ، أمضى أكثر من سنة في مفاوضات مع نتنياهو كي يدخل حكومته تحت لافتة «تشكيل حكومة وحدة وطنية قوية قادرة على صنع السلام». وتدخلت الولايات المتحدة ومصر والأردن لترتيب دخول هيرتسوغ إلى الحكومة. لكن نتنياهو تراجع.
إنه يعرف أن مصلحة إسرائيل تقتضي التوجه إلى عملية سلام تجعله قائداً تاريخياً لإسرائيل، يقف في مصاف «مؤسس الدولة» ديفيد بن غوريون و«صانع السلام» مع مصر مناحيم بيغن و«صانع اتفاقات أوسلو والسلام مع الأردن» إسحق رابين. إلا أنه حتى الآن، لا يجد في نفسه الشجاعة في مواجهة رفاقه في «الليكود» ومعسكر اليمين، ولا في دفع ثمن السلام. وهو يشعر أن استمرار الوضع الحالي لا يضره، بل يبقيه رئيس حكومة، لا بل صاحب أطول فترة رئاسة بين جميع رؤساء حكومات إسرائيل.
وراهناً، تبني المعارضة حساباتها على أن يضطر نتنياهو للتزحزح عن موقفه هذا بدعم من الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب. فاليمين الإسرائيلي احتفل بانتخاب ترمب. وهو يأمل أن يتوقف الضغط الأميركي في موضوع الاستيطان وفي موضوع المفاوضات. بينما المعارضة الإسرائيلية تأمل أن يبادر ترمب لدفع عملية سلام تجبر نتنياهو على التحرك والتجاوب. أما المقربون من نتنياهو فيرون أن هذا هو الوقت المناسب لأن يعمل نتنياهو على تفجير أزمة ائتلافية وتقديم موعد الانتخابات كي يكسب مزيدا من الوقت في كرسي الرئاسة من دون أن يدفع أي ثمن.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».