همزات الوصل بين «داعش» والجماعات المسلحة في ليبيا

بعضها شخصيات مذهبية «خالصة».. وأخرى تعمل لصالح جهات خارجية

متظاهرون يحتجون في مسيرات على تواجد الميليشيات المسلحة في شوراع العاصمة طرابلس (أ.ف.ب)
متظاهرون يحتجون في مسيرات على تواجد الميليشيات المسلحة في شوراع العاصمة طرابلس (أ.ف.ب)
TT

همزات الوصل بين «داعش» والجماعات المسلحة في ليبيا

متظاهرون يحتجون في مسيرات على تواجد الميليشيات المسلحة في شوراع العاصمة طرابلس (أ.ف.ب)
متظاهرون يحتجون في مسيرات على تواجد الميليشيات المسلحة في شوراع العاصمة طرابلس (أ.ف.ب)

بينما تنجرف ليبيا سريعا نحو مزيد من الفوضى، وبخاصة في مناطق غرب البلاد، تنتشر خلايا تنظيم داعش في الكثير من البلدات والمدن الليبية، جنبا إلى جنب الكثير من الجماعات المسلحة، بطريقة مثيرة للاستغراب، بما في ذلك محاولات التنظيم للعودة إلى سرت التي جرى الإعلان عن طرد «داعش» منها في أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وبما في ذلك أيضا مشاركة عناصر داعشية في الهجوم على الموانئ النفطية قبل أسبوعين، ضمن خليط من ميليشيات جهوية ومذهبية مختلفة. وتلعب شخصيات مما يطلق عليها «شخصيات الصف الأول في (داعش)»، داخل ليبيا دورا كبيرا في التنسيق مع جماعات مسلحة أخرى تنتشر في عموم ليبيا، معظمها من الموالين للجماعة المقاتلة، ولجماعة الإخوان. ويجري خلال اللقاءات السريعة التي تجرى بعيدا عن الأضواء، تبادل المبررات الفقهية للتعاون والعمل المشترك؛ استنادا إلى مقولات تعود إلى القطب الإخواني سيد قطب، وإلى مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا، وإلى قيادات أخرى تتبنى التفسير المتشدد للدين.
بحلول منتصف هذا الشهر، تمكن عدد من قيادات «دواعش ليبيا» من العودة إلى مدينة سرت، بعد أن جرى «طبخة فقهية» جعلت بعض الميليشيات الموالية لأحد متصدري الفتوى السابقين في ليبيا وهو (خليط إخواني - قاعدي)، تتقبل تفسيرات وفتاوى تصب في صالح التعاون مع «داعش».
ووفقا لتحقيقات تجريها المخابرات الليبية مع موقوفين من «داعش»، في كل من مصراتة وطرابلس، فقد رجع إلى سرت مجددا قادة من التنظيم لاستطلاع الأوضاع؛ تمهيدا للتمركز في المدينة مرة أخرى. ومن هؤلاء القادة «أبو إسحاق»، صومالي الجنسية، و«أبو المهاجر» ليبي الجنسية، و«أبو عبد الله» مصري الجنسية، وأشهر من كان يرفع شعار «جئناكم بالذبح»، انطلاقا من سرت، و«أبو حيدرة» تونسي الجنسية، وغيرهم.
حين توجهت هذه القيادات الداعشية إلى سرت، ومعها بعض العناصر المسلحة، لم تأخذ الإذن من الموالين للقوات المحسوبة على «دار الإفتاء»... ورغم التفاهم بين الطرفين، إلا أن مجموعة «دار الإفتاء» رأت في التحرك المنفرد للدواعش، إهانة، وتدخلت لمنعهم من الوصول إلى هناك، لكن الدواعش ردوا بعنف، وأطلقوا قذائف الـ«آر بي جيه» على السيارات الخمس التي وصلت لتوقيفهم على حدود سرت.
يقول مصدر أمني: «لم يكن أحد يتخيل حدوث مواجهة بينهما، فهما كانا حتى يومين سابقين يحاربان معا الجيش الوطني في الموانئ النفطية؛ ولهذا سارع خصوم حفتر باتهام الجيش بأنه هو من هاجم ميليشيات (دار الإفتاء) قرب سرت، بينما رد موالون لحفتر بأن الاشتباكات كانت بين بقايا قوات (البنيان المرصوص) المتمركزة في سرت والدواعش». ويضيف: «على كل حال جرى معالجة الموقف سريعا، بعد أن قتل (داعش) ثلاثة من المحسوبين على قوات دار الإفتاء. وبعد مفاوضات تم السماح للقيادات الداعشية باستكمال مهمتها الاستطلاعية داخل سرت».
