بكري حسن صالح رجل مظلات «ماكر» يجيد التخفي

رئيس الوزراء السوداني الجديد بذاكرة فوتوغرافية ومزاج مرح لا يمكن استغفاله

بكري حسن صالح رجل مظلات «ماكر» يجيد التخفي
TT

بكري حسن صالح رجل مظلات «ماكر» يجيد التخفي

بكري حسن صالح رجل مظلات «ماكر» يجيد التخفي

يوم تسميته رئيساً للوزراء، خرج النائب الأول للرئيس الفريق أول بكري حسن صالح من اجتماع «المكتب القيادي» للحزب الحاكم بعد خروج الرئيس عمر البشير مباشرة، وعلى نصف وجهه «ابتسامة غامضة» اشتهر بها، فيما رسم على النصف الآخر من الوجه علامات لا مبالاة بادية، كأنه يقول للكل: «ليس هناك جديد». خروجه بطوله الفارع وجلبابه الناصع و«السديري» وخلفه سلفه علي عثمان محمد طه بقصر قامته، ودون أن ينطق بكلمة، كان علامة، أما تحيته المقتضبة للصحافيين الذين كانوا يحرسون المكان بانتظار الخبر «الصاعق»، فقد أوصلت رسالة مضللة، دفعت مراسل وكالة أنباء عالمية شهيرة للقول: «لا يوجد خبر، سهرنا على الفاضي». لكن الخبر المقتضب الذي تلاه نائب الرئيس لشؤون الحزب إبراهيم محمود على الصحافيين بعد دقائق قليلة على مغادرة الرجل، طارت به عاجلات وكالات الأنباء، ونقلته عناوين صحف ذلك اليوم يقرأ: «أجاز المكتب ترشيح الرئيس لنائبه بكري حسن صالح رئيساً للوزراء مع احتفاظه بموقعه في القصر نائباً أول».
كان الخبر مفاجئاً على الرغم من أن «التسريبات» والتكهنات والترشيحات جعلته متوقعاً، لكن المفاجأة فيه أن الرجل جمع ثاني وثالث أهم وظيفتين في الدولة السودانية: «النائب الأول للرئيس، ورئيس الوزراء».
ربما أراد الرئيس البشير إيصال رسائل عدة في آن واحد باختياره هذا؛ فهو من جهة عزز «الدائرة العسكرية» المقربة منه وجدد ثقة القوات المسلحة؛ لأن الرجل يحظى بتأثير واضح داخلها، وفي ذات الوقت جاء برجل يعرفه جيداً، ويثق فيه كثيراً ذخراً لأيام مقبلة يضمن خلالها التناغم داخل القصر الرئاسي ومجلس الوزراء، وربما رسالة أخرى تقطع عشم «الطامعين» من حزبه، أو أحزاب أخرى في المنصب الذي سال له لعاب كثيرين، حتى أن بعضهم وظف نفسه في المنصب من خلال «بروباغندا» التواصل الاجتماعي عن طريق حملات «منسقة» تهدف إلى وضعه في «عين الرئيس» حين يختار.
خرج الرئيس بنفسه في اليوم التالي ليشرح للميديا لِمَ اختار الرجل لـ«المنصبين»، والمرحلة التي كلفه بالمنصب المستحدث فيها، وقال: إن تعيينه خطوة مهمة باتجاه تحقيق الاستقرار والسلام في البلاد، وإنه «الرجل المناسب؛ لإلمامه بكل ما يدور داخل أجهزة الدولة»، وإن كل الذين شاركوا في الحوار الوطني وافقوا على تعيينه، وإن رئاسته للجنة العليا لإصلاح أجهزة الدولة أتاحت له فرصة التعرف إلى الوحدات الحكومية؛ ما سيساعده كثيراً في أداء مهمته.
