صناعة النشر المصرية في خطر... فهل تتدخل الدولة؟

ارتفاع سعر الدولار وتكاليف الطباعة

محمد رشاد - فاطمة البودي - تبعات أزمة صناعة النشر ستنعكس على محتوى الكتب وقيمتها
محمد رشاد - فاطمة البودي - تبعات أزمة صناعة النشر ستنعكس على محتوى الكتب وقيمتها
TT

صناعة النشر المصرية في خطر... فهل تتدخل الدولة؟

محمد رشاد - فاطمة البودي - تبعات أزمة صناعة النشر ستنعكس على محتوى الكتب وقيمتها
محمد رشاد - فاطمة البودي - تبعات أزمة صناعة النشر ستنعكس على محتوى الكتب وقيمتها

تعاني صناعة النشر المصرية أزمات كثيرة بدأت بتزوير الكتب، وأضيفت إليها الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تسبب فيها ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه، فتضاعفت أسعار الكتب نحو ثلاثة أضعاف، وأصبحت دور النشر مهددة بعد أن اضطرت إلى تقليص عدد الموظفين أو إغلاق فروع لمكتباتها؛ مما أدى إلى تزايد المناشدات بتدخل الدولة لدعم صناعة النشر وإنقاذها. «الشرق الأوسط» استطلعت آراء بعض الناشرين المصريين؛ للوقوف على أبعاد الأزمة والحلول الممكنة من وجهة نظرهم...
تقول الناشرة الدكتورة فاطمة البودي، مؤسسة ومالكة دار «العين» للنشر: إن «ارتفاع سعر العملة الأجنبية أثر على مراحل النشر كافة، بداية من سعر طن الورق الذي وصل سعره 18 ألف جنيه، بعد أن كان 8 آلاف جنيه، ومرورا بتكلفة الطباعة والعمالة. ولكن، ورغم ارتفاع الأسعار فإن هناك إقبالا كبيرا على القراءة، وبخاصة في الفئة العمرية ما بين 30 إلى 40 سنة، وهو ما يعطينا دفعة للاستمرار». وعن كيفية التعاطي مع الأزمة، أشارت إلى أن «دور النشر تحاول مواجهة أزمة الارتفاع الجنوني للأسعار بتقليص عدد العناوين التي تقوم بنشرها، أو طبع نصف عدد كتب الطبعة الواحدة، فمثلا نطبع 500 نسخة أولا، ثم نستكمل طباعتها قرب نفادها لنستكمل الألف نسخة». وتطالب البودي الدولة بالتدخل لإنقاذ صناعة النشر ودعم دور النشر الخاصة؛ «لأنها الوحيدة التي يمكن أن تقدم الحل من خلال تخصيص ميزانية للمكتبات المدرسية والجامعية والعامة لتقوم بشراء الكتب، وإطلاق مبادرات وحملات للتوعية بأهمية القراءة».
ويلقي الناشرون والمثقفون المصريون اللوم على الدولة بتخليها عن دعمها صناعة الثقافة بشكل عام وصناعة النشر بوجه خاص. فلا توجد مشروعات جديدة تدعم صناعة الكتب وتشجع القراءة سوى مشروع «مكتبة الأسرة» الذي أطلق في تسعينات القرن الماضي.
ويتفق رئيس اتحاد الناشرين العرب، محمد رشاد، مع الآراء الداعية إلى ضرورة تدخل الدولة لدعم صناعة النشر، لافتا إلى أن اتحاد الناشرين العرب قدم مذكرة للأمين العام لجامعة الدول العربية يطالب فيها بتدخل الحكومات العربية لدعم صناعة النشر. وكشف رئيس «الاتحاد»، عن أن أزمة النشر ستكون محورا أساسيا على مائدة النقاش في مؤتمر وزراء الثقافة العرب الذي سينعقد في مصر في عام 2018. ودعا رشاد إلى ضرورة تحرك الدول واتخاذ إجراءات قانونية رادعة ضد مزوري الكتب الورقية وقرصنة الكتب إلكترونيا؛ لأنها تهدد صناعة النشر في الوطن العربي ككل.