ومن بين الدواعش الذين يجري التحقيق معهم لدى إدارة الاستخبارات العسكرية في مدينة مصراتة، تونسي يدعى زهير. وتمتلك مصراتة، الواقعة قرب العاصمة في غرب ليبيا، كتائب وميليشيات ومخابرات تعمل بمعزل عن السلطات الشرعية المتمثلة في البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، في شرق البلاد، وهو البرلمان المنبثق عنه كل من الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الله الثني، والجيش بقيادة حفتر.
وتنتشر كتائب وميليشيات محسوبة على مصراتة في طرابلس وفي سبها جنوبا. كما أن الغالبية العظمى من عناصر «قوات البنيان المرصوص» التي أشرف عليها المجلس الرئاسي المدعوم دوليا، كانت من مصراتة. وأدت إصابة آمر الاستخبارات العسكرية في مصراتة، العميد إبراهيم بيت المال، في قصف على منطقة الجفرة قبل شهرين، إلى ارتباك ملحوظ في العمل الخاص بملاحقة «داعش». ويعالج بيت المال حاليا في ألمانيا، بعد أن تمكن طوال العامين الماضيين من كشف ألغاز التنظيمات المتطرفة وعلاقاتها مع جهات خارجية، ومنها «داعش» و«المقاتلة» و«الإخوان».
وتواصل عناصر استخباراتية في مصراتة التحقيق مع قيادات داعشية من تلك التي جرى القبض عليها في فترة عمل العميد «بيت المال» وما بعدها أيضا. ومن هؤلاء التونسي زهير الذي جرى اعتقاله مطلع هذا الشهر أثناء مهمة لـ«داعش» على مشارف بلدة بني وليد الواقعة على بعد 180 كيلومترا جنوب شرقي طرابلس. واعترف زهير للمحققين بأنه كان في السابق من عناصر وحدة العمليات الخاصة التابعة للجماعة الليبية المقاتلة. وأنه انتقل بتوجيهات من «الجماعة» للاشتراك في الحرب على رئيس النظام السوري بشار الأسد.
واستمر في سوريا حتى مطلع عام 2012، حيث صدرت له تعليمات من الجماعة المقاتلة بالعودة إلى ليبيا، التي دخلها من مطار في بنغازي، وهو المطار الذي كان في ذلك الوقت يخضع لهيمنة كل من الجماعة المقاتلة وجماعة الإخوان.
وتضيف اعترافات الداعشي التونسي، أنه بعد محطة بنغازي، انتقل بناء على رغبة الجماعة المقاتلة، إلى العاصمة، حيث انخرط ضمن ما يعرف بـ«كتيبة ثوار طرابلس». واستمر هناك إلى أن أعلن تنظيم داعش تأسيس أول مركز له في شمال أفريقيا حين احتل مدينة سرت في عام 2015. وبحسب اعترافات زهير للمحققين، فقد انتقل إلى سرت للعمل مع «داعش»، بينما ظلت علاقته مستمرة مع اثنين من كبار القيادات الرئيسية في «الجماعة المقاتلة» بطرابلس، وتلقى منهما مساعدات مالية لكي يستقر مع «داعش» في سرت، بلغ قدرها 200 ألف دولار جرى توصيلها إليه عن طريق صومالي يدعى «الأتربي».
وظل «الأتربي» همزة وصل بين القياديين في الجماعة المقاتلة وزهير لشهور عدة، بما فيها الفترة التي كانت فيها «قوات البنيان المرصوص» تشن الحرب على التنظيم في سرت. وتضمنت اعترافات زهير الهدف من وجوده في سرت وتلقيه الأموال من قادة في «الجماعة المقاتلة»، حيث قال، وفقا للتحقيقات التي أمكن الاطلاع على جانب منها، أنه كان يدير مجموعة داعشية في سرت تعمل وفقا لتعليمات من قادة في «الجماعة المقاتلة» في طرابلس، وأن هذه الأموال كانت مخصصات لهم.
وتابع زهير في اعترافاته، إن مجموعته «كانت تزود قادة في (المقاتلة) بمعلومات عن مبعوثين أجانب يدخلون إلى سرت ويلتقون بزعماء تنظيم داعش، وعن زوارق تصل بمقاتلين وأسلحة من البحر إلى سرت، وغيرها من التفاصيل داخل المدينة»، وأضاف أنه سلم لقادة في «الجماعة المقاتلة» تسجيلات ومقاطع مصورة ووثائق ورقية عن أنشطة التنظيم.
