الأكراد على حبال الأجندات الدولية

يتأرجحون بين تناقضات تعيشها الساحة على خلفية الأزمة السورية

الأكراد على حبال الأجندات الدولية
TT

الأكراد على حبال الأجندات الدولية

الأكراد على حبال الأجندات الدولية

لم تعش الساحة الكردية تناقضات كالتي تعيشها اليوم على خلفية الأزمة السورية المستمرة منذ عام 2011 وما تركته من تغييرات ميدانية كبيرة في الشمال السوري جعلت نحو 40 مليون كردي منتشرين في المنطقة الجبلية الممتدة على حدود تركيا، والعراق، وسوريا، وإيران، وأرمينيا، والذين يعدون رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط، يشعرون أنّهم أقرب من أي وقت مضى من دولة يسعون إليها منذ مطلع القرن العشرين. ويسعى الأكراد حاليا ليكونوا جزءا من أجندات دولية متعددة يبحثون فيها عن منفذ إلى دولتهم معتمدين سياسة «الصبر الاستراتيجي» و«عدم وضع كل بيضهم في سلة واحدة»، إلا أن انقسامهم ما بين محورين رئيسيين يتزعم الأول «حزب الديمقراطي الكردستاني» الذي يرأسه رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، والثاني «حزب العمال الكردستاني» الذي يرأسه عبد الله أوجلان، جعل أخصامهم يستفيدون من صراعات كردية داخلية للتصدي لمشروع «دولة كردستان الكبرى» الشهير.
وتنقسم الأحزاب الكردية الرئيسية العاملة في العراق وسوريا وتركيا بين «حزب الديمقراطي الكردستاني» الذي يتزعمه البارزاني والذي ينشط في العراق وبين «حزب العمال الكردستاني» الذي يتزعمه أوجلان والذي ينشط في تركيا وجبال قنديل بشمال العراق ومصنف إرهابيا من قبل واشنطن ودول أوروبية، وبين حزب «الاتحاد الديمقراطي» الذي يرأسه صالح مسلم وينشط في سوريا. وتعتبر قوات البيشمركة الذراع العسكرية للحزب «الديمقراطي الكردستاني»، فيما تعتبر وحدات حماية الشعب الذراع العسكرية لـ«الاتحاد الديمقراطي». أما «البيشمركة السورية» (بيشمركة روج آفا) فهي الجناح العسكري «للمجلس الوطني الكردي» الممثل في الائتلاف المعارض، وتأسست في إقليم كردستان في عام 2012 نتيجة انشقاق شبان أكراد عن جيش النظام السوري ورفضهم الانضمام إلى وحدات حماية الشعب.
وتعتبر تركيا «حزب الاتحاد الديمقراطي» الفرع السوري لحزب «العمال الكردستاني»، وهو ما ينفيه الطرفان اللذان لا يدحضان وجود تعاون وتنسيق بينهما لا بل إن قياديين بـ«الاتحاد الديمقراطي» يقرون بأنّهم قريبون لأفكار أوجلان الذي اعتقلته حكومة أنقرة في عام 1999 بتهمة الخيانة.
* أبعاد اشتباكات سنجار
وأعادت الاشتباكات التي اندلعت الأسبوع الماضي في مدينة سنجار الواقعة غرب الموصل في محافظة نينوى على الحدود العراقية السورية، بين قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني معروفة بـ«وحدات حماية سنجار» وقوات البيشمركة التابعة لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني، تسليط الضوء على الانقسام الكردي الذي في حال سعت الأطراف الدولية التي ترفض قيام «دولة كردستان» إلى تغذيته فلا شك أنّه سيشغل القوى الكردية الرئيسية عن «هدفها الأسمى». فحتى ولو كانت المعارك التي استمرت يوما كاملا في سنجار توقفت حاليا، إلا أن التوتر لا يزال يسود المنطقة الحدودية العراقية - السورية كما منطقة سيطرة وحدات الحماية الكردية في الشمال السوري، في ظل تعدد الروايات حول الهدف مما حصل وكيفية التصدي لاقتتال كردي - كردي يتنامى نتيجة الخلافات المتمادية بين الأحزاب والمجموعات الكردية.
فبينما يؤكد المجلس الوطني الكردي أن ما حصل في سنجار «خطوة استباقية» من «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» عبر «قوات حماية سنجار» لقطع الطريق على محاولة إعادة قوات البيشمركة السورية والمعروفة بـ«بيشمركة روج آفا» إلى مناطقها في الداخل السوري، تعتبر وحدات الحماية الكردية السورية بأن الهجوم على قوات حماية سنجار المدعومة من حزب العمال الكردستاني «مخطط تركي» هدفه قطع الطريق بين إقليم كردستان ومناطق سيطرة الوحدات لمحاصرة وتفجير صراع كردي كردي.
