«المتطرفون الجدد» وإغراء التشدد العنيف

الصيد السهل... ثمين

عزام الأميركي أبرز معتنقي الإسلام الذين لجأوا إلى التطرف («الشرق الأوسط») - الأميركي ووكر ليند اعتقل في سجن قندهار بأفغانستان («الشرق الأوسط»)
عزام الأميركي أبرز معتنقي الإسلام الذين لجأوا إلى التطرف («الشرق الأوسط») - الأميركي ووكر ليند اعتقل في سجن قندهار بأفغانستان («الشرق الأوسط»)
TT

«المتطرفون الجدد» وإغراء التشدد العنيف

عزام الأميركي أبرز معتنقي الإسلام الذين لجأوا إلى التطرف («الشرق الأوسط») - الأميركي ووكر ليند اعتقل في سجن قندهار بأفغانستان («الشرق الأوسط»)
عزام الأميركي أبرز معتنقي الإسلام الذين لجأوا إلى التطرف («الشرق الأوسط») - الأميركي ووكر ليند اعتقل في سجن قندهار بأفغانستان («الشرق الأوسط»)

لا يعني هرب أبي بكر البغدادي من الموصل، كما أعلن يوم الخميس الماضي 9 مارس (آذار)، أو إرهاصات قرب نهاية «داعش» وأزماتها في بؤر الصراع، وبخاصة في الموصل وسوريا، أن خطورة معتنقي الإسلام الجدد في صفوفها والمتبنين داعشيتها، سينتهي أيضا، خصوصا مع كون المتوقع هو نشاط الخلايا والذئاب المنفردة في تنفيذ عملياتها كلما اشتد الضغط في بؤر الصراع؛ مما يبقي هذه القضية في موضعها، مع مشكلات أخرى ترفدها كالهجرة والتمييز وكراهية الأجانب وفضاء التواصلية الذي يكرس الفردية والعزلة معا عن المجتمع والعالم الحقيقي؛ مما كرس الشعبوية ونزعات الهوية عموما، وهي لدى معتنقي الإسلام الجدد ليست إلا الهوية الدينية. تطرح هذه الظاهرة الكثير من الأسئلة من قبيل: لماذا كانت «داعش» و«القاعدة» خيارات بعض معتنقي الجدد للإسلام؟ للإجابة ولماذا؟ وكيف؟ استثمرت «القاعدة» «داعش» وأخواتها في هؤلاء القادمين من ثقافات غير إسلامية؟ وما موقف المؤسسات الدينية الرسمية ومؤسسات الأمن الفكري من مثل هذا التوظيف؟ ويبقى السؤال الأهم كيف يمكن حماية معتنقي الإسلام الجدد من خطابية جماعات العنف المثيرة والثائرة، حتى يكتسبوا الحس الاجتماعي والتاريخي والوسطية التي تنتهجها غالبية المسلمين بعيدا عن هوجاء هذه الجماعات وعلى ضد منها؟.
وهي أسئلة متعددة ومتنوعة تستدعي التعاطي الشامل والمنهج التكاملي في التفكيك والعلاج، نفسيا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وآيديولوجيا في المقام الأول، تكريسا وكشفا مبكرا لزيف دعاوى وخطابات التطرف، والتحذير من الانزلاق في بؤر الإعجاب أو الإيمان بها، أو التبني لها من قبل معتنقي الجدد، وهو ما يقع على عاتق المؤسسات الدينية الرسمية والقانونية قبل أي نمط آخر، تنظيما وترشيدا مبكرا لخطورة انزلاق التحول الديني في بؤر التطرف.
إن خطورة توظيف تنظيمات التطرف للمتحولين دينيا، واختطافهم نحو جماعاته بوصفها نموذجا طموحا لـ«دار الإسلام» و«خلافة المسلمين» وتحقيق حلمها تبدو ظاهرة تتصاعد وتتجلى مظاهرها كثير من الأمثلة والنماذج، ولا يقف خطرها عند ساحات وبؤر الصراع والتوحش، بل تمثل الرصيد المخزون المستعد، الذي ينتظر الأوامر لتنفيذ عمليات الإرهاب عبر خلاياه النائمة في دول الغرب بالخصوص.
بغض النظر عن كون التحول الديني- ذاته- حقا إنسانيا وظاهرة ممكنة تاريخا وحاضرا في كل الأديان والثقافات، وإن تميزت به الأديان الرسالية بالخصوص، شأن الإسلام والمسيحية على عكس اليهودية التي تعد دينا قوميا، لا يفرض دعوة ولا تبشيرا ولا يرى نفسه عالميا وأمميا تجب عليه دعوتهم.
هذه الخطورة في تاريخ هذه التنظيمات من وجود أسماء كثيرة من معتنقي الإسلام الجدد، برزوا في صفوف «القاعدة» قبل «داعش»، نذكر منهم مثالا لا حصرا أبرزهم، وهو عزام الأميركي أو (آدم غادان) القيادي الأبرز والأقرب لأيمن الظواهري في السنوات الأخيرة، الذي ظهر مرارا منتقدا لتنظيم «داعش»، في خطاب قاعدي يبدو أنه لا يتجاهل تأثير ظاهرة معتنقي الجدد للإسلام، وتوظيف «داعش» المتميز لها، سواء هجرة إليها وانضماما إلى صفوفها في ساحات القتال، أو تنفيذا وإنفاذا لعملياتها في الدول الغربية، كما حدث مرارا وتكرارا، فبرز وجه وصوت غادان أحد المعبرين والممثلين للمتحولين الجدد المتطرفين لينتقد «داعش» دائما وصدا لإقبال أمثاله وأشباهه في البلاد الغربية عليها.