وقال زهير أيضا، بحسب اعترافاته، إنه صدرت إليه تعليمات بعد ذلك بالسفر إلى إحدى الدول بمنطقة الشرق الأوسط رفقة القيادي المشار إليه في «الجماعة المقاتلة»، والتقيا معا أطرافا في تلك الدولة، وجرى التحدث عن الوثائق التي سبق وأرسلها عن «داعش» في سرت، والثناء على دوره. وتابع زهير، أنه بعد تلك الزيارة التي أعقبت خروج تنظيم داعش من سرت، كلفه القيادي في «الجماعة المقاتلة» بالالتحاق مع باقي عناصر «داعش» التي أخذت تنشط حينذاك داخل مدينة مصراتة.
ووفقا لمحقق كان يشرف على استجواب زهير، فإن هذا التونسي يؤمن بأن ما كان يقوم به داخل «داعش» هو خدمة للتنظيم وليس خيانة له كما يعتقد البعض، حيث يزعم أن المعلومات التي قدمها عن تحركات التنظيم ساعدت في إنقاذ مقاتليه من الهلاك طوال ثمانية شهور من حرب «قوات البنيان المرصوص» على «داعش» في سرت. وأشار المحقق إلى أن زهير عمل داخل مجموعتين داعشيتين أخريين تنشطان على الحدود الليبية التونسية، وأشرف على إدخال مجاميع متطرفة من تونس إلى بلدات ليبية مجاورة للحدود منها صبراتة وزوارة.
ويبدو من استجواب زهير أنه معروف بشكل جيد للكثير من التنظيمات المتطرفة على الحدود الليبية التونسية منذ مطلع العام الماضي، ومنها تنظيم «جند الحق» على الجانب الليبي من الحدود، الذي يعرف كذلك باسم تنظيم «جند الخلافة» على الجانب التونسي من الحدود. ويقول المحققون إن «زهير تردد أيضا على قيادات من (داعش) ومن (الجماعة المقاتلة) من بلدة صبراتة في شهر يوليو (تموز) الماضي، حيث جمعهم لقاء مثير للاستغراب في منطقة (استراحة المصيف) قرب (غوط الشعال) غرب طرابلس».
وبحسب اعترافات زهير، فقد كان معه تسعة مقاتلين دواعش، قادمون معه من تونس، وتناول وجبة الغداء مع قيادات من الجماعة المقاتلة من منطقة غوط الشعال، بينهم أستاذ في المعهد الديني للطلائع الموجود بالمنطقة، ومن دواعش صبراتة أيضا، إضافة إلى شخصيات موالية لـ«قوات دار الإفتاء».
وقال زهير: إنه وقعت خلافات بين هؤلاء، عقب الغداء، بشأن الوجهة التي ينبغي عليه أن يسلكها مع المقاتلين القادمين معه من تونس... «كان يفترض تسليم من معي لـ(قوات دار الإفتاء)، قرب مصراتة، لكن زعيم في (الجماعة المقاتلة) طلب أن نواصل طريقنا إليه، حيث كان ينتظرنا داخل طرابلس... وتسلم جميع العناصر التونسية، وتبين أنه كان هناك اتفاق مسبق على هذا بين قادة كبار من (الإفتاء) و(المقاتلة)».
وجرى اعتقال زهير يوم السادس من الشهر الحالي، أثناء عودته ليلا من مهمة مع زعيم داعشي من مالي يدعى الأنصاري. وجاء في اعترافات التونسي، أن القيادي في الجماعة المقاتلة المشار إليه هو الذي عرفه بالأنصاري، حيث قابل هذا الأخير في مقر لشركة تتبع الدولة التي سبق وسافر إليها مع قيادي «المقاتلة» نفسه. ويقع مقر الشركة على الحدود الليبية التشادية. ومن هناك تم الاتفاق على أن يتولى زهير نقل العناصر الماليّة التابعة للأنصاري، إلى كل من مدينة سبها في الجنوب الليبي، ومدينة بني وليد شمالا. وقال زهير إن «قيادي (المقاتلة) هو من سدد أموال العملية».
وبحسب التحقيقات، فقد ترك كل من الأنصاري وزهير، نصيبا من المقاتلين الذين يقدر عددهم بالعشرات، في سبها، ثم توجها معا شمالا، عبر الصحراء، إلى مدينة بني وليد. واصطدم الرجلان بقوات من «البنيان المرصوص» على مشارف المدينة؛ ما تسبب في هرب الأنصاري بمجموعته في اتجاه بني وليد، والقبض على زهير.
ومن المعروف أن بني وليد التي تسكنها قبيلة «ورفلة» على خصومة كبيرة مع مصراتة التي ينتمي إليها غالبية مقاتلي «البنيان المرصوص». ويقول المحقق: «لم نتمكن من ملاحقة باقي قوات الأنصاري... لقد اختفت في بني وليد، وهذا أمر يصعب التعامل معه في الوقت الراهن بسبب الحساسية القبلية بين ورفلة ومصراتة».
