اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد

ارتياح أوروبي عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات العامة

اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد
TT

اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد

اليمين الهولندي المتشدد... جزْر بعد مد

كان الطقس بديعا للغاية. شمس مشرقة، ونسمة ربيع حانية، وطبيعة خلابة في هولندا، في يوم التصويت لاختيار أعضاء البرلمان، وهو طقس مخالف تماما لما كان عليه في اليوم الذي سبقه... وكأن الظروف المناخية أرادت أن تلعب دورا في تشجيع المواطنين على الخروج للتصويت. وبالفعل، سجلت نسبة إقبال كبيرة وصلت إلى 80 في المائة، وهي نسبة لم تسجل في هولندا منذ سنوات طويلة.
ومن ثم، حمل إعلان النتائج أخباراً جيدة للغاية، ليس فقط للهولنديين سواءً من سكان البلاد الأصليين، أو من المهاجرين من أصول إسلامية، بل أيضاً للأوروبيين. إذ فاز الحزب الليبرالي بقيادة رئيس الحكومة مارك روتي محتلاً المرتبة الأولى، بينما حل حزب الحرية اليميني المتطرف الذي يقوده خيرت فيلدرز المناهض للإسلام في المرتبة الثانية.
يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة في هولندا بعد الانتخابات العامة التي أجريت هذا الأسبوع مفاوضات صعبة وطويلة لتشكيل ائتلاف حكومي جديد. ولقد علق كثير من المراقبين على ما شهدته معركة الانتخابات من تطورات مختلفة.
وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط» قال نور الدين العمراني، الإعلامي والباحث في قضايا الأقليات في هولندا، معلقاً: «لأول مرة في تاريخ الانتخابات الهولندية، ومنذ 30 سنة، فاقت نسبة مشاركة الناخبين نسبة الـ80 في المائة. ولأول مرة في التاريخ البرلماني شارك الشباب الهولندي بكثافة في عملية التصويت لاختيار نواب برلمانيين للظفر بالكرسي الأزرق بالبرلمان. وبالتالي، اختيار ممثلي الحكومة المقبلة». وتوقع العمراني أن تتقدم الأحزاب الفائزة إلى مشاورات أو مفاوضات «ماراثونية» لتشكيل حكومة ائتلافية سيكون مكوّنها الأكبر الحزب الليبرالي برئاسة روتي، المرشح الآن لفترة رئاسية ثالثة.
أمام التهويل السياسي والإعلامي المراهن على فوز المتطرف فيلدرز، الذي تقدم للانتخابات بورقة شعبوية كبرنامج انتخابي، اندفع الهولنديون إلى إعطاء أصواتهم لليبراليين في تصويت ضد الكراهية والتحريض. مع العلم بأن ورقة فيلدرز التحريضية كرّرت التعبير عن مواقفه الداعية إلى منع تداول القرآن الكريم، وإغلاق الحدود بوجه المهاجرين واللاجئين، والتصدي لما يسميه «أسلمة المجتمع الهولندي».
لقد قال الشعب كلمته، وتلقى الزعيم المتطرف صفعات متتالية ليلة إعلان النتائج. ولكن، في المقابل، كانت هذه الانتخابات قاسية جداً على حزب العمل (يسار الوسط) الذي فقد مقاعد كثيرة ودفع ثمناً سياسياً باهظاً نتيجة دعمه للإصلاحات السياسية والاقتصادية لليبراليين. أما حزب اليسار الأخضر الذي يقوده جيسه كلافر - ذو الأصول المغربية - فقد استطاع أن يعيد للحزب مكانته الطبيعية كمكوّن يساري يدافع عن المحرومين من هولنديين ومهاجرين على حد سواء. وحصل حزب «دينك» Denk ذو المرجعية الإسلامية والأصول المغربية والتركية على ثلاثة مقاعد، مستفيداً من دعم الناخبين من المهاجرين وبالذات المسلمين، وعلى رأسهم أولئك الذين غضبوا من حزب العمل، الذي كان أحد الأحزاب التي كانت تشكل التحالف الحكومي لسنوات عدة.
بيت فان در ليندن، رئيس «منتدى هولندا للجميع»، قال في مكالمة هاتفية ردا على سؤال يتعلق بقراءة النتائج: «إن الانتخابات كانت صعبة وعصيبة، وعلى الرغم من أننا لا نتفق وسياسة الحزب الليبرالي، فإننا نشكر الشعب الهولندي على اختياره أهون الشرين (السيئ لا الأسوأ). لقد قطع الشعب الهولندي الطريق على الشعبويين، وهذه إشارة واضحة للدول الأوروبية المقبلة على الانتخابات كألمانيا وفرنسا. إن على هذه الدول أن تأخذ الدرس من التجربة الهولندية».
من ناحية ثانية، وفق النتائج التي أوردتها وكالة الأنباء الهولندية، للمعركة الانتخابية البرلمانية، حصل الحزب الليبرالي بقيادة رئيس الوزراء روتي على 33 مقعدا، في حين حصل حزب العمل (يسار الوسط) الحليف والشريك في الائتلاف الحكومي على 9 مقاعد فقط، خاسراً ما لا يقل عن 29 مقعداً.
وفي تعليق على هذه الهزيمة المزلزلة، قال زعيم حزب العمل لودفيك آشر، إن ما حدث لحزبه «مأساة». وكان واضحاً حسب المحللين، أن الحزب فقد ولاء كثيرين من ناخبيه الطبيعيين، ولا سيما من المهاجرين، وبخاصة المغاربة الذين تذمروا من سياسة الحزب المحابية لليمين والمتعلقة بالمس بتعويضات الأرامل وتعويضات الأطفال في المغرب. ويشير المحللون إلى أن هذا الحزب عرف تاريخيا بوقوفه مع مصالح العمال، هولنديين وأجانب، بيد أنه في السنوات الأخيرة فقد هويته الاجتماعية الديمقراطية بعد انسحاب رموز تاريخية من قياداته، وتنكر القيادة الحالية لتاريخ الحزب ونضاله.
