لايبنز ضد لوك... أو عندما يختصم الفلاسفة

خلافاتهم بعيدة عن الشخصنة وحواراتهم تخلو من الإسفاف

جون لوك
جون لوك
TT

لايبنز ضد لوك... أو عندما يختصم الفلاسفة

جون لوك
جون لوك

عندما أصدر الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، كتابه «مقال في الفهم الإنساني»، حيث بلور منظوره التجريبي في مبحث نظرية المعرفة، منتقدا الرؤية الديكارتية، ومؤسسا لرؤية بديلة تعلي من شأن الحواس والتجربة في عملية تكوين الفكر؛ حرص الفيلسوف الألماني، فيلهلم لايبنز، على قراءة الكتاب وتسجيل ملحوظات نقدية عليه. وهكذا سطر بضع فقرات موجزة، ثم قدمها لصديقه بارنيت Burnett، وأوصاه بأن يعطيها للوك عندما يسافر إلى إنجلترا.
ووصلت الرسالة. لكن لايبنز لم يحظ من الفيلسوف الإنجليزي بأي رد! لذا في صيف 1697 سيتصل لايبنز من جديد، ببارنيت حافزا إياه على معاودة الطلب مرة أخرى، حيث كان حريصا على اجتذاب الحوار مع لوك. بيد أن هذا الأخير كان حذرا جدا من الدخول في جدل مع لايبنز. لذا رد على نحو لا يخلو من تعريض قائلا بكل بساطة: «إننا نعيش مرتاحين جدا في جوارنا مع السادة الألمان، وسبب ذلك، أنهم لا يفهمون ما نكتبه، ونحن لا نقرأ ما يكتبون»!
هكذا ولدت الخصومة الفلسفية بين هذين العملاقين في تاريخ الفكر. إذ كان هذا الإعراض غير المؤدب، الذي لقيته دعوة لايبنز للحوار، سببا في حفزه على أن لا يقتصر على مجرد ملحوظات جزئية يقدمها في صيغة مراسلة ودية، بل قرر أن يكتب كتابا كاملا للنشر على العموم، يخصصه للرد على لوك ونقض أطروحته.
بهذا ظهرت فكرة كتاب «مقالات جديدة في الفهم الإنساني». هذا الكتاب الذي أراه أثرى حوار شهده تاريخ الفلسفة، بين التيارين العقلاني والتجريبي، في مبحث منهجي محوري هو «نظرية المعرفة».
وبما أن لوك رفض التحاور، فإن لايبنز سيصوغ الكتاب في شكل سجال دائر بين شخصيتين فلسفيتين متخيلتين، هما، فيلاليت، الذي يرمز إلى جون لوك، وثيوفيل الذي يمثل لايبنز! هكذا إذن، مهما تهرب هذا الإنجليزي من الحوار، فإن لايبنز مصر على تجسيده شاء أم أبى!
لقد خطط لايبنز صيغة منهجية سجالية لكتابه، تتمثل في تتبع متن لوك فصلا فصلا، بل فقرة فقرة، والتعقيب عليها ونقضها في صيغة حوار جدلي كان ثريا بمحتواه المعرفي، وعميقا برؤاه النقدية. واكتمل الكتاب سنة 1704 غير أنه قبل تقديمه للمطبعة، جاء خبر وفاة جون لوك، في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1704، فتراجع لايبنز، وترك الكتاب مخطوطا، وانصرف إلى مشاغله وأبحاثه الأخرى. لكنه كان كلما عاود قراءة المخطوط سجل ملحوظات إضافية، وأعاد صياغة بعض أفكاره، إلا أنه لم يقدمه للطبع، بل ظل مركونا في مكتبه، ولذا لن يطبع إلا بعد نحو نصف قرن بعد وفاة لايبنز.
في المقدمة، يحرص هذا الفيلسوف الألماني على نقد مفهوم العقل عند جون لوك. فإذا كان هذا الأخير ينظر إلى العقل بوصفه صفحة بيضاء، لا تمتلئ إلا بفضل اتصال الحواس بالواقع التجريبي، فإن لايبنز ينبه إلى وجود مبادئ ومفاهيم قبلية في العقل لا يمكن أن تُستخلص من التجربة، ومن ثم فهي ليست مكتسبة. كما أن نقطة خلافية أخرى يحرص لايبنز في المقدمة على التضاد مع لوك، وهي قول هذا الأخير، بأن «المادة» غير قابلة للمعرفة على نحو تام، بمعنى أن الوجود الطبيعي لا يمكن أن يعرف إلا على نحو جزئي تقريبي؛ بينما يذهب لايبنز إلى القول، بأنه إذا كان ثمة معطى له قابلية أن نعرفه، فهو المادة.
ثم يتوزع المتن على أربعة كتب أو أبواب كبرى، وهو التوزيع ذاته الذي يميز كتاب لوك. أولها، مسألة الأفكار الفطرية، وفيها يتبدى رفض صريح من قبل لايبنز لإنكار لوك وجود الفطري. والأطروحة التي سيدافع عنها، هي أن ثمة أفكارا ومفاهيم سابقة على الاكتساب التجريبي، ولا يمكن أن يكون مصدرها الحواس، وأولها العقل ذاته، فهو ليس مكتسبا بل فطريا.