ويشير رئيس المجلس الوطني الكردي إبراهيم برو في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنّه وخلال محاولة «بيشمركة روج آفا» الأسبوع الماضي الانتشار على حدود إقليم كردستان تمهيدا لدخولها الأراضي السورية، «تمت محاصرتها من قبل قوات حزب العمال الكردستاني للتصدي لمحاولة دخول هذه القوات إلى مناطقها في الشمال السوري، تماديا بعملية احتكار حزب الاتحاد الديمقراطي للساحة الكردية في سوريا ورفضه الشراكة الحقيقية بين الأحزاب والمجموعات الكردية الأخرى». ويضيف: «هذه الشراكة وفي حال تمت ستخفف من حدة التوتر إن كان مع تركيا أو مع مقاتلي المعارضة السورية أو حتى مع حكومة إقليم كردستان».
ويشدّد برو على أن دخول قوات «بيشمركة روج آفا» إلى الأراضي السورية لا يتطلب موافقة أي من الأطراف سواء السوريين أو حتى الإقليميين أو الدوليين، باعتبار هذه القوات هي من أبناء تلك المناطق. ويقول: «نحن نسعى لإقناع واشنطن باعتبارها تدعم الوحدات عسكريا منا نحاول التفاهم مع حزب الاتحاد الديمقراطي لمنع الاقتتال الكردي الكردي، لكن في النهاية هناك قرار اتخذه المجلس الوطني الكردي بعودة هؤلاء الذي يتخطى عددهم الـ500 عنصر تم تدريبهم وتسليحهم إلى قراهم للدفاع عنها وحمايتها».
ويرفض «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي يرأسه صالح مسلم تماما دخول «البيشمركة السورية» إلى مناطق سيطرتهم في الشمال السوري ويتهمونها بتنفيذ أجندة الحزب «الديمقراطي الكردستاني» الذي هو على علاقة وثيقة بأنقرة. وكانت وحدات حماية الشعب التابعة للحزب المذكور أعلنت رسميا في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2013، قيام منطقة إدارة ذاتية تشمل مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين، وتسعى هذه الوحدات منذ حينها لوصل المناطق المذكورة سعيا لإعلان الفيدرالية. ويستفيد «حزب الاتحاد الديمقراطي» من دعم أميركي كبير منذ اندلاع الأزمة في سوريا، إلى حد أن خبراء وصفوا وحدات الحماية الكردية بـ«ذراع واشنطن في الداخل السوري». ويضع الأميركيون دعمهم هذا في إطار الجهود المبذولة لمكافحة الإرهاب وتنظيم داعش خاصة أنّه وبنظرهم أثبت أكراد سوريا عن فعالية كبيرة في هذا المجال بعد تحرير كوباني.
* مخطط تركي
وتتهم المعارضة السورية القوات الكردية في شمال البلاد بتنفيذ حملة «تطهير عرقي وطائفي» بحق «العرب السنة والتركمان» في ريف محافظة الحسكة الغربي وتل أبيض، فيما ينتقد «المجلس الوطني الكردي» بشدة السياسة التي ينتهجها حزب «الاتحاد الديمقراطي» لجهة محاولة فرض نظام الحزب الواحد في المناطق الكردية الواقعة شمال البلاد. وفي هذا الإطار، يرى السياسي الكردي وعضو الائتلاف السوري المعارض عبد الباسط سيدا أن الحديث عن استقرار حالي في المناطق الكردية في سوريا «أشبه بالحديث عنه قبل عام 2011 حين كان استقرار أمني - قمعي»، مؤكدا أن «الحاضنة الشعبية غير راضية تماما عن ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي وخاصة مع فرض التجنيد الإجباري ما أدّى لتهجير مليون كردي من مناطقهم شمال سوريا». وأضاف سيدا في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «الأرجح أن هناك ضوءا أخضر وتفاهم أميركي - تركي على عودة بيشمركة سوريا إلى مناطقهم، وهو ما يثير وحدات الحماية التي تحولت أشبه بمكتب خدمات تنفذ مشاريع تارة إيرانية وطورا روسية وأحيانا كثيرة أميركية».