أما حزب الحرية بقيادة المتطرف فيلدرز، الذي كان يطمح لاحتلال الصدارة، فإنه حصل على 20 مقعداً فقط بزيادة 5 مقاعد فقط عما كان لديه في البرلمان السابق. وكان واضحاً أنه على الرغم من التهويل الإعلامي والسياسي لماكينة الحزب الدعائية، فإنه أخفق في كسب ثقة الناخبين. وعلقت الممثلة الهولندية المشهورة كارين بلومن على هزيمة فيلدرز وحزبه بالقول: «تقدم إلى الانتخابات بورقة انتخابية واحدة. إنه يستبلد الشعب الهولندي، وعلينا ألا نعيره أي اهتمام».
وبعكس متطرفي اليمين، عاد حزب اليسار الأخضر بقوة إلى الواجهة، ويعود جزء من الفضل إلى دور زعيمه جيسه فراس كلافر (والده مغربي) وعمره 30 سنة، ونجاحه في إقناع الشباب بممارسة حقهم الانتخابي، وهو ما لم يتحقق منذ ثلاثين سنة، حيث فاقت نسبة المشاركة 81 في المائة، وهذا رقم زرع الثقة في السياسة الهولندية التي كان ينظر إليها على أنها ستقع فريسة الشعبويين اليمينيين. ولقد حصل اليسار الأخضر على 14 مقعداً بزيادة 10 مقاعد عما كان لديه في البرلمان السابق.
أما المفاجأة الكبرى فهي حصول حزب «دينك» Denk – وتعني الكلمة «فكّر» باللغة الهولندية و«مساواة» باللغة التركية – الذي يدعمه المهاجرون الأتراك والمغاربة بثلاثة مقاعد لأول مرة في تاريخه. وذهب أحد المقاعد الثلاثة للمغربي فريد أزرقان. ووفق المحللين استطاع هذا الحزب، مثل حزب اليسار الأخضر، استمالة الناخبين الغاضبين الذين كانوا في السابق يصوتون لحزب العمل.
ويرى بعض المحللين أن الخطاب الذي ألقاه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وطالب فيه مواطنيه والمهاجرين المسلمين في هولندا بألا يصوتوا للحزب الحاكم أو للعنصريين المتطرفين، ساعد هذا الحزب الصغير على وضع اسمه على الخريطة السياسية.
وعلى صعيد آخر، توزّعت المقاعد الأخرى أحزاب تقليدية كالحزب الديمقراطي المسيحي (19)، وحزب الديمقراطيون «د 66» (19)، والحزب الاشتراكي (14)، وحزب الاتحاد المسيحي (5). أما الأحزاب الصغيرة فقد حصلت على ما يتراوح بين مقعد و4 مقاعد، كحزب الحيوانات، والشيوخ، ومنتدى الديمقراطيين. وثمة أحزاب أخرى يمينية ودينية كحزب «يحيا عيسى» لم تحصل على أي مقعد.
حضر لتغطية الانتخابات التشريعية 300 صحافي ومراسل وممثل لوكالات من كل القارات الخمس. وكان الإعلام المغربي هو الغالب الأكبر رغم وجود نحو 400 ألف مغربي عانوا الأمرين من التصريحات العنصرية التي كان وراءها المتطرف فيلدرز.
ولقد شارك أبناء الجالية المسلمة في هولندا في التصويت والترشح في القوائم الحزبية. أما عن كيفية التصويت ونوازعه فهناك معايير للاختيار من وجهة نظر البعض من المراقبين. ويقول نور الدين العمراني: «إن العاطفة تلعب دورا كبيرا في اختيارات الناخب المهاجر المتحدر من أصول إسلامية وعربية، وهو يعتمد على العامل الديني أو الثقافي في تحديد الاختيارات، في حين يصوت المواطن الهولندي العادي انطلاقا من التأثير السياسي والإعلامي».
من جهة أخرى، ليس خافياً أن البعض نظر إلى هذه الانتخابات على أنها اختبار للمشاعر المناهضة لمؤسسة الحكم وللهجرة، وجاءت وسط خلاف حاد مع تركيا، وشكوك حول مستقبل الاتحاد الأوروبي.
وأمام لجنة للتصويت في بلدية سلوتن مير، غرب العاصمة أمستردام، رصدت «الشرق الأوسط» آراء الناخبين بعد الإدلاء بأصواتهم. وكما قال العمراني، الناخبون المسلمون ركزوا على اختيار الأشخاص من العرب والمسلمين في قوائم الأحزاب، بينما اعتمد الناخبون الهولنديون الآخرون في اختياراتهم على برامج الأحزاب.
ناخب تركي في العقد الثالث من عمره، كان برفقته طفله الصغير (دون 3 سنوات) قال لنا: «جئت اليوم لأمارس دوري في التصويت بالانتخابات، واقترعت لمرشحة تركية». وقال رجل في الخمسين من عمره متحدر من أصل مغاربي: «صوتت لحزب العمل؛ لأنه يضم أشخاصا من أصول عربية وإسلامية ويعملون لمصلحة المسلمين في هولندا». وقال ناخب ثالث، وهو هولندي ستيني ليس من أصول عربية أو مسلمة، عندما سألناه: «الطقس جميل وساعد ذلك على إقبال أعداد كبيرة... وأنا أعطيت صوتي للحزب الاشتراكي لاقتناعي بأن برنامج الحزب يلبي طموحاتي». وأردف: «أتمنى ألا ينجح فيلدرز المتشدد». بينما قال رجل عربي يتحدث الهولندية: «أعتقد أن هناك تبايناً في المواقف. هناك بعض المساجد دعت إلى التصويت لحزب (دينك) الإسلامي لمواجه خطط اليميني فيلدرز».

