رئاسيات فرنسا: عام المفاجآت

قبل 50 يوماً على الانتخابات تساؤلات حول قدرة مرشح اليمين الكلاسيكي على الاستمرار

رئاسيات فرنسا: عام المفاجآت
TT

رئاسيات فرنسا: عام المفاجآت

رئاسيات فرنسا: عام المفاجآت

لا تشبه الانتخابات الرئاسية الحالية في فرنسا أيا من الانتخابات السابقة التي عرفتها الجمهورية الخامسة منذ تأسيسها على يدي الجنرال شارل ديغول في عام 1957.
كل يوم يمر يأتي بجديد إلى درجة أن نسبة كبيرة من الفرنسيين أصبحت ضائعة وفقدت معالمها. وقبل خمسين يوما على الدورة الجولة الأولى التي ستجرى في 23 أبريل (نيسان) المقل، ما زالت الأمور متحركة، لا بل مائعة؛ إذ ثمة تساؤلات كثيرة ما زالت مطروحة بصدد قدرة مرشح اليمين الكلاسيكي فرنسوا فيون على الاستمرار في ترشحه حتى النهاية رغم تغلبه على العوائق التي كادت أن تطيح به نهاية الأسبوع الماضي بسبب فضائح الوظائف الوهمية التي منحها زوجته ولاثنين من أبنائه، والتي بموجبها سيتم توجيه اتهامات رسمية له في 15 من الشهر الحالي. وحتى تزداد الأمور تعقيدا بالنسبة إليه، فإن صحيفة «لو كنار أونشينيه» الساخرة، التي هي أساس متاعب فيون، كشفت النقاب في طبعتها ليوم الأربعاء السابق، عن أن الأخير حصل على قرض من غير فوائد بقيمة 50 ألف يورو من رجل الأعمال والملياردير مارك دو لاشاريير صاحب مجلة «ليه دو موند» «العالمان» الذي وظف بينيلوبي، زوجة فيون. والأخيرة حصلت من رجل الأعمال على نحو 100 ألف يورو مقابل مقالتين في باب النقد الأدبي لكتابين؛ الأمر الذي قاد قضاة التحقيق إلى اعتبار أنها كانت تشغل وظيفة وهمية شبيهة بالوظيفة الوهمية بوصفها مساعدة برلمانية لزوجها، والتي وفرت لها نحو 600 ألف يورو.
ثمة صعوبات إضافية تنتظر المرشح فيون والمخاوف لدى قادة اليمين وناخبيه، ألا يتمكن الأخير من التأهل للجولة الثانية من الانتخابات. وهذا يعني عمليا أن اليمين سيجد نفسه خارج السباق، والأهم لسنوات خمس إضافية في المعارضة. وإذا تحقق هذا السيناريو- الكابوس، فإن اليمين سيغيب للمرة الأولى منذ ستين عاما عن نهائيات الانتخابات الرئاسية في فرنسا؛ ما يشكل تغييرا راديكاليا في المشهد السياسي وتوزع القوى.
إذا صح هذا السيناريو، فإنها ستكون المرة الأولى التي تجرى فيها الجولة الثانية من الانتخابات من غير ممثل لليمين الكلاسيكي في فرنسا. فمنذ ستين عاما، تناوب على رئاسة الجمهورية 7 رؤساء، خمسة من اليمين «الجنرال ديغول، جورج بومبيدو، جيسكار ديستان، جاك شيراك ونيكولا ساركوزي» ورئيسان اشتراكيان «فرنسوا ميتران وفرنسوا هولاند». وإذا صدقت استطلاعات الرأي المتواترة، فإن التنافس النهائي سيكون بين مرشحة اليمين المتطرف مارين ومرشح الوسط إيمانويل ماكرون.
