الأكراد على حبال الأجندات الدولية

يتأرجحون بين تناقضات تعيشها الساحة على خلفية الأزمة السورية

الأكراد على حبال الأجندات الدولية
TT

الأكراد على حبال الأجندات الدولية

الأكراد على حبال الأجندات الدولية

لم تعش الساحة الكردية تناقضات كالتي تعيشها اليوم على خلفية الأزمة السورية المستمرة منذ عام 2011 وما تركته من تغييرات ميدانية كبيرة في الشمال السوري جعلت نحو 40 مليون كردي منتشرين في المنطقة الجبلية الممتدة على حدود تركيا، والعراق، وسوريا، وإيران، وأرمينيا، والذين يعدون رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط، يشعرون أنّهم أقرب من أي وقت مضى من دولة يسعون إليها منذ مطلع القرن العشرين. ويسعى الأكراد حاليا ليكونوا جزءا من أجندات دولية متعددة يبحثون فيها عن منفذ إلى دولتهم معتمدين سياسة «الصبر الاستراتيجي» و«عدم وضع كل بيضهم في سلة واحدة»، إلا أن انقسامهم ما بين محورين رئيسيين يتزعم الأول «حزب الديمقراطي الكردستاني» الذي يرأسه رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، والثاني «حزب العمال الكردستاني» الذي يرأسه عبد الله أوجلان، جعل أخصامهم يستفيدون من صراعات كردية داخلية للتصدي لمشروع «دولة كردستان الكبرى» الشهير.
وتنقسم الأحزاب الكردية الرئيسية العاملة في العراق وسوريا وتركيا بين «حزب الديمقراطي الكردستاني» الذي يتزعمه البارزاني والذي ينشط في العراق وبين «حزب العمال الكردستاني» الذي يتزعمه أوجلان والذي ينشط في تركيا وجبال قنديل بشمال العراق ومصنف إرهابيا من قبل واشنطن ودول أوروبية، وبين حزب «الاتحاد الديمقراطي» الذي يرأسه صالح مسلم وينشط في سوريا. وتعتبر قوات البيشمركة الذراع العسكرية للحزب «الديمقراطي الكردستاني»، فيما تعتبر وحدات حماية الشعب الذراع العسكرية لـ«الاتحاد الديمقراطي». أما «البيشمركة السورية» (بيشمركة روج آفا) فهي الجناح العسكري «للمجلس الوطني الكردي» الممثل في الائتلاف المعارض، وتأسست في إقليم كردستان في عام 2012 نتيجة انشقاق شبان أكراد عن جيش النظام السوري ورفضهم الانضمام إلى وحدات حماية الشعب.
وتعتبر تركيا «حزب الاتحاد الديمقراطي» الفرع السوري لحزب «العمال الكردستاني»، وهو ما ينفيه الطرفان اللذان لا يدحضان وجود تعاون وتنسيق بينهما لا بل إن قياديين بـ«الاتحاد الديمقراطي» يقرون بأنّهم قريبون لأفكار أوجلان الذي اعتقلته حكومة أنقرة في عام 1999 بتهمة الخيانة.
* أبعاد اشتباكات سنجار
وأعادت الاشتباكات التي اندلعت الأسبوع الماضي في مدينة سنجار الواقعة غرب الموصل في محافظة نينوى على الحدود العراقية السورية، بين قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني معروفة بـ«وحدات حماية سنجار» وقوات البيشمركة التابعة لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني، تسليط الضوء على الانقسام الكردي الذي في حال سعت الأطراف الدولية التي ترفض قيام «دولة كردستان» إلى تغذيته فلا شك أنّه سيشغل القوى الكردية الرئيسية عن «هدفها الأسمى». فحتى ولو كانت المعارك التي استمرت يوما كاملا في سنجار توقفت حاليا، إلا أن التوتر لا يزال يسود المنطقة الحدودية العراقية - السورية كما منطقة سيطرة وحدات الحماية الكردية في الشمال السوري، في ظل تعدد الروايات حول الهدف مما حصل وكيفية التصدي لاقتتال كردي - كردي يتنامى نتيجة الخلافات المتمادية بين الأحزاب والمجموعات الكردية.
فبينما يؤكد المجلس الوطني الكردي أن ما حصل في سنجار «خطوة استباقية» من «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» عبر «قوات حماية سنجار» لقطع الطريق على محاولة إعادة قوات البيشمركة السورية والمعروفة بـ«بيشمركة روج آفا» إلى مناطقها في الداخل السوري، تعتبر وحدات الحماية الكردية السورية بأن الهجوم على قوات حماية سنجار المدعومة من حزب العمال الكردستاني «مخطط تركي» هدفه قطع الطريق بين إقليم كردستان ومناطق سيطرة الوحدات لمحاصرة وتفجير صراع كردي كردي.