وفي الكتاب الثاني، المعنون بـ«الأفكار»، يدور الحوار حول آلية وصيرورة تكوين الفكرة. فإذا كان لوك يرجع تكوين الفكرة إلى الاتصال الحسي بالواقع التجريبي، فإن لايبنز يشير إلى أن هذا التكوين لا يمكن أن يتحقق ما لم تكن داخل العقل مفاهيم فطرية تنظم التجربة. وكمثال على ذلك، يشير إلى مفاهيم «الوجود» و«المادة»، و«العلة»، و«الواحد»... بوصفها مفاهيم إجرائية أساسية لتنظيم المعطيات الحسية، لكنها ليست مكتسبة من الواقع، بل فطرية في العقل.
أما في الكتاب الثالث، المعنون بـ«الكلمات»، فيقارب لايبنز مسألة اللغة وعلاقتها بالواقع، حيث ينظر إلى جدل «اللفظ والشيء» وفق تصور يقوم على اعتقاد بوجود ماهية واحدة لشيء. لكن المعجم اللغوي يحوي ألفاظا كثيرة مشيرة إليه، الأمر الذي يوقع الوعي البشري في الالتباس بسبب تعدد الألفاظ. ومن هنا، فاللغة الطبيعية ضعيفة في أدائها الدلالي (السيمانطيقي) ومفتقرة إلى الدقة، ومن ثم فوظيفة المعرفة الفلسفية، هي تدقيق اللغة في توصيفها ونعتها للأشياء.
وفي الكتاب الرابع «حول المعرفة»، يؤكد لايبنز على أن آليتي التحليل والتركيب هما القادرتان على بلورة المعرفة على نحو أكثر دقة وضبطا.
إذا أردنا موضعة كتاب لايبنز ضمن نسقه الفلسفي العام، لا بد أن نشير إلى أن هذا الفيلسوف العقلاني، ينطلق من تصور منهجي توليفي تركيبي، حيث يعتقد أن سؤال أصل المعرفة وماهيتها، ليس سؤالا أوليا في صيرورة تطور الفكر الإنساني؛ لأن حل المسألة يتطلب تقدما وتراكما معرفيا، وتحصيل هذا التراكم لا يكون إلا باستثمار مختلف الرؤى التي اقترحها الوعي الفلسفي. وهذا ما حاول الخلوص إليه بفلسفته الموسومة بـ«المونادولوجيا» Monadology القائمة على توليف الإرث المعرفي البشري على اختلاف نزعاته ومفاهيمه وتوجهاته.
إن لايبنز يزعم أنه يجمع أفلاطون إلى ديموقريطس، وأرسطو إلى ديكارت، والسكولائيين إلى المحدثين... وقد كان كذلك بالفعل. فهو في نظري، الحاوي الأكبر في تاريخ الفلسفة باقتداره الفريد على تركيب المتضادات! والإفادة من رؤى فلسفية شديدة التناقض، حيث يجمعها على نحو تكاملي. إنه لم يجمع في رسائله وكتبه شخوص الفلاسفة كأسماء فقط، ولا أفكارهم، بل حتى جهازهم المفاهيمي، والأسس المنهجية الإجرائية التي يستندون عليها في بنائهم المعرفي، حيث يذهب إلى التوليف بين الكلي والجزئي، والرياضي والطبيعي، والتوفيق بين الرؤية الميكانيكية للوجود والرؤية الغائية، والعلة والحرية، والمادة والروح.
غير أن لايبنز في كتابه هذا يبدو لي أنه نسي أن يجمع بين لوك ولايبنز! لأنه كان حريصا على نقد أطروحته الفلسفية التجريبية والتوكيد على تهافتها في تحليل عملية تكوين المعرفة! ولو انتهج مسلك التوليف، لربما استبق المشروع النقدي الكانطي بتركيبه المشهور بين العقلانية والتجريبية.
كما نجد عنده إصرارا على استبعاد سبينوزا من نسقه الفلسفي، حيث لم ير أي إمكانية للإفادة منه في بناء رؤيته التوليفية. ولعله كان محقا في ذلك، أو مرغما على ذلك، لأن الفلسفة السبينوزية قائمة على رؤية أحادية وحدوية في النظرة إلى الوجود. بينما لايبنز يُهَيْكِلُ رؤيته وفق ثلاثة مفاهيم كبرى هي الموناد، والعقل، والله.
وقد كان لا بد له، لكي يتمكن من التوليف والتركيب، من وجود عناصر ومفاهيم متعددة، وفلسفة سبينوزا لا توفر هذه الإمكانية؛ لأنها قائمة على وحدة الوجود، ونفي التعدد والكثرة.
وعودا إلى جدل لايبنز ولوك، لقد وصفناه بـ«الخصومة الفلسفية»، ولا نريد من القارئ أن يسيء فهم هذه السيماء، لذا لا بد أن ننبه إلى أن هذا الاختصام لا يشبه في شيء الخصومات الأدبية المعهودة في نقائض الشعراء ونقود الأدباء. فخصام الفلاسفة هو كما يقول هيدغر «خصام عشاق»، خصام الشيء مع ذاته. لذا فرغم سجالية نص لايبنز، فإنك لن تجد فيه شخصنة ولا إسفافا في أدب الحوار.



