«يكفي أننا معاً»... رواية المكان ومأزق العواطف

«يكفي أننا معاً»... رواية المكان ومأزق العواطف
TT

«يكفي أننا معاً»... رواية المكان ومأزق العواطف

«يكفي أننا معاً»... رواية المكان ومأزق العواطف

في روایته الجدیدة «یكفي أننا معاً»، (الدار المصریة اللبنانیة)، اختار صاحب «بیت الدیب» مأزق العلاقات الإنسانیة، وسؤال الزمن، عبر قصة حب تنشأ بین المحامي الستیني المخضرم جمال منصور، وخدیجة البابي، طالبة دكتوراه الفنون الجمیلة، وسليلة الأسرة الثریة، يتيمة الأب، التي أكملت للتو السابعة والعشرین من عمرها.
ویبدو أن عزت القمحاوي - في أغلب رواياته - مولع برواية المكان، كما في روايته البكر «مدينة اللذة»، أو «البحر خلف الستائر»، التي كتبها متأثرا بتجربة إقامته في قطر، فالمكان يغدو بطلا مهیمنا على أجواء السرد، وتحتفي هذه الرواية بالمكان، حيث تدور أحداثها بين القاهرة وروما وجزیرة كابري، وقد كتب القمحاوي جل فصولها في إیطالیا، فنجد خدیجة البابي تسرد معلوماتها عن العمارة الإيطالية، وتنقلنا كامیرا السرد للتجول في المتاحف والشوارع الإيطالية، بينما تبدو للقارئ مدینة القاهرة الضاجّة بالحیاة والشخوص، قد شاخت مثل بطلها المحامي، الذي نسي نصیبه من الحياة ومن السعادة، بسبب انشغاله برعاية إخوته، بعد موت الأب والأم في يوم واحد، وبعد أن أفنى سنوات شبابه، أدرك أن الشیخوخة قد انقضّت علیه... وبدا بطله مثيرا للشفقة.
لكن الشابة خديجة تختار أن تقتحم حیاته، كأنما تبحث عن الحب الأبوي المفقود، بعد انجذابها إليه بسبب قوة شخصیته، ولعبه باللغة في مرافعاته، وآرائه حول العدالة واللغة، وعلاقة المحامي بالفنون، حيث يرى جمال أن من يفوز هو المحامي صاحب القصة الفضلى، وليس صاحب الحق، لأن لكل واقعة أكثر من قصة، ويستطيع المحامي الناجح أن يروي حكاية موكله بشكل أفضل.
تضیق القاهرة العجوز بهذا الحب، لذا تعمد السارد العليم تغييبها، أو عدم الاحتفاء بها، فلم تحضر إلا في بعض المشاهد القصيرة، وفي لمحات عابرة، عبر عيون تدين هذا الحب وتستهجنه، بينما ترعى فنادق روما ومطاعمها هذه العلاقة، فيخيل إلى القارئ أن الرواية بمثابة قصیدة هجاء لمدینة قاسیة، مدینة بلا قلب، لا تفتأ تذكره بفارق السن بینهما، فيهرّب القمحاوي هذا الحب إلى الخارج، ويحول اللغة إلى معادل جمالي، يمجد الصداقة والمشاعر الإنسانية النبيلة، نكایة في القبح المستشري في الیومي المبتذل والرتیب.
يستنكر جمال هذا الارتباط بينه وبين نفسه، لكنه يعجز عن مقاومة إغرائه، ويخجل من الظهور معها في الأماكن العامة في شوارع مصر، فتقترح عليه خدیجة أن يسافرا إلى روما ليتحرر من هواجسه، وهناك، يصاب بوعكة تلزمه الفراش، بسبب التجوال الكثير، فيحقد على خديجة، ويتوغل عزت القمحاوي في أعماق العجوز العاشق، ويبحر في تأملاته حول الضعف البشري، وجدلیة الجسد والزمن، وتلك «النبضة الذنب التي لا یجب أن تدفع بالدم إلى الوجه لئلا تبدو أمام الآخرين عورة مكشوفة».



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.