قد يكون العزاء الوحيد لليمين أن اليسار الاشتراكي والمعتدل سيكون هو الآخر غائبا عنها. فنتائج الاستطلاعات تفيد بأن مرشح الاشتراكيين بونوا هامون سيحل في المرتبة الرابعة «ما بين 15 و17 في المائة من الأصوات» بعد مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان «27 و26 في المائة ومرشح الوسط إيمانويل 24 و25 في المائة ومرشح اليمين فرنسوا فيون، 17 و19 في المائة». والمرة الوحيدة التي عرف فيها الاشتراكيون هذا المصير حصلت في عام 2002 عندما أخفق رئيس الوزراء الأسبق الاشتراكي ليونيل جوسبان في التأهل للجولة الانتخابية الثانية، حيث سبقه مرشح اليمين الرئيس جاك شيراك ومرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبان، والد مارين لوبان. وهكذا، سيكون المشهد السياسي الفرنسي قد عرف تغيرا جذريا. فخلال عقود طويلة كان يتمحور حول قطبين أساسيين: قطب يميني كلاسيكي وقطب يساري اشتراكي. وعلى جانبيهما كانت تدور حركات سياسية متشددة «اليسار الراديكالي أو متطرفة مثل الجبهة الوطنية» ومجموعات أخرى أقل شأنا. والحال، أن هذه الصورة ستتغير وستحتل الساحة السياسية أربعة أقطاب، حيث سيزيح القطبان المستجدان «اليمين المتطرف والوسط الناشئ» القطبين الأولين ليفرضا توازنات جديدة لها انعكاساتها على الانتخابات التشريعية والمحلية، ولكن خصوصا على مزاج الناخبين الفرنسيين.
تكمن مشكلة اليسار في تشتته، وتحديدا في تواجد مرشحين تتقارب برامجهما الانتخابية إلى حد بعيد، وهما المرشح الرسمي للاشتراكيين بونوا هامون ومرشح اليسار المتشدد الذي يضم في صفوفه الشيوعيين، والذي يمثله النائب الأوروبي والخطيب المفوه جان لوك ميلونشون. وهذا الأخير كان من الأوائل الذين انطلقوا في المنافسة الانتخابية، وسبق له أن ترشح للرئاسة في عام 2012. وميلونشون البالغ من العمر 65 عاما، ليس سياسيا عاديا. وكل مهرجاناته الانتخابية تستقطب الآلاف من المواطنين الذين يستهويهم برنامجه الانتخابي الذي يركز على حماية الموظفين والطبقة العاملة، والمعادي للاتحاد الأوروبي. ويعتبر ميلونشون، أن الحزب الاشتراكي والرئيس فرنسوا هولاند خانا الوعود الانتخابية التي أطلقاها في عام 2012، بأن اعتمدا سياسة اقتصادية واجتماعية ليبرالية تخدم الشركات على حساب الموظفين، وتجعل وضع العمال أكثر هشاشة. ويريد ميلونشون إخراج فرنسا من الاتحاد الأوروبي والتخلي عن العملة الموحدة، وهو ما تنادي به «وهنا المفارقة» مارين لوبان. وبسبب هذه المواقف، كان من الصعب على هامون وميلونشون أن يتفقا بأن ينسحب أحدهما للآخر. وهذا الواقع يثير نقمة اليساريين بشكل عام. ولو نجح هذان المرشحان في الاتفاق، لكانت توفرت لليسار فرصة الحضور والتنافس في الجولة الثانية التي تقتصر فقط على المرشحَين اللذين يحتلان المرتبتين الأولى والثانية.