ومن بين همزات الوصل الأخرى التي ظهر لها دور في الربط بين «داعش» وعدد من الجماعات المسلحة في ليبيا، رجل ليبي يعد من ذوي الحيثيات الكبيرة في أوساط المسلحين في كل من مصراتة وطرابلس والجفرة وسبها. وتقول تحقيقات الاستخبارات العسكرية الليبية إنه استقبل في الجفرة عشرات من مقاتلي تنظيم «بوكو حرام» الموالي لـ«داعش»، بقيادة النيجيري غيال، الذي ينشط في شمال النيجر. وشارك الرجل الليبي نفسه في قيادة الميليشيات المتطرفة التي شنت الحرب الأخيرة على قوات الجيش في الموانئ النفطية.
وتتمركز مجموعة من «بوكو حرام» في الوقت الراهن في سبها، بالتنسيق مع الليبي المشار إليه، رغم أن غيال كان من القيادات التي تحارب «قوات البنيان المرصوص» في سرت. وتقول التحقيقات إن «غيال، الذي يتردد على ليبيا منذ عام 2011 انضم إلى قادة من الجماعة الليبية المقاتلة ومن (الإخوان)، عقب نجاته من غارة جوية استهدفت اجتماعا كان يشارك فيه مع الجزائري مختار بلمختار، أحد قيادات تنظيم القاعدة في شمال أفريقيا»، مشيرة إلى أن الداعشي النيجيري سبق واشترك كذلك في صفوف موالين لجماعة الإخوان و«الجماعة المقاتلة» وهم يحاربون ضد الجيش الليبي في درنة وبنغازي.
همزة وصل أخرى تربط بين «داعش» وبعض الجماعات المسلحة في ليبيا، من خلال قيادي موجود داخل تنظيم يسمى «الفاروق». وتدخل هذا القيادي للإفراج عن سبعة مصريين من دواعش سيناء، في منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، بعد أن فروا من مدينة إجدابيا الواقعة غرب بنغازي، أمام ضربات الجيش الليبي. وشاركت عناصر من تنظيم «الفاروق»، مع قوات تابعة لـ«المقاتلة» ولـ«الإخوان»، في تدريبات عسكرية داخل مدينة تاورغاء المهجورة والمجاورة لمدينة مصراتة، قبل أن يلتحقوا بباقي قوات المسلحين في مركز تجميع القوات المناوئة لحفتر في قاعدة الجفرة.
ويعد قيادي آخر فيما يعرف بـ«الحرس الوطني» من همزات الوصل المهمة بين «داعش» والكثير من المجاميع المسلحة. كان هذا القيادي يعمل مع زعيمي «داعش» في ليبيا: «أبو الليث»، ليبي الجنسية، و«أبو طلحة» لبناني الجنسية. وتقول تحقيقات المخابرات الليبية إن «القيادي في (الحرس الوطني) شارك في مد (داعش) في سرت بالأسلحة خلال الحرب بين التنظيم و(قوات البنيان المرصوص)، رغم أنه دخل إلى سرت تحت راية (البنيان المرصوص)، وأن الاستخبارات العسكرية في مصراتة كشفت تواطؤه مع (داعش) وأوصت بسحبه من سرت حينذاك لهذا السبب. وجرى ترشيح هذا الرجل ليكون قياديا في (الحرس الوطني) في حكومة الإنقاذ، قبل شهر، بتوصية من مجاميع مسلحة موالية لكل من (دار الإفتاء) و(الجماعة المقاتلة) و(الإخوان)».
همزة وصل أخرى لا تقل أهمية عن كل ما سبق، وهي عبارة عن غرفة عمليات خاصة جرى تأسيسها قرب الحدود الليبية التونسية مع الجزائر، ناحية بلدة غدامس، وتم تكليف تونسي من منطقة بن قردان، يدعى «أبو مصعب»، بإدارتها. والهدف من الغرفة بحسب المصادر الأمنية، تسهيل عملية جمع المسلحين من «داعش» ومن التنظيمات الأخرى، بما فيها تلك الموالية لـ«القاعدة» و«الإخوان»، وإخضاعهم للتدريب قبل إعادتهم إلى بلدانهم مرة أخرى عبر الحدود الصحراوية الشاسعة.
ومن بين الشخصيات النشطة في غرفة العمليات هذه رجل يلقب بـ«الشيشاني»، وله علاقات واسعة في تلك المنطقة مع تجار مخدرات ومهربين، وبخاصة في الدروب الصحراوية بين ليبيا والجزائر، ومنها درب البرمة، ودرب تيمارولين. وبالإضافة إلى من وصل إليها من العشرات من المتطرفين التونسيين والجزائريين ومن «بوكو حرام»، استقبلت الغرفة أكثر من 200 مقاتل ممن فروا من العراق وسوريا في الشهور القليلة الماضية.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.