فيراباند... طفل الإبستمولوجيا المشاغب

بلور رؤية ثارت على كل الأنماط والتنظيرات في حقلي العلم وفلسفته

فيراباند
فيراباند
TT

فيراباند... طفل الإبستمولوجيا المشاغب

فيراباند
فيراباند

يوصَف التصور الذي قدمه بول فيراباند (1924 - 1994) عن العلم، بكونه من أجرأ التنظيرات الإبستمولوجية التي عرفها القرن العشرون. والحق يجوز لهؤلاء الواصفين إطلاق هذا النعت، لكن الجرأة لم تكن ولن تكون ضمانة معرفية لصدقية نتاجها، فإذا كانت الجرأة النقدية شرطاً من شروط الإبداع، بما هو خرق للمألوف، فإنها ليست معياراً للصدقية والصواب. لكن الجرأة التي يمتاز بها فيراباند، تستحق أن نقف لنعاين ما الذي جعلها كذلك.
تكمن فرادة تصور فيراباند وجُرأَتُه، في بلورته لرؤيةٍ فوضويةٍ تثور على كل الأنماط والتنظيرات المعروفة في حقل العلم وفلسفته، حتى وصل الأمر بالبعض، إلى نعته بـ«طفل فلسفة العلوم المشاغب»، لشدة ثورته وشمولها الجميع. إن هذا «الطفل المشاغب»، المعجب أشد الإعجاب بتيار الدادائية في الفن، نراه استصحب معه حسّ الدادائي إلى مختبر العلم، وقلب كل الأنساق الإبستمولوجية المتداولة، إذ لا يثور فقط على التجريبيين الساقطين في تقديس النموذج الاستقرائي، بل حتى على الثائرين على هؤلاء. إنه يكاد يقف وحيداً ضد الجميع، ضد كارناب، وكارل بوبر، وناجل وهامبل، وتوماس كون... رافضاً كل محاولة إبستمولوجية تسعى إلى بناء نظرية تستهدف عقلنة الممارسة العلمية، لأنه يرى هذه الممارسة، محكومة على نحو جدّ معقد، بخليط من الأحكام المعرفية والجمالية، مع تصَوُّرات مسبقة ميتافيزيقية، ورغبات ذاتية.
كما شدَّد في نقد المؤسسات الجامعية، منتقداً المناهج التعليمية، ومنبهاً إلى خطورة الطريقة السائدة في تدريس العلوم في المدارس والجامعات، حيث يشير إلى أن هذا التدريس يتم على نحو مناقض لواقع الإبداع العلمي، إذ تسعى تلك المؤسسات التعليمية إلى إدخال عقول الطلاب في قوالب منهجية جاهزة، مع تحسيسهم بأنهم إذا ما فكروا وفق هذا القالب فهم على صواب، وإذا ما حافظوا عليه فسيصيرون علماء وسيبدعون ويضيفون! بينما لا إبداع إذا بقينا ضمن القوالب السائدة. فتطور العلم لا يجري أبداً بامتثال قواعد منهجية مسبقة، والدليل على ذلك، أن أغلب الكشوفات والاختراعات العلمية وأهمها، كان نتاج حدوس إبداعية خارقة لكل نمذجة منهجية جاهزة.
لذا يطالب فيراباند المؤسسات والجامعات بمراجعة نظمها التعليمية، حيث يشير إلى أن الأعراف والقواعد المنهجية المعتمدة داخلها، هي، في الغالب، موانع تحبس انطلاق العلم، بينما تظن أنها تساعده على الانطلاق والإبداع.
كما ينتقد فيراباند الإبستمولوجيات المتداولة، على اختلافها، بسبب انشغالها بالتأسيس المنهجي، حيث يسخر في كتابه «ضد المنهج» (Against Method)، الصادر سنة 1975، من ذلك الاعتقاد الشائع الذي يتصور العلم مجموعة قواعد منهجية محددة، مثلما يسخر من تلك المحاولات الفلسفية والعلمية التي أنتجها مختلف المفكرين الذين قصدوا إلى تحديد مفهوم العلم ومنهجه. ذلك لأن هذه التحديدات، لا تطابق واقع الممارسة العلمية كما يباشرها العلماء، لذا تبقى مجرد تنظيرات سطحية مخالفة للممارسة التي تتسم بتعقيد كبير.
هذا ما جعل فيراباند يعنون كتابه بـ«ضد المنهج»، مسطِّراً تحته عنواناً أكثر دلالة على فلسفته، وهو «مشروع نظرية فوضوية في المعرفة»، ناقداً بذلك، كل نمذجة وتنميطٍ للعلم، ومؤكداً ضرورة الانتقال من البناءات الميثودولوجية الجاهزة إلى قراءة العلم كما يمارَس.