بالمقابل، يرى مستشار القيادة العامة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» ناصر حاج منصور في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «أخطر ما حصل في سنجار هو استخدام «بيشمركة روج آفا» لمواجهة وحدات حماية سنجار ما ترك استياء كبيرا في الداخل السوري حيث خرجت مظاهرات وتم الاعتداء على مقرات تابعة لأحزاب مرتبطة بالبارزاني». من جهتها، تعتبر نوروز كوباني من وحدات حماية المرأة أن ما يحصل في سنجار «محاولة تركية للعب آخر الأوراق بوجه حزب الاتحاد الديمقراطي، بعد رفض حكومة ترمب خططا قدموها للمشاركة بعملية تحرير رقة، كما فشل هجومهم على منبج»، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن أنقرة تسعى حاليا ومن خلال مهاجمة «قوات حماية سنجار» إلى قطع الطريق بين إقليم كردستان ومناطق سيطرة قواتنا، أي محاصرتنا وخلق صراع كردي كردي». وتضيف: «إلا أننا ندرك تماما أهداف تركيا، لذلك قدر المستطاع سنتجنب الدخول في معارك مع مسعود برزاني». ويؤكد نواف خليل، رئيس المركز الكردي للدراسات أن «عناصر حزب العمال الكردستاني لم يشاركوا في المواجهات الأخيرة في سنجار التي تولتها «قوات حماية سنجار» التي تشكلت في عام 2014 بعد انسحاب بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني ما أدّى لدخول داعش إلى المدينة»، لافتا إلى أن «وحدات حماية الشعب قامت بوقتها بمجهود كبير قدره بحينها البارزاني، فيما تولت قوات حزب العمال الكردستاني دعم أبناء سنجار لتشكيل قوات للدفاع عن المدينة وأهلها». وأضاف في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «الخلاف الكردي الكردي لا شك يترك أثرا معنويا على المجتمع الكردي لكن لا شك لن يكون له تأثير يُذكر بإطار المعارك المستمرة بوجه داعش، أو على تجربة الإدارة الذاتية». إلا أن سليمان يوسف، الباحث السوري المهتم بشؤون الأقليات يرجح أن يؤثر «القتال الكردي - الكردي بشكل مباشر على المشهد السياسي الكردي في سوريا وكذلك على الوضع الأمني في منطقة الجزيرة، حيث القوى الكردية تعاني من انقسام حاد»، لافتا إلى أن «جماعة المجلس الوطني الكردي مع الائتلاف وهيئة الرياض، بينما حزب الاتحاد الديمقراطي ومن معه هم على النقيض ومقربون من النظام السوري». وقال يوسف لـ«الشرق الأوسط»: «هذه التجاذبات السياسية في المشهد الكردي ستزيد الاحتقان والتوتر في منطقة الجزيرة، خاصة أن هناك أكثر من جهة تسعى لفتنة كردية - كردية وفتنة كردية عربية، بهدف خلط الأوراق وإشغال القوات الكردية في معارك جانبية ودفع من تبقى من الآشوريين والمسيحيين في الجزيرة لترك المنطقة».
* تطور علاقة النظام والأكراد
ولطالما شكلت العلاقة بين أكراد سوريا والنظام السوري محط متابعة، نظرا لتطورها اللافت، فرغم أن الأكراد يمثلون ما بين سبعة وعشرة في المائة من تعداد السوريين، تعرض هؤلاء طوال سنوات حكم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد والحالي بشار الأسد للكثير من القمع والحرمان من الحقوق الأساسية. ولم يمنح نحو 300 ألف من الأكراد الجنسية السورية منذ ستينات القرن الماضي، كما صودرت الأراضي الكردية وأعيد توزيعها على العرب، في محاولة «لتعريب» المناطق الكردية. كما حاول النظام في سوريا الحد من مطالب الأكراد بالمزيد من الاستقلال عن طريق قمع المتظاهرين واعتقال الزعماء السياسيين.
إلا أنه ومع اندلاع الأزمة في سوريا في عام 2011، حاول نظام الأسد الاستفادة من الورقة الكردية فانسحب من معظم المناطق حيث الأكثرية من الكرد في شمال البلاد، ما شكّل تحولا كبيرا ساهم بإعلان الإدارة الذاتية هناك. ولعل إقدام الأكراد المتمثلين في «مجلس منبج العسكري» أخيرا على تسليم 6 قرى خاضعة لسيطرتهم في ريف حلب لقوات النظام وحلفائه، جاء ليؤكد ما نبهت منه قوى المعارضة تكرارا من تعاون بين الطرفين لمواجهتها، وهو ما ينفيه الأكراد الذين يتحدثون عن «تقاطع مصالح». وقد رجحت دراسة تحليلية أعدها مؤخرا مركز «جسور» للدراسات أن يكون هناك توجه لقيام «تحالف جديد» بين النظام السوري وحزب «الاتحاد الديمقراطي»، نظرا لوجود الكثير من المصالح المشتركة بينهما على أن يقوم التحالف هذه المرة على أساس «علاقة بين متساويين لا يد طولى لأحدهما على الآخر»، من منطلق أن النظام الذي كان يستخدم الحزب المذكور «ورقة ضغط» على تركيا كما على المعارضة السوري، بات يعي حجم القوة التي وصل إليها بعد سنوات من «تفرده بإدارة المنطقة الكردية واستغلال ثرواتها فضلا عن الدعم الأميركي والروسي لفصيل الحزب العسكري».