وفاة الملحن المصري محمد رحيم تصدم الوسط الفني

الملحن المصري محمد رحيم (إكس)
الملحن المصري محمد رحيم (إكس)
TT

وفاة الملحن المصري محمد رحيم تصدم الوسط الفني

الملحن المصري محمد رحيم (إكس)
الملحن المصري محمد رحيم (إكس)

تُوفي الملحن المصري محمد رحيم، في ساعات الصباح الأولى من اليوم السبت، عن عمر يناهز 45 عاماً، إثر وعكة صحية.

وكان رحيم تعرض لذبحة صدرية منذ أشهر، تحديداً في يوليو (تموز) الماضي، دخل على أثرها إلى العناية المركزة، حسبما أعلنت زوجته أنوسة كوتة، مدربة الأسود.

وكان رحيم قد أعلن اعتزاله مهنة الفن والتلحين في فبراير (شباط) الماضي، وتعليق أنشطته الفنية، وبعدها تراجع عن قراره ونشر مقطع لفيديو عبر حسابه الرسمي على «فيسبوك»، قال فيه حينها: «أنا مش هقولكم غير إني بكيت بالدموع من كتر الإحساس اللي في الرسائل اللي بعتوهالي وهتشوفوا ده بعينكم في ندوة، خلاص يا جماعة أنا هرجع تاني علشان خاطركم إنتوا بس يا أعظم جمهور وعائلة في العالم، وربنا ميحرمناش من بعض أبداً».

ونعى تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية، رحيم، وكتب عبر موقع «فيسبوك»، اليوم السبت: «رحم الله الملحن محمد رحيم وغفر الله له، عزائي لأهله ومحبيه، خبر حزين».

ورحيم من مواليد ديسمبر (كانون الأول) 1979. درس في كلية التربية الموسيقية، وبدأ مسيرته بالتعاون مع الفنان حميد الشاعري، وأطلق أول أغانيه مع الفنان المصري عمرو دياب «وغلاوتك»، ثم قدم معه ألحاناً بارزة منها أغنية «حبيبي ولا على باله». كما تعاون رحيم مع العديد من الفنانين، ومنهم: محمد منير، وأصالة، وإليسا، ونوال الزغبي، وأنغام، وآمال ماهر، ونانسي عجرم، وروبي، وشيرين عبد الوهاب، ومحمد حماقي، وتامر حسني، وغيرهم.

كما نعى رحيم عدد من نجوم الفن والطرب، وكتب الفنان تامر حسني عبر خاصية «ستوري» بموقع «إنستغرام»: «رحل اليوم صاحب أعظم موهبة موسيقية في التلحين في آخر 25 سنة الموسيقار محمد رحیم. نسألكم الدعاء له بالرحمة والفاتحة»، وأضاف: «صلاة الجنازة على المغفور له بإذن الله، صديقي وأخي محمد رحيم، عقب صلاة الظهر، بمسجد الشرطة بالشيخ زايد، إنا لله وإنا إليه راجعون».