ماذا يقول المرشحون؟
وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قالت مرشحة من حزب «دينك»، عايشة غول كليتش: «حزبنا أسس قبل سنتين، ولدينا الآن ممثلون في البرلمان. ونحن ندعو إلى مجتمع مشترك يسمح لكل شخص بأن يحتفظ بهويته، ونرفض أن يكون هناك مقياسان. إننا ننادي بعكس ما ينادي به فيلدرز. وأرجو من المواطنين عدم التأثر بالاستطلاعات، واختيار المرشح حسب البرنامج الذي يطرحه».
ومن جهة أخرى حاولت «الشرق الأوسط» التعرف على تأثيرات الأزمة بين تركيا وهولندا على تصويت الناخبين، فقال لنا لوك ورينغا، رئيس «المركز الاجتماعي لملتقى العقائد» في أمستردام: «أي من الأحزاب الهولندية لم تشأ التورط في هذا الخلاف الذي وقع قبل أيام قليلة مع تركيا. وأنا كهولندي أرى أن (الرئيس التركي) إردوغان أراد عرض عضلاته بإرسال وزيرة شؤون الأسرة إلى هولندا، بعد رفض هبوط طائرة وزير الخارجية التركي في وقت سابق».

الارتياح الأوروبي
أما بالنسبة للمواقف الأوروبية، فأشارت التقارير الإعلامية الأوروبية في بروكسل، إلى أن معظم الأوروبيين تنفسوا الصعداء عقب الإعلان عن فوز روتي في الانتخابات الهولندية، لا سيما أنه كانت هناك مخاوف جدية لدى البعض من تحقيق فيلدرز مفاجأة على غرار تصويت «بريكست» في بريطانيا. وبالفعل، تلقى روتي التهاني من كثير من القيادات والعواصم الأوروبية. في حين قال روتي مساء الأربعاء، عقب انتهاء التصويت وإعلان النتائج: «في هذا المساء أيضا قالت هولندا، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والانتخابات الأميركية: لا للنوع الخاطئ من الخطاب الشعبوي». ومن ثم، تلقى رسائل تهنئة من بعض الزعماء الأوروبيين وتحدث إلى بعضهم هاتفياً، بينما حقق «اليورو» مكاسب بعدما أشارت النتائج إلى انتصار روتي الواضح وهزيمة فيلدرز.
وكان في طليعة المرحبين الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، كما كتب وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت في تغريدة له: «أهنئ الهولنديين على وقف صعود اليمين المتطرف». وفي ألمانيا، كتب بيتر ألتماير، رئيس مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في تغريدة على موقع «تويتر»: «هولندا... يا هولندا أنت بطلة! أهنئك على هذه النتيجة العظيمة».
هذا، ويمكن القول إن هذه الانتخابات شكلت اختباراً مهماً حول ما إذا كان الهولنديون يريدون إنهاء عقود من الليبرالية واختيار مسار قومي مناهض للمهاجرين. وكانت النتائج الإيجابية لدعاة الانفتاح مبعث ارتياح لأحزاب التيارات السياسية الرئيسية في أوروبا، خاصة في فرنسا وألمانيا، حيث يأمل اليمينيون القوميون في تحقيق مكاسب كبيرة في انتخابات البلدين هذا العام، وهو ما يمكن أن يمثل تهديدا لوجود الاتحاد.