ويشير رئيس المجلس الوطني الكردي إبراهيم برو في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنّه وخلال محاولة «بيشمركة روج آفا» الأسبوع الماضي الانتشار على حدود إقليم كردستان تمهيدا لدخولها الأراضي السورية، «تمت محاصرتها من قبل قوات حزب العمال الكردستاني للتصدي لمحاولة دخول هذه القوات إلى مناطقها في الشمال السوري، تماديا بعملية احتكار حزب الاتحاد الديمقراطي للساحة الكردية في سوريا ورفضه الشراكة الحقيقية بين الأحزاب والمجموعات الكردية الأخرى». ويضيف: «هذه الشراكة وفي حال تمت ستخفف من حدة التوتر إن كان مع تركيا أو مع مقاتلي المعارضة السورية أو حتى مع حكومة إقليم كردستان».
ويشدّد برو على أن دخول قوات «بيشمركة روج آفا» إلى الأراضي السورية لا يتطلب موافقة أي من الأطراف سواء السوريين أو حتى الإقليميين أو الدوليين، باعتبار هذه القوات هي من أبناء تلك المناطق. ويقول: «نحن نسعى لإقناع واشنطن باعتبارها تدعم الوحدات عسكريا منا نحاول التفاهم مع حزب الاتحاد الديمقراطي لمنع الاقتتال الكردي الكردي، لكن في النهاية هناك قرار اتخذه المجلس الوطني الكردي بعودة هؤلاء الذي يتخطى عددهم الـ500 عنصر تم تدريبهم وتسليحهم إلى قراهم للدفاع عنها وحمايتها».
ويرفض «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي يرأسه صالح مسلم تماما دخول «البيشمركة السورية» إلى مناطق سيطرتهم في الشمال السوري ويتهمونها بتنفيذ أجندة الحزب «الديمقراطي الكردستاني» الذي هو على علاقة وثيقة بأنقرة. وكانت وحدات حماية الشعب التابعة للحزب المذكور أعلنت رسميا في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2013، قيام منطقة إدارة ذاتية تشمل مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين، وتسعى هذه الوحدات منذ حينها لوصل المناطق المذكورة سعيا لإعلان الفيدرالية. ويستفيد «حزب الاتحاد الديمقراطي» من دعم أميركي كبير منذ اندلاع الأزمة في سوريا، إلى حد أن خبراء وصفوا وحدات الحماية الكردية بـ«ذراع واشنطن في الداخل السوري». ويضع الأميركيون دعمهم هذا في إطار الجهود المبذولة لمكافحة الإرهاب وتنظيم داعش خاصة أنّه وبنظرهم أثبت أكراد سوريا عن فعالية كبيرة في هذا المجال بعد تحرير كوباني.
* مخطط تركي
وتتهم المعارضة السورية القوات الكردية في شمال البلاد بتنفيذ حملة «تطهير عرقي وطائفي» بحق «العرب السنة والتركمان» في ريف محافظة الحسكة الغربي وتل أبيض، فيما ينتقد «المجلس الوطني الكردي» بشدة السياسة التي ينتهجها حزب «الاتحاد الديمقراطي» لجهة محاولة فرض نظام الحزب الواحد في المناطق الكردية الواقعة شمال البلاد. وفي هذا الإطار، يرى السياسي الكردي وعضو الائتلاف السوري المعارض عبد الباسط سيدا أن الحديث عن استقرار حالي في المناطق الكردية في سوريا «أشبه بالحديث عنه قبل عام 2011 حين كان استقرار أمني - قمعي»، مؤكدا أن «الحاضنة الشعبية غير راضية تماما عن ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي وخاصة مع فرض التجنيد الإجباري ما أدّى لتهجير مليون كردي من مناطقهم شمال سوريا». وأضاف سيدا في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «الأرجح أن هناك ضوءا أخضر وتفاهم أميركي - تركي على عودة بيشمركة سوريا إلى مناطقهم، وهو ما يثير وحدات الحماية التي تحولت أشبه بمكتب خدمات تنفذ مشاريع تارة إيرانية وطورا روسية وأحيانا كثيرة أميركية».