ويتفق الجميع على أن الرجل غير محب الظهور، ولا يهتم كثيراً للإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام التي تعده صيداً ثميناً، وهو ما جعل البعض يظنونه «لا يحسن الكلام»، لكنه فاجأهم في مؤتمر صحافي من منصته بصفته رئيساً للجنة العليا لإصلاح الدولة في أغسطس (آب) 2015، بأنه رجل دولة «مرتب»؛ وهو ما دفع أحد الحضور للقول وقتها «لماذا يصمت هذا الرجل طالما يحسن الحديث؟!».
هذا العزوف عن الظهور يفسره دفعته في سلاح المظلات ونائب مدير الطيران المدني الحالي الفريق يوسف إبراهيم أحمد، بقوله إنه «شخصية لا تحب الظهور، بل ويرفض أن ترافق تحركاته سيارة المراسم (سارينة)، وإنه لا يفضل الاقتراب من الإعلام بحكم طبيعته، بل ولا يبدي اهتماماً بذلك».
ويوضح الفريق إبراهيم في إفادته لـ«الشرق الأوسط» بأن الرجل ومن خلال معرفته وزمالته له في قوات المظلات، كان غير ميال للعنف اللفظي، وأن ذلك جعله قريباً من كل المحيطين به. ويضيف إن علاقته بالرئيس البشير يحكمها الاحترام المتبادل، وإنهما كانا قريبين من بعضها بعضا، ولا يتصور حدوث خلاف بينهما.
ووفقاً لابن الدفعة، فإن الرجل يملك ذاكرة قوية «فوتوغرافية» تحتفظ بأدق التفاصيل، ويتمتع بخيال واسع وطموح عريض، ومقدرة على التنسيق والعمل ضمن فريق، وهي صفات تمكنه من كسب ولاء الوزراء الجدد الذين سيترأسهم بسهولة.
أما قوى المعارضة السياسية، فترى في إيلاء المنصب لصالح «أفرغه» من مضمونه، يقول الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني المعارض بكري يوسف، إن استحداث منصب رئيس الوزراء، كان أحد مخرجات «ما يسمى» بالحوار الوطني، لكن تعيين صالح أفرغ المنصب من الفلسفة التي بني عليها من محتواها.
ويوضح يوسف بأنها فلسفة قصد منها عرّابها حسن الترابي «إضعاف» الرئيس البشير بتنصيب رئيس وزراء قوي، لكن الأمر تحول إلى إجراء شكلي في المناصب والأسماء وتعديلات دستورية محدودة، لا توفر مخرجاً لمشكلات البلاد وأزماتها المستمرة في المتفاقمة منذ 27 عاماً.
يقول يوسف: «من أين لبكري حسن صالح بهذه الوصفة السحرية، وهو لم يغادر كابينة القيادة طوال هذه الفترة، ولم يورد السودان غير مورد الهلاك»، ويضيف إن حزبه ومن اللحظة التي أطلق فيها الحوار وصفه بأنه غير موضوعي، ولا يؤسس لحوار جدي ومثمر، ويتابع: «بعد ثلاث سنوات تؤكد نتائج الحوار ما تنبأنا به، وهو الدوران في حلقة مفرغة، وإهدار زمن وأموال البلاد في اللاشيء».
ويعتبر المعارض البارز مجيء صالح لمنصب رئيس الوزراء «تغييراً مزعوماً»، منح المزيد من السلطات والصلاحيات للرئيس، وهو تغيير لا يستطيع مخاطبة قضايا الحريات والفساد، ومعالجة مشكلات الحرب والاقتصاد والإدارة.
ويرى يوسف في تعيين صالح اختطافاً لمسار «خريطة الطريق» الأفريقية، التي- حسب رأيه- رسمت طريقاً مغايراً إلى حوار جدي ومتكافئ، يقطع الطريق أمام مجهودات المجتمع الدولي، الرامية إلى إحداث سلام وتحول في السودان.