وحسب الاستطلاعات، من المتوقع أن تصل مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان للجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية في مايو (أيار) المقبل، بينما يرجح أن يحصل حزب «البديل من أجل ألمانيا» المناهض للمهاجرين والاتحاد الأوروبي على مقاعد في البرلمان الألماني للمرة الأولى خلال الانتخابات التي تجري في سبتمبر (أيلول) المقبل.
إلا أن الخبيرة بالشؤون الأوروبية، الباحثة لويز هون، في جامعة «بروكسل الحرة» ببلجيكا، قالت: «نحن نعتقد فعليا أن استخلاص العبر من الانتخابات الهولندية يفيد بأن الهولنديين يرفضون التطرف. غير أن هذه النتائج لا تعكس كل أوضاع المتطرفين في أوروبا، نسبة لما ذكرناه من دقة النسبية في القانون الانتخابي الهولندي. ولو كان الاقتراع منحصراً بين مارك روتي وخيرت فيلدرز فقط لربما كانت النتائج مغايرة تماماً. نعتقد أيضا أن الانتخابات الهولندية برهنت على أن أسئلة جديدة باتت في صلب الحملات الانتخابية، من بينها الهجرة واللجوء... وهذه الأسئلة طرحتها كل الأحزاب، التقدمية منها وغير التقدمية». وتابعت: «الخضر أيضا في هولندا أحرزوا تقدما كبيرا، بينما ضعف حزب العمل الذي لم يتناول إلا شؤونا قديمة التداول، ولاحظنا شبه غياب للأسئلة المتعلقة بالشأن الاقتصادي لهولندا. هذا يعني بالإجمال أن الموضوعات مركزة حول الهجرة واللجوء وأزمة اللاجئين. هذا يعني أن الأحزاب الشعبوية المتطرفة مثل حزب مارين لوبان وحزب البديل في ألمانيا، سيستخدمون بقوة هذه الموضوعات في حملاتهم الانتخابية».

وماذا الآن؟
أخيراً، لم يطل الوقت بعد إعلان النتائج في هولندا، حتى تحركت التخمينات بشأن شكل الائتلاف الحكومي الجديد. ذلك أنه عقب إعلان النتائج، قال رئيس الوزراء الفائز مارك روتي، إن عملية التفاوض حول تشكيل حكومي جديد ستكون صعبة، وربما تستغرق فترة طويلة، لكنه أبدى استعداداً للتحالف مع الديمقراطيين. أما فيلدرز فقال في تغريدة على «تويتر»، إن حزبه كان يحتل المرتبة الثالثة، واليوم يحتل المرتبة الثانية، وفي الانتخابات القادمة سيصل للمرتبة الأولى. وأضاف أنه كان يتوقع أن يحصل على 30 مقعداً، ولكنه يعتبر نفسه فائزاً لزيادة عدد مقاعد الحزب.
البعض تحدث عن إمكانية تشكيل ائتلاف من الديمقراطيين مع الحزب الليبرالي، ولكن مع دعم من حزب آخر، ربما يكون اليسار الأخضر أو الاتحاد المسيحي. وفي هذا السياق، قال رئيس حزب «الديمقراطيون 66» ألكسندر بيختولد، إن «الإمكانات كثيرة لتشكيل تحالف، لكن الأمور تتوقف على الحزب الليبرالي الذي له المبادرة، باعتباره صاحب العدد الأكبر من المقاعد بين الأحزاب». وأشار بيختولد إلى إمكانية تشكيل ائتلاف يضم حزبه مع الحزب الليبرالي، وأيضا الحزب الديمقراطي المسيحي، ومعهم يمكن إضافة اليسار الأخضر أو الاتحاد المسيحي لتحقيق الأغلبية المطلوبة في البرلمان. وهذا يعني ائتلافاً واسعاً، من دون أن يكون بالضرورة متجانساً.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.