بالمقابل، يرى مستشار القيادة العامة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» ناصر حاج منصور في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «أخطر ما حصل في سنجار هو استخدام «بيشمركة روج آفا» لمواجهة وحدات حماية سنجار ما ترك استياء كبيرا في الداخل السوري حيث خرجت مظاهرات وتم الاعتداء على مقرات تابعة لأحزاب مرتبطة بالبارزاني». من جهتها، تعتبر نوروز كوباني من وحدات حماية المرأة أن ما يحصل في سنجار «محاولة تركية للعب آخر الأوراق بوجه حزب الاتحاد الديمقراطي، بعد رفض حكومة ترمب خططا قدموها للمشاركة بعملية تحرير رقة، كما فشل هجومهم على منبج»، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن أنقرة تسعى حاليا ومن خلال مهاجمة «قوات حماية سنجار» إلى قطع الطريق بين إقليم كردستان ومناطق سيطرة قواتنا، أي محاصرتنا وخلق صراع كردي كردي». وتضيف: «إلا أننا ندرك تماما أهداف تركيا، لذلك قدر المستطاع سنتجنب الدخول في معارك مع مسعود برزاني». ويؤكد نواف خليل، رئيس المركز الكردي للدراسات أن «عناصر حزب العمال الكردستاني لم يشاركوا في المواجهات الأخيرة في سنجار التي تولتها «قوات حماية سنجار» التي تشكلت في عام 2014 بعد انسحاب بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني ما أدّى لدخول داعش إلى المدينة»، لافتا إلى أن «وحدات حماية الشعب قامت بوقتها بمجهود كبير قدره بحينها البارزاني، فيما تولت قوات حزب العمال الكردستاني دعم أبناء سنجار لتشكيل قوات للدفاع عن المدينة وأهلها». وأضاف في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «الخلاف الكردي الكردي لا شك يترك أثرا معنويا على المجتمع الكردي لكن لا شك لن يكون له تأثير يُذكر بإطار المعارك المستمرة بوجه داعش، أو على تجربة الإدارة الذاتية». إلا أن سليمان يوسف، الباحث السوري المهتم بشؤون الأقليات يرجح أن يؤثر «القتال الكردي - الكردي بشكل مباشر على المشهد السياسي الكردي في سوريا وكذلك على الوضع الأمني في منطقة الجزيرة، حيث القوى الكردية تعاني من انقسام حاد»، لافتا إلى أن «جماعة المجلس الوطني الكردي مع الائتلاف وهيئة الرياض، بينما حزب الاتحاد الديمقراطي ومن معه هم على النقيض ومقربون من النظام السوري». وقال يوسف لـ«الشرق الأوسط»: «هذه التجاذبات السياسية في المشهد الكردي ستزيد الاحتقان والتوتر في منطقة الجزيرة، خاصة أن هناك أكثر من جهة تسعى لفتنة كردية - كردية وفتنة كردية عربية، بهدف خلط الأوراق وإشغال القوات الكردية في معارك جانبية ودفع من تبقى من الآشوريين والمسيحيين في الجزيرة لترك المنطقة».
* تطور علاقة النظام والأكراد
ولطالما شكلت العلاقة بين أكراد سوريا والنظام السوري محط متابعة، نظرا لتطورها اللافت، فرغم أن الأكراد يمثلون ما بين سبعة وعشرة في المائة من تعداد السوريين، تعرض هؤلاء طوال سنوات حكم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد والحالي بشار الأسد للكثير من القمع والحرمان من الحقوق الأساسية. ولم يمنح نحو 300 ألف من الأكراد الجنسية السورية منذ ستينات القرن الماضي، كما صودرت الأراضي الكردية وأعيد توزيعها على العرب، في محاولة «لتعريب» المناطق الكردية. كما حاول النظام في سوريا الحد من مطالب الأكراد بالمزيد من الاستقلال عن طريق قمع المتظاهرين واعتقال الزعماء السياسيين.
إلا أنه ومع اندلاع الأزمة في سوريا في عام 2011، حاول نظام الأسد الاستفادة من الورقة الكردية فانسحب من معظم المناطق حيث الأكثرية من الكرد في شمال البلاد، ما شكّل تحولا كبيرا ساهم بإعلان الإدارة الذاتية هناك. ولعل إقدام الأكراد المتمثلين في «مجلس منبج العسكري» أخيرا على تسليم 6 قرى خاضعة لسيطرتهم في ريف حلب لقوات النظام وحلفائه، جاء ليؤكد ما نبهت منه قوى المعارضة تكرارا من تعاون بين الطرفين لمواجهتها، وهو ما ينفيه الأكراد الذين يتحدثون عن «تقاطع مصالح». وقد رجحت دراسة تحليلية أعدها مؤخرا مركز «جسور» للدراسات أن يكون هناك توجه لقيام «تحالف جديد» بين النظام السوري وحزب «الاتحاد الديمقراطي»، نظرا لوجود الكثير من المصالح المشتركة بينهما على أن يقوم التحالف هذه المرة على أساس «علاقة بين متساويين لا يد طولى لأحدهما على الآخر»، من منطلق أن النظام الذي كان يستخدم الحزب المذكور «ورقة ضغط» على تركيا كما على المعارضة السوري، بات يعي حجم القوة التي وصل إليها بعد سنوات من «تفرده بإدارة المنطقة الكردية واستغلال ثرواتها فضلا عن الدعم الأميركي والروسي لفصيل الحزب العسكري».