بيد أن مصاعب مرشح الاشتراكيين الرسمي الذي فاز في الانتخابات الداخلية على رئيس الوزراء السابق مانويل فالس لا تقتصر فقط على التنافس على جناحه الأيسر، بل تكمن أيضا في أنه لا يحظى بالدعم الكافي من داخل الحزب الاشتراكي. ذلك أن عددا من وجهاء الحزب، وآخرهم عمدة باريس السابق برتراند دولانويه، قرروا التخلي عن دمه والاصطفاف وراء مرشح الوسط إيمانيول ماكرون الذي شغل وزارة الاقتصاد طيلة عامين، وكان قبلها الأمين العام المساعد للرئاسة ومستشارا مسموع الكلمة لدى الرئيس هولاند. وحجة هؤلاء، أن برنامج هامون الانتخابي «متطرف» و«غير قابل للتطبيق»، وبالتالي هم يرون أنهم أقرب إلى مرشح الوسط. وحقيقة الأمر، أن ثمة اقتراحا في برنامج هامون لا يحوز على قبول الكثيرين، وهو المتمثل بتوفير عائد للشباب في مرحلة أولى مهما كان وضعهم وللسكان كافة في مرحلة لاحقة، وذلك من باب محاربة الفقر وتمكين الفئات الأضعف من الانتظار حتى تنجح في الحصول على وظيفة. ولا يفرق برنامج هامون بين غني وفقير، وبين موظف وعاطل عن العمل؛ الأمر الذي يرى فيه الكثيرون غوغائية لا يمكن السير بها في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية لفرنسا ووجود عجوزات ساحقة في برامج الضمان الاجتماعي وصناديق الشيخوخة والتقاعد، خصوصا في ظل بقاء البطالة بنسبة بالغة الارتفاع «نحو 10 في المائة». ولم يكف هامون أنه نجح في دفع مرشح الخضر والبيئيين يانيك جادو إلى لانسحاب من السابق والانضمام إلى حملته الانتخابية؛ لأن الأخير لا يمثل إلا نحو 2 في المائة من الأصوات. وبعد «طفرة» أعقبت انتخابه مرشحا عن اليسار والاشتراكيين عادت أسهمه للتراجع. ويتوقع كثيرون أن تفضي هزيمة الاشتراكيين إلى تفجر حزبهم من الداخل وتوزعه على جناحين على الأقل: الأول يساري أرثوذكسي، أي متمسك بالقيم والمبادئ التقليدية للاشتراكية، والثاني اجتماعي ليبرالي. وبالطبع ستقوم بين الجناحين حرب أين منها حرب داحس والغبراء.
مقابل انهيار القطبين التقليديين، يبرز بزوغ نجم مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان البالغة من العمر 48 عاما. لوبان ورثت الجبهة الوطنية عن والدها جان ماري، الذي أقصى رفقاء الدرب لينصب ابنته. ومنذ تملكها الحزب، سعت المحامية مارين لوبان إلى تغيير صورته ودفعه باتجاه استقطاب الطبقات الدنيا، أكان ذلك في صفوف العمال والموظفين أو المزارعين، وكل من يشكو من الاتحاد الأوروبي والعملة الموحدة. وسعت لوبان إلى أن تزرع في عقول الناس أنها تدافع عن الضعفاء بوجه العولمة، وتمد اليد لمن بقي على قارعة الطريق، مستعيدة بذلك الدور الذي كان يلعبه الحزب الشيوعي. لكن لوبان لم تتخل عن أساسيات الجبهة الوطنية مثل الدفاع عن الهوية الوطنية والتحذير من الإسلام والعرب والمهاجرين بشكل عام. واستفادت بالطبع مما جرى في فرنسا في العامين الماضيين من أعمال إرهابية دامية حصدت 243 قتيلا، وأوقعت مئات الجرحى ومن الربط بين الإسلام والإرهاب. وترى لوبان أنها اليوم أقرب من أي وقت مضى من قصر الإليزيه، متشجعة بما حصل في بريطانيا «البريكست» وفي الولايات المتحدة الأميركية «انتخاب دونالد ترمب»، وكلاهما يعكس انتصار الشعبوية التي تشكل الصفة الأولى لخطاب رئيسة الجبهة الوطنية ولبرنامجها الانتخابي. وتريد لوبان استفتاء حول بقاء فرنسا داخل الاتحاد والخروج من العملة الموحدة... وما يميزها عن فيون أن الأخير وقع ضحية مشاكله مع العدالة بينما لوبان التي نزع عنها البرلمان الأوروبي حصانتها النيابية لا يبدو أنها تعاني من الفضائح الملتصقة باسمها، حيث إنها هي الأخرى اخترعت وظائف وهمية؛ إذ سكرتيرتها الشخصية مساعدة برلمانية لها، وكذلك فعلت مع حارسها الشخصي. والحال أن الاثنين لم يعملا لها في البرلمان الأوروبي، بل لحزب الجبهة الوطنية. لذا؛ فإن القضاة الفرنسيين المكلفين القضية يريدون استجوابها، لكنها ترفض الامتثال بانتظار أن تمر الانتخابات الرئاسية.