ومن هؤلاء معتنقي الإسلام الجدد الذين برزوا في صفوف «القاعدة» الشاب الأميركي جون ووكر ليند، المواطن الأميركي المقبوض عليه في سجن قندهار بأفغانستان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2001، الذي حوكم مدنيا بعد ذلك، وكذلك كريستوفر وول الذي اعتقلته السلطات الأميركية في أبريل (نيسان) 2008.
واندفاعا من حماستهم، يخوض معتنقو الإسلام الجدد المعارك الخطيرة، ويقومون بتنفيذ العمليات الصعبة، وكثير منهم الأكثر توحشا في صفوف هذه التنظيمات، ونذكر أنه قد قتل من البريطانيين وحدهم نحو 23 قتيلا حتى 21 أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي (2016).
وحسبنا أن نذكر أن «داعش» خلال العامين الأخيرين، عرفت كتائب خاصة ببعضهم، فسمعنا عن كتيبة الفرنسيين التي كان يرأسها أبو مقاتل التونسي، وتضم معهم المغاربة والتوانسة، وخلايا الألمانيين التي كان يديرها أبو ولاء العراقي، الذي قبض عليه في ألمانيا في 9 نوفمبر العام الماضي (2016) وأخرى للقادمين من أستراليا التي كان يرأسها أبو أسامة الغريب (اسمه محمد سامي ومن أصول مصرية)، الذي ارتبط فيما بعد بشاعرة التنظيم المعروفة بـ«هدير الكلم» وليفان مهاجري قائد المقاتلين من شرق أوروبا، وجالمورد خاليموف، رئيس القوات الخاصة في طاجيكستان، حتى أواخر مايو (أيار) 2015، الذي انتقل إلى تنظيم داعش، ويعد- في رأي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية- أخطر من انضم إلى «داعش» عسكريا ومعلوماتيا، ويدير ويشرف على القادمين من منطقة روسيا وآسيا الوسطى، ومن أبرزهم كذلك- كما تواتر في مايو 2015 التحاق البروفسور حسن كونكاتا، السفير الياباني السابق- وهو متحول دينيا منذ عقود للإسلام- أثناء عمله في مصر، وبعد إعلان «داعش» خلافته أعلن انضمامه إليها في مايو سنة 2015، وظهر في الساحة السورية بعد فترة، وأصدر بيانا حينها عن هذا التحول المستغرب، وبخاصة أن أطروحته حول «النظرية السياسية عند ابن تيمية» لكنه ممن حاولوا الخلط والربط بين رؤية ابن تيمية وحاكمية المودودي وسيد طب، وهو الأمر غير الصحيح، ويتضح بقوة في موقف ابن تيمية الشديد والحجاجي الرافض تأصيل الإمامة، واعتبارها أصلا من أصول الدين والإيمان وشروطه، كما وضح في سفره الكبير «منهاج السنة» وقبوله بطاعة المالكية والحنفية وأهل الشوكة السنية، في مواجهة صحوة شيعية وإمامية كانت أقوى في زمانه، ودفاعه عنهم ضد ما رآه خطرا مغوليا ودعوته لطاعتهم وتحمل «مظالمهم» في رسالته «المظالم المشتركة» ورفضه مجابهتهم أو الخروج عليهم؛ مما يعده فتنة وخروجا لا يقبله ويحرمه، وكذلك تصنيفاته المتعددة لمفهوم الدار وعدم ثنائيتها بين إيمان وكفر، أو فسطاطين كما خلط المودودي ونقل قطب وصاح بها زعماء «القاعدة» و«داعش» فيما بعد، وهو ما وضحناه في كتابنا «متاهة الحاكمية» بتفصيل آخر(1).
فهو رغم تخصصه في التراث السياسي الإسلامي، إلا أن تأثره بأدبيات الإسلام السياسي والحاكمية مع حماسة التحول والحضور الضخم والكبير لفكرة الخلافة ودار الإسلام، ومركزية فكر الدولة كدار للإسلام، وسبيل للخلاص ونموذج للحكم، ماضيا وحاضرا، يجعل مثل هذه التحولات الجانحة لأمثال كونكاتا مفهومة بدرجة كبيرة، ولكن تبقى خطورته أنها كانت حالة تسويقية جيدة من قبل «داعش»، بسبب خلفيته الفكرية أو مكانته الوظيفية، أو رمزيته لدى عدد من معتنقي.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.