ويعتقد أن الجمع بين منصبي النائب الأول للرئيس ورئيس مجلس الوزراء، كشف حيرة النظام وورطته باستحداث المنصب الذي استخدمه لـ«إغراء» القوى السياسية للمشاركة للحوار، لكنها اكتشفت أنها اصطادت فأراً بعد أن كانت تظنه فيلاً.
ووفقاً ليوسف، فإن البشير لجأ إلى أسهل الحلول غير المزعجة لينفرد بالسلطة، فجاء بصديقه «المطيع» ليضرب عصفورين بحجر، يبعد الإسلاميين من جهة، ويرضي تحالفاته الجديدة بشخص من غير الإسلاميين.
أما العقيد المتقاعد محمد الأمين خليفة، وعضو مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني، فهو على الرغم من خروجه من المجلس ومن السلطة مغاضباً ومسانداً لزعيم الإسلاميين الراحل حسن الترابي في الانقسام الشهير، فيقول عن الرجل «اجتماعي، يواصل الناس في الفرح والكره»، ويصف شخصيته بأنها مرحة وميالة للمداعبة وصناعة الطرف والنكات، وإنه مع ميله للمزاح فهو منضبط وحازم وشجاع في اتخاذ القرار، لدرجة إلغاء قرارات رئاسية يقول خليفة ضاحكاً: «لا أدرى إن كان هذا يتم بالاتفاق أم لتبادل الأدوار»، لكن الرئيس كان يوافق على القرارات التي يتخذها، وإن أوقفت تنفيذ بعض قراراته.
يقول خليفة إن رئيس الوزراء تأثر بعمله ضابطاً في المظلات كثيراً، وإنه كان «عسكري مظلات ماكرا» يجيد التخفي وإيهام العدو بغير ما ينوي فعله، هذا فضلاً عن حبه ووفائه لوحدته العسكرية؛ وهو الأمر الذي يفسر سر علاقته بالرئيس البشير، يقول خليفة: «منذ أن كان برتبة النقيب كان يعمل مديراً لمكتب الرئيس، ويطلق عليها أركان حرب القائد».
وحول دوره في صناعة الانقلاب في 30 يونيو (حزيران) 1989 يقول خليفة، إنه كان من المؤثرين في الحدث، ولعب دوراً فاعلاً في تأمين القيادة العامة ونجح فيه بشكل لافت؛ ما جعله عنصراً فاعلاً في مجلس قيادة الثورة، وفي الدولة منذ ذلك الوقت.
وحول علاقته بالحركة الإسلامية السودانية، قال أحد قيادات الإسلاميين النافذين للصحيفة، إن القيادي الإسلامي الراحل ياسين عمر الإمام هو من جنده لصفوفها، لكنه وبحكم طبيعته المرنة غير المتعصبة، لم يكن يحب الالتزام العقائدي المتطرف، مثل غيره من قادة وعسكريي الإسلاميين.
لكن للمحلل السياسي ورئيس تحرير صحيفة «إيلاف» الاقتصادية د. خالد التجاني رأي آخر، ينطلق من أن صالح لم يشترك في الأفعال التي خلقت مرارات بين السودانيين، سواء كان ذلك عن طريق الأفعال أو الخطاب، وأن هذا يجعل منه شخصاً مقبولاً، لم تعرف عنه خصومات سياسية.
ويوضح التجاني أن مجيء الرجل لمنصب رئيس الوزراء يحمل إرهاصات يمكن أن تقرأ بأكثر من زاوية، فهو من جهة يعني أن معادلة الحكم المستمرة منذ 1989 القائمة على أنه حكم إسلاميين مدنيين وعسكريين قد تغيرت، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر.