لكن ماذا يجد فيراباند في تأمُّله بالممارسة العلمية؟
يلاحظ أنه لا توجد صيرورة فكرية منتظمة في صيغة منهجية محددة، كما يزعم علماء مناهج العلوم، فالعلماء في ممارساتهم الإجرائية، لا يبدعون العلم بناء على اتباع مبادئ وقواعد منهجية سابقة، بل إن الإبداع العلمي لا يتحقق إلا بمقدار الابتعاد عما هو سائد ومألوف. فالإسهامات العلمية التي جاء بها كبلر وغاليلي... هي نتاج الخيال لا نتاج امتثال لقوالب منهجية محددة. ومن ثم من العبث السعي إلى بناء نظرية حول العلم، فمثل هذا التأسيس والبناء أمر مستحيل، لأن العلم كما يتجلى في تاريخه، هو مجموعة ممارسات وطرق في التفكير ونتائج غير متجانسة، لذا يستحيل أن نخرج من هذا التعدد واللاتجانس ببنية منهجية متماثلة نؤسس بها نظرية للعلم. ولهذا فكل المحاولات التي أنجزها علماء الميثودولوجيا والإبستمولوجيا، أمثال رايشنباخ، وكارل بوبر، وتوماس كون، وحتى لاكاتوس أيضاً، الذين قصدوا تحديد ماهية العلم وتسطير منهجيته، هي محاولات فاشلة تقوم على اختزال التاريخ العلمي وإفقار تعدده، بإرجاعه إلى تصور نمطي أحادي.
وهنا لا بد من القول: لا يجب أن يُفهم رفض فيراباند للمنهج بكونه اعتقاداً بعدم وجود منهج في العلم، بل هو يرى أن في العلم مناهج متعددة لا منهج واحد، وحتى داخل حقل تخصصي محدد، ثمة تعددية منهجية. لكن هناك من يريد التغطية على هذا التعدد المنهجي، أو اختزاله في قواعد محددة استقرائية أو استنباطية، بينما ثمة حدوس ودوافع وتصورات كثيرة توجه البحث العلمي يجري إغفالها.
لكن ما الجديد في هذا؟ ألا نجد الكثير من علماء الإبستمولوجيا يشيرون إلى وجود تعدد منهجي؟
أجل، لكن فيراباند يختلف معهم من جهة، برفضه للمفاضلة بين المناهج، حيث يرى أن كل منهج جائز. لذا يدعو إلى عدم تقديس أي نموذج منهجي، ويختلف معهم من جهة ثانية، بتأكيده على أن الحقل العلمي تسوده موجهات ذاتية وميتافيزيقية ومصلحية أيضاً، لكن يتم التغطية عليها من أجل تقديم العلم بوصفه منتجاً للحقائق الموضوعية.
وهذا ما يرفضه فيراباند. فالتصور الشائع القائل إن العلم مسلك منهجي صارم له قواعده وخطواته الإجرائية التي تضمن الموضوعية بالفصل بين الذات والموضوع، تصور خاطئ، لأن الممارسة العلمية صيرورة معقدة ومتشابكة، تتعدد فيها المناهج، ويُمارَس فيها الخيال والحدس، وتتدخل الرغبات الذاتية، والشروط الثقافية والمجتمعية، في توجيه التفكير وتسييره.
من العبث أن نطلب من فيراباند، وهو الذي يدعو إلى نظرية فوضوية في المعرفة، بديلاً نقدياً لما يرفضه ويقوضه. فليس عنده بديل جاهز ومحدد يمكن معاينة قواعده، بل إن مشروع فيراباند هو نقد لكل جاهزية أو نمذجة نمطية محددة، ودعوة مفتوحة لفوضوية منهجية مطلقة. إنها ما يمكن أن نلخصه بقول فيراباند نفسه «كل شيء جائز»! فكل المناهج على اختلافها وتباينها يمكن أن تثمر في الممارسة العلمية، ولا مجال للمفاضلة بينها من أجل تثبيت منهجية محددة.
وخلاصة القول، يبقى فيراباند في نظري، إبستمولوجياً غارقاً في نسبوية مطلقة، فهو يقرأ العلم بمنظور دادائي رافض لكل نمطية وتقعيد. لكن على الرغم من مشاغباته أو لعله بفضلها - استطاع أن يفضح زيف لبوس الموضوعية الذي تتخفى وراءه المعرفة العلمية.



معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام
العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام
TT

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام
العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، 19 دولة عربية و12 أجنبية.

ويحلّ الأردن «ضيف شرف» على المعرض هذا العام. في حين أعلن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب اختيار العالم الجغرافي والمحقق اللغوي والمترجم الكويتي عبد الله الغنيم ليكون «شخصية المعرض».

وقال مدير المعرض، خليفة الرباح، إن اختيار الغنيم «جاء تقديراً لإسهاماته الكبيرة في الثقافتين المحلية والعربية، وهو ما تَجسَّد في حصوله على (وسام الاستقلال من الدرجة الأولى) من الأردن عام 2013 لدوره في إثراء قاموس القرآن الكريم، بالتعاون مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».

شغل الغنيم منصب وزير التربية خلال الفترة بين 1990 و1991، ووزير التربية والتعليم العالي بين 1996 و1998، ورئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية من 1992 حتى الآن، كما عمل أستاذاً ورئيس قسم الجغرافيا في جامعة الكويت بين 1976 و1985، وعضو مجمع اللغة العربية في سوريا ومصر، وعضو المجلس الأكاديمي الدولي لمركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد.

وذكرت عائشة المحمود، الأمين العام المساعد لقطاع الثقافة بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أن المعرض يقام هذا العام تحت شعار «العالم في كتاب» ليكون تعبيراً عن أهمية الكتاب ودوره في تقديم الثقافة للمجتمع.

وأضافت أن النشاط الثقافي المصاحب للمعرض يقام عبر 3 منصات مختلفة، هي «الرواق الثقافي» التي تم استحداثها العام الماضي بطابع شبابي، ومنصة «المقهى الثقافي» التي تقدم أنشطة بالتعاون مع مؤسسات النفع العام والمؤسسات الأهلية والجهات الحكومية، و«زاوية كاتب وكتاب» التي استُحدثت هذا العام لربط القارئ بالكتاب بطريقة مباشرة، وتتضمّن أمسيات لعدد من الروائيين.

وأشارت إلى أن مجموع الأنشطة المصاحبة للمعرض، الممتد حتى 30 نوفمبر (تشرين الثاني) بأرض المعارض في منطقة مشرف، يتجاوز 90 نشاطاً بما فيها الاحتفاء بالرموز الثقافية الكويتية والعربية.

وعدّ وزير الثقافة الأردني مصطفى الرواشدة، أن مشاركة الأردن في معرض الكويت الدولي للكتاب «تُعدّ تتويجاً للعلاقات الثقافية بين البلدين».

وأعرب، في بيان، عن شكره لدولة الكويت بمناسبة اختيار الأردن «ضيف شرف» للمعرض، مؤكداً أن «دولة الكويت كانت ولا تزال منارةً للمثقف العربي بتجربتها في الإصدارات الرائدة».

وأوضح الرواشدة أن المشاركة الأردنية تتمثل في هذا المعرض من خلال الجناح الذي صُمِّم هندسياً ليعبِّر عن النمط المعماري الحضاري والتراثي الأردني، بما يضمه من مفردات تتصل بثقافة الإنسان، إضافة إلى الرموز التاريخية والثقافية المتنوعة.

وأضاف أن المشارَكة في معرض الكويت الدولي للكتاب «تمثل ثمرةً تشاركيةً بين المؤسسات الثقافية الأردنية؛ لتقديم صورة مشرقة للمشهد الثقافي الأردني في تعدده وتنوعه وثراء حقوله الإبداعية».