منشور الفنان تامر حسني في نعي رحيم

وكتب الفنان عمرو دياب عبر حسابه الرسمي على «إكس»، اليوم السبت: «أنعى ببالغ الحزن والأسى رحيل الملحن المبدع محمد رحيم».

وكتبت الفنانة أنغام عبر موقع «إكس»: «خبر صادم جداً رحيل #محمد_رحيم العزيز المحترم الزميل والأخ والفنان الكبير، لا حول ولا قوة إلا بالله، نعزي أنفسنا وخالص العزاء لعائلته».

وكتبت الفنانة أصالة عبر موقع «إكس»: «يا حبيبي يا رحيم يا صديقي وأخي، ومعك كان أحلى وأهم أعمال عملتهم بمنتهى الأمانة بموهبة فذّة الله يرحمك يا رحيم».

كما كتب الشاعر المصري تامر حسين معبراً عن صدمته بوفاة رحيم: «خبر مؤلم جداً جداً جداً، وصدمة كبيرة لينا كلنا، لحد دلوقتي مش قادر أستوعبها وفاة أخي وصديقي المُلحن الكبير محمد رحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله».

كما نعته المطربة آمال ماهر وكتبت عبر موقع «إكس»: «لا حول ولا قوة إلا بالله. صديقي وأخي الغالي الملحن محمد رحيم في ذمة الله. نسألكم الدعاء».

وعبرت الفنانة اللبنانية إليسا عن صدمتها بكلمة: «?what»، تعليقاً على نبأ وفاة رحيم، في منشور عبر موقع «إكس»، من خلال إعادة تغريد نبأ رحيله من الشاعر المصري أمير طعيمة.

ونعته إليسا في تغريدة لاحقة، ووصفته بالصديق الإنسان وشريك النجاح بمحطات خلال مسيرتها ومسيرة كثير من زملائها.

ونشرت الفنانة اللبنانية نوال الزغبي مقطع فيديو به أبرز الأعمال التي لحنها لها رحيم، منها أول تعاون فني بينهما وهي أغنية «الليالي»، بالإضافة لأغنية «ياما قالوا»، وأغنية «صوت الهدوء»، التي كتب كلماتها رحيم. وكتبت الزغبي عبر «إكس»: «الكبار والمبدعون بيرحلوا بس ما بيموتوا».

ونشرت الفنانة اللبنانية نانسي عجرم صورة تجمعها برحيم، وكتبت عبر موقع «إكس»: «ما عم صدق الخبر». وكتبت لاحقا: «آخر مرة ضحكنا وغنّينا سوا بس ما كنت عارفة رح تكون آخر مرة». رحيم قدم لنانسي عدة أعمال من بينها «فيه حاجات» و«عيني عليك»، و«الدنيا حلوة»، و«أنا ليه».

ونشرت المطربة التونسية لطيفة عدة صور جمعتها برحيم عبر حسابها بموقع «إكس»، وكتبت: «وجعت قلبي والله يا رحيم... ده أنا لسه مكلماك ومتفقين على شغل... ربنا يرحمك ويصبر أهلك ويصبر كل محبينك على فراقك».

وكتبت الفنانة أحلام الشامسي: «إنا لله وإنا إليه راجعون، فعلاً خبر صادم ربي يرحمه ويغفر له».

كما نعته الفنانة اللبنانية هيفاء وهبي وكتبت عبر «إكس»: «وداعاً الفنان الخلوق والصديق العزيز الملحن المبدع #محمد_رحيم».

وشارك الفنان رامي صبري في نعي رحيم وكتب عبر حسابه الرسمي بموقع «إكس»: «خبر حزين وصدمة كبيرة لينا».

وشاركت الفنانة بشرى في نعي رحيم، وكتبت على «إنستغرام»: «وداعاً محمد رحيم أحد أهم ملحني مصر الموهوبين في العصر الحديث... هتوحشنا وشغلك هيوحشنا».

وكان رحيم اتجه إلى الغناء في عام 2008، وأصدر أول ألبوماته بعنوان: «كام سنة»، كما أنه شارك بالغناء والتلحين في عدد من الأعمال الدرامية منها «سيرة حب»، و«حكاية حياة».