وبحسب الدراسة التي حملت عنوان «حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام السوري شراكة أم صراع؟»، فقد مرت العلاقة بين الطرفين بمراحل متعددة، وكادت أن تصل قبل «الثورة السورية» إلى مرحلة القطيعة، وخاصة بعد تسلم «حزب العدالة والتنمية» للحكم في تركيا وما تلاه من تحسن في العلاقات السورية - التركية، إلّا أنّ التطورات في سوريا في عام 2011 كانت بداية لمرحلة أخرى وجديدة من العلاقة بين الطرفين، وأخذت مناحي متعددة استفادا منها على الصعيد المحلي، كما على الصعيدين الإقليمي والدولي. وتتهم المعارضة النظام فتح المجال لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» وكوادره بداية بالعودة إلى سوريا، بعد أن كان تنظيماً محظوراً، وأتاح له حمل السلاح وإعلان تنظيمه المسلح، ثم انتقل بعد ذلك إلى مرحلة الشراكة العسكرية والأمنية، حيث أصبح الطرفان يقومان بحملات عسكرية بشكل مشترك، فيما تولّى الحزب مسؤولية قمع المعارضين للنظام في مناطقه، وتولّى بنفسه مواجهة المظاهرات المناوئة للنظام. ووفق الدراسة السابقة ذكرها، «فإن العلاقة التي بدأت على شكل رعاية من طرف النظام لمجموعة صغيرة مشردة في الجبال بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في المرحلة اللاحقة، فالنظام الذي بدأ هذه العلاقة في عام 2011 كواحدة من أوراق لعبه لم يعد قادراً على الإمساك بزمام الأمور في معظم أنحاء سوريا، وتحوّل إلى طرف بين متصارعين متساويين في القوة تقريباً، وأصبح قراره رهيناً لفاعلين أجانب كثر، والحزب الذي دخل في هذه العلاقة في عام 2011 باحثاً عن موطئ قدم أصبح قوة عسكرية مهابة، وأضحى شريكاً لفاعلين أجانب، بعضهم من رعاة النظام نفسه». وفيما يستبعد خبراء معنيون بالملف أن يذهب الطرفان إلى مواجهة عسكرية مباشرة، ستكون مضرّة بمصالح الطرفين، «فلا الحزب قادر على الاستغناء عن رعاية النظام الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولا النظام قادر عسكرياً على السيطرة على المناطق الكردية، ولا يتحمّل أصلاً الدخول في صراع ذي كلفة سياسية باهظة»، يرجحون أن يتجها لبناء تحالف جديد، خاصة أن سوريا مقبلة على تسوية سياسية عاجلا أم آجلا، بحيث سيسعى كل طرف للحفاظ على حلفائه، «فهما يحتاجان لبعضهما البعض سواء داخل محافظة الحسكة وخارجها. الإدارة الذاتية تحتاج للنظام لدفع رواتب آلاف الموظفين بمقابل حاجة النظام لقوة حزب الاتحاد الديمقراطي الأمنية والسياسية ولا سيما في حلب وريفها، حيث إن قوات وحدات الحماية تقوم بدور المساند للنظام». ويرد الأكراد على كل ما سبق متسائلين عن السبب الذي قد يدفع وحدات الحماية، «التي يزداد عددها وقدرتها ووتيرة المعارك التي تخوضها والانتصارات التي تحققها، للتحالف مع النظام». وفي هذا السياق يقول نواف خليل لـ«الشرق الأوسط»: «النظام هو الذي يبحث عن حلفاء لمساندته كالروس وحزب الله والميليشيات العراقية. أما كل حديث عن تحالفات وتفاهمات بيننا وبينه، فعارية عن الصحة وتندرج بإطار سياسة تنتهجها المعارضة السورية المقربة من أنقرة، التي ادعت أخيرا نية الوحدات تسليم عدد من البلدات التي تسيطر عليها للنظام ورفع العلم السوري على بلدات أخرى».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».