«تبعات أزمة صناعة النشر ستنعكس على محتوى الكتب وقيمتها»، هذا ما يقوله الناشر فادي جريس، صاحب «دار الأنجلو المصرية». وهو يرى أن الأزمة ستظل مستمرة بسبب ارتفاع سعر الدولار الذي يحكم تعاملات الناشرين وتجار الورق والمطابع، ويقول: «طالما أن الدولار غير متوافر فلن تنتهي الأزمة؛ الناشر يضطر إلى رفع سعر الكتاب لأنه مطالب بدفع مبالغ مالية باهظة خلال مراحل صناعة الكتاب، وفي حالة استيراد كتب من خارج مصر فإنه يضطر إلى شراء الدولار الذي يصل سعره إلى ما بين 18 و20 جنيها أحيانا، لاستيراد الكتب». ويشير إلى أن «بعض دور النشر أصبحت، بالتالي، تطالب المؤلف بدفع نفقات الطباعة التي تصل إلى 20 ألف جنيه، أو أنها أصبحت تنتقي العناوين التي تضمن أن تحقق لها مبيعات، وهذا سيأتي بتبعات خلال الفترة المقبلة على محتوى الكتب».
ولا يعتبر جريس الكتاب الإلكتروني طوق نجاه من الأزمة، وبخاصة أن له تجربة مع التسويق للكتاب الإلكتروني، ويقول: «في الحقيقة لا تجد الكتب الإلكترونية إقبالا، إضافة إلى ارتفاع تكلفتها أيضا، التي تتم في مراحل معينة بالدولار أو اليورو؛ لأنها تتم عبر الإنترنت، كما أن الغالبية العظمى من القراء تفضل الكتب الورقية».
أزمة ارتفاع سعر الدولار ليست هي الوحيدة التي تؤثر بشكل مباشر على الناشرين، بل تفشي ظاهرة تزوير الكتب بشكل فج، التي أثرت أيضا على ذائقة القراء وابتعادهم عن الكتب الأصلية؛ ما أضر بالناشرين ضررا فادحا. وطرح بعض الناشرين حلولا مغايرة من طباعة طبعات شعبية أقل جودة من الكتب مرتفعة الثمن، في مواجهة عمليات التزوير التي تتيح الكتب لدى باعة الجرائد فور نشرها.
ويقول الناشر محمد البعلي، صاحب دار صفصافة للنشر والتوزيع: إن «أزمة النشر تأتي ضمن أزمة اقتصادية كبرى تتضمن غلاء كل متطلبات المعيشة، وتراجع القدرة الشرائية لدى المواطن المصري الذي أصبح يفضل أن يؤمّن لأسرته المأكل والمشرب، وتأتي الكتب في ذيل قائمة اهتماماته». وأكد البعلي أن «الناشر المصري رغم تقليصه هامش الربح، لكنه لن يتمكن من الاستمرار إلا إذا قامت الدولة بتقديم تسهيلات وامتيازات لمصانع الورق، أو تقليص الجمارك على الورق المستورد، وتفعيل الرقابة على الأسواق». ولفت إلى أن أزمة الكتب المترجمة أكبر، وبخاصة أن الناشر يتعاقد مع المؤلف بالعملة الصعبة التي لا يمكن توفيرها بسهولة.
ويعتبر البعلي أن «أزمة تزوير الكتب تفاقم من أزمات الناشرين المصريين، فمثلا يلجأ المواطن إليها لأنها توفر له الكتاب الذي ثمنه 75 جنيها بنحو 25 جنيها، وهو ما يحتاج إليه القارئ الذي لا يهتم بجودة الورق أو نوعيه الطباعة، بل بالمحتوى والحصول على الكتاب».



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.