يرى المراقبون السياسيون، أن الخطر الذي تمثله لوبان تحول إلى تهديد حقيقي. وآخر من قرع ناقوس الخطر الرئيس الفرنسي الذي يحذر من النتائج الكارثية لوصول لوبان، ليس فقط بالنسبة لفرنسا، ولكن بالنسبة لمستقبل الاتحاد الأوروبي، حيث تشكل فرنسا وألمانيا عموده الفقري، وبالتالي فإن خروج فرنسا منه وتخليه عن اليورو سيكون بمثابة زلزال سيطيح أركان البناء الأوروبي ومؤسساته السياسية والاقتصادية والمالية. وثمة خطورة ماثلة بوجه الفرنسيين، وهي الانتخابات التي ستجرى في هولندا في الخامس عشر من الشهر الحالي، حيث اليمن المتطرف الهولندي يسجل النقاط وزعيمه يهيئ نفسه للوصل إلى السلطة. وإذا تحققت هذه التوقعات، فإنها ستوفر لـمارين لوبان قوة دفع إضافية، وحجة مفادها أن ما حصل في هولندا يمكن أن يحصل في فرنسا.
حتى الآن، ووفق استطلاعات الرأي، لا يبدو أن مرشحة اليمين المتطرف قادرة على اختراق ما يسمى بالفرنسية «السقف الزجاجي» الذي يمنعها من الوصل إلى الرئاسة بسبب المزاج الفرنسي، وبسبب النظام الانتخابي القائم على دورتين. وإذا كان تأهل لوبان للجولة الثانية ليس موضع جدل، فإن استطلاعات الرأي تفيد بأنها ستهزم في الجولة الثانية إذا كان خصمها إيمانويل ماكرون. لكن الفارق بين ما يمكن أن يحصل عليه المرشحان آخذا في التقلص. ومصدر القلق أن استطلاعات الرأي تفيد بأن ناخبا فرنسيا من أصل ثلاثة «يتقبل» أفكار وطروحات الجبهة الوطنية؛ ما يمثل طفرة لحزب الجبهة الوطنية التي اخترقت الطبقات الاجتماعية كافة، ولم تعد تعيش على الهامش.
مقابل لوبان، يقف إيمانويل ماكرون بالمرصاد؛ فبرنامجه مغاير تماما لبرنامجها من حيث التمسك بالانتماء الأوروبي وبالعملة الموحدة، ورفضه التطرف. لكن ما يميز ماكرون البالغ من العمر 39 عاما، أنه يريد تخطي اليمين واليسار والآيديولوجيات القديمة. ولذا؛ فإن الحركة التي أطلقها الربيع الماضي واسمها «إلى الأمام» تضم خليطا من اليمين واليسار، وهي تستقطب أكثر فأكثر شخصيات متعددة المشارب. وكان يؤخذ على ماكرون، أنه «فقاعة إعلامية» وألا برنامج له كما أنه يفتقر الخبرة السياسية... ولكنه في الأيام الأخيرة عمد إلى عرض برنامجه الاقتصادي والاجتماعي، لا بل إن النقاش يدور حوله وليس حول الآخرين. ويؤخذ على ماكرون أيضا هشاشته السياسية؛ لأنه لم يسبق له بتاتا أن ترشح لأي مقعد انتخابي، وأنه «مرشح البنوك» والقطاع المالي بسبب عمله سابقا في بنك روتشيلد. أما سياسيا، فإن نقطة ضعفه الأولى الضبابية التي تحيط بصورة الأكثرية التي يستطيع الاعتماد عليها في مجلس النواب لحكم فرنسا وتنفيذ الإصلاحات التي يعد بها. ذلك أن ماكرون، بعكس فيون ولوبان والآخرين، لا حزب له ولا مرشحين على اسمه. لكن هذه الحجة يمكن الرد عليها بأن انتخابه للرئاسة سيوفر له دفعا قويا يمكنه لاحقا من اجتذاب الكثيرين من السياسيين ومن غير السياسيين، وبالتالي فإن هذه المشكلة ليست صعبة التجاوز.