ويرجع التجاني جذور التحول إلى ما أسماه «الإطاحة بالحرس القديم»، بخروج علي عثمان محمد طه، ونافع علي نافع وآخرين، والمجيء بصالح نائباً أولاً، يقول: «الحركة الإسلامية كانت تظن أنها أوجدت نظاماً وظفت فيه عضويتها من العسكريين، لكنها اكتشفت أن المؤسسة العسكرية أكثر عراقة وتماسكاً، فبدلاً من أسلمة المؤسسة العسكرية، فإن المؤسسة هي التي ابتلعت الحركة الإسلامية».
ويشير التجاني إلى مؤتمر الحركة الإسلامية الماضي الذي جاء بالرئيس البشير رئيساً لها، ويقول إنه كان تمهيداً لتهميشها الذي اكتمل بتعيين صالح رئيساً للوزراء، ويقول: «مجيء صالح للمنصب يقطع الطريق أمام أي خلافة مدنية إسلامية للبشير، وإنه سيكون خليفة البشير الذي سيقطع الطريق أمام الإسلاميين ويشرعن المؤسسة العسكرية».
ويرى التجاني في اختيار الرجل أن النظام يريد التخفف من محموله الإسلاموي باتجاه نظام أكثر قومية، على حساب دور الحركة الإسلامية، وتحويلها إلى «متفرج»، ويضيف: «حين بدأ الحوار الوطني، كان الناس يظنونه سيكون بابا يتوحد عبره الإسلاميون من جديد، لكنه تحول لمدخل لتجاوز هيمنتهم». ويقطع التجاني بأن تسمية صالح رئيساً للوزراء «نهاية حقبة، وبداية حقبة جديدة في تاريخ الإنقاذ».
ويصفه موظف عمل معه طويلاً بأنه مثال لشخصية الجندي المنضبط، وبأنه يتمتع بدرجة عالية من الدقة في التعامل مع الأشياء، يقول: «هو لا يقدِم على عمل فيه مفاجآت، ولا يتيح مجالاً للمصادفات، ويوظف ذاكرته (الكربونية) الحادة في متابعة تنفيذ المهام التي يكلف بها مرؤوسيه، بما لا يتيح لأحد استغفاله». ويضيف: «يتمتع الرجل بصرامة بغير قسوة، وحسم من دون طغيان، ويملك حس طرافة يستطيع به امتصاص القلق والتوتر».
ينحدر صالح المولود في عام 1949 من منطقة «حفير مشو» شمالي دنقلة بشمال السودان، وتلقى تعليمه بمدارس المنطقة، وفي عام 1971 دخل الكلية الحربية السودانية، وتخرج فيها ضابطاً في الدفعة الـ24، وبعد تخرجه عمل في سلاح المظلات، وهناك التقى الرئيس البشير ووقتها كان برتبة «النقيب»، وعملا معاً لأكثر من عشر سنوات اتسم خلال بانضباط شديد، وكان مسؤولاً عن إدارة تسليح القوة.
وبحكم قربه من الرئيس البشير، شارك في الانقلاب الذي أتى بالجبهة الإسلامية للحكم 1989، وأوكلت له إدارة التأمين، فعمل خلال الفترة 1990 – 1995 مديراً لجهاز الأمن، ثم وزيراً للداخلية 1995 – 1998، ومستشاراً أمنياً لرئيس الجمهورية في الوقت ذاته. تقلب في المناصب السيادية في الدولة إلى أن شغل منصب وزير شؤون الرئاسة 1998 – 2000، ثم وزيراً للدفاع 2000 – 2005، ثم وزيراً لشؤون الرئاسة 2005 – 2013.
ثم نائباً أول للرئيس منذ 6 ديسمبر (كانون الأول) 2013، خلفاً لرجل الإسلاميين الشهير علي عثمان محمد طه، بعد إعفائه وعدد من قادة الإسلاميين من وظائفهم، وأشهرهم رجل الحكم المثير للجدل ومساعد الرئيس نافع علي نافع، إلى أن صدر قرار تعيينه رئيساً للوزراء إلى جانب منصبه نائباً أولاً للرئيس في الثاني من مارس (آذار) الحالي.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».