وبحسب الدراسة التي حملت عنوان «حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام السوري شراكة أم صراع؟»، فقد مرت العلاقة بين الطرفين بمراحل متعددة، وكادت أن تصل قبل «الثورة السورية» إلى مرحلة القطيعة، وخاصة بعد تسلم «حزب العدالة والتنمية» للحكم في تركيا وما تلاه من تحسن في العلاقات السورية - التركية، إلّا أنّ التطورات في سوريا في عام 2011 كانت بداية لمرحلة أخرى وجديدة من العلاقة بين الطرفين، وأخذت مناحي متعددة استفادا منها على الصعيد المحلي، كما على الصعيدين الإقليمي والدولي. وتتهم المعارضة النظام فتح المجال لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» وكوادره بداية بالعودة إلى سوريا، بعد أن كان تنظيماً محظوراً، وأتاح له حمل السلاح وإعلان تنظيمه المسلح، ثم انتقل بعد ذلك إلى مرحلة الشراكة العسكرية والأمنية، حيث أصبح الطرفان يقومان بحملات عسكرية بشكل مشترك، فيما تولّى الحزب مسؤولية قمع المعارضين للنظام في مناطقه، وتولّى بنفسه مواجهة المظاهرات المناوئة للنظام. ووفق الدراسة السابقة ذكرها، «فإن العلاقة التي بدأت على شكل رعاية من طرف النظام لمجموعة صغيرة مشردة في الجبال بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في المرحلة اللاحقة، فالنظام الذي بدأ هذه العلاقة في عام 2011 كواحدة من أوراق لعبه لم يعد قادراً على الإمساك بزمام الأمور في معظم أنحاء سوريا، وتحوّل إلى طرف بين متصارعين متساويين في القوة تقريباً، وأصبح قراره رهيناً لفاعلين أجانب كثر، والحزب الذي دخل في هذه العلاقة في عام 2011 باحثاً عن موطئ قدم أصبح قوة عسكرية مهابة، وأضحى شريكاً لفاعلين أجانب، بعضهم من رعاة النظام نفسه». وفيما يستبعد خبراء معنيون بالملف أن يذهب الطرفان إلى مواجهة عسكرية مباشرة، ستكون مضرّة بمصالح الطرفين، «فلا الحزب قادر على الاستغناء عن رعاية النظام الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولا النظام قادر عسكرياً على السيطرة على المناطق الكردية، ولا يتحمّل أصلاً الدخول في صراع ذي كلفة سياسية باهظة»، يرجحون أن يتجها لبناء تحالف جديد، خاصة أن سوريا مقبلة على تسوية سياسية عاجلا أم آجلا، بحيث سيسعى كل طرف للحفاظ على حلفائه، «فهما يحتاجان لبعضهما البعض سواء داخل محافظة الحسكة وخارجها. الإدارة الذاتية تحتاج للنظام لدفع رواتب آلاف الموظفين بمقابل حاجة النظام لقوة حزب الاتحاد الديمقراطي الأمنية والسياسية ولا سيما في حلب وريفها، حيث إن قوات وحدات الحماية تقوم بدور المساند للنظام». ويرد الأكراد على كل ما سبق متسائلين عن السبب الذي قد يدفع وحدات الحماية، «التي يزداد عددها وقدرتها ووتيرة المعارك التي تخوضها والانتصارات التي تحققها، للتحالف مع النظام». وفي هذا السياق يقول نواف خليل لـ«الشرق الأوسط»: «النظام هو الذي يبحث عن حلفاء لمساندته كالروس وحزب الله والميليشيات العراقية. أما كل حديث عن تحالفات وتفاهمات بيننا وبينه، فعارية عن الصحة وتندرج بإطار سياسة تنتهجها المعارضة السورية المقربة من أنقرة، التي ادعت أخيرا نية الوحدات تسليم عدد من البلدات التي تسيطر عليها للنظام ورفع العلم السوري على بلدات أخرى».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.