يريد ماكرون أن يكون مرشح الشباب والتجديد، وهو يرى أنه يتعين قلب صفحة الماضي ورجاله لأن الحلول التي اقترحوها لإخراج فرنسا من أزمتها قد فشلت. ويريد ماكرون «إعادة بناء العقد الاجتماعي مع الطبقات الوسطى»، كما يريد إعادة إصلاح الأنظمة الاجتماعية و«تحرير» سوق العمل لكي يتلاءم مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة. ويحدد ماكرون نفسه على وسطي، وليبرالي ــ اجتماعي، مؤمن بأوروبا. واستفاد ماكرون من صعوبات فيون ومن خطابه الذي أخذ ينحو منحى راديكاليا لاجتذاب غير المقتنعين به مكن داخل صفوف اليمين... لكن ما قد يضر بمرشح الوسط هو الإشاعات الخاصة بحياته الشخصية التي انتشرت مؤخرا في فرنسا وخارجها على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد سارع الأخير إلى نفيها وإلى تأكيد أنه ما زال يعيش مع زوجته بريجيت التي كانت أستاذته لمادة الأدب الفرنسي عندما كان في التعليم الثانوي، وهي تكبره بـ24 عاما وقد تزوجا في عام 2007.
إذا بقيت الصورة التي تعكسها استطلاعات الرأي على حالها، أي إزاحة فيون من الجولة الثانية وبقاء المرشحين الأولين لوبان وماكرون، فإن للأخير حظا بأن يكون ثامن رئيس للجمهورية الفرنسية والأصغر سنا على الإطلاق (39 عاما). لكن الأمور ليست بهذه السهولة واستطلاعات الرأي ليس من العلوم الحقيقية وهامش الخطأ كبير. ولعل الدليل على ذلك أن أيا منها لم يتوقع فوز أنصار «البريكست» في بريطانيا أو ترمب في الولايات المتحدة. لذا؛ فإن الكثيرين يرون أن الأمور لم تستقر بعد في فرنسا، وأن مفاجآت يمكن أن تحصل. وترنو أنظار المراقبين إلى معرفة الاتجاه الذي ستسلكه حملة فيون بعد أن خرج رئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه من المعادلة. وهذا الأخير كان الوحيد القادر على قلب المعادلات وتمكين اليمن من التأهل للجولة الرئاسية الثانية والفوز بالرئاسة. لكن الحزازات والحساسيات الداخلية ورفض فيون التنحي لصالحه واتجاه خطابه الانتخابي إلى اليمين المتشدد كلها عوامل دفعت جوبيه للنأي بنفسه عن حملة رئاسية لا يحوز فيها على دعم مكونات اليمين كافة.
في 7 مايو (أيار)، سيخرج اسم رئيس «أو رئيسة» الجمهورية الفرنسية من صناديق الاقتراع. ولكن حتى ذلك التاريخ سيبقى الفرنسيون يعيشون حالة من «انعدام الوزن». وبمواجهة الوعود الكثيرة التي تنهال عليهم من المرشحين يمينا ويسارا ووسطا، يلزم هؤلاء موقفا مشككا؛ لأنهم خبروا من زمن بعيد أن الوعود شيء، وما سيتحقق منها شيء آخر.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.