قلق المسافة والطريق الذي لم أختر

كان الدرس المقارن هو المنطقة الطبيعية والمريحة لباحث اغترب سنين

قلق المسافة والطريق الذي لم أختر
TT

قلق المسافة والطريق الذي لم أختر

قلق المسافة والطريق الذي لم أختر

حين اخترت أن أدرس اللغة الإنجليزية وآدابها في بداية الدراسة الجامعية، أوائل سبعينات القرن الماضي، كنت أدرك أنني أختار أحد طريقين كلاهما عزيز على نفسي. كانت اللغة العربية وآدابها هي الأثيرة والأقرب بطبيعة الحال، هي الهوية وهي الكيان الثقافي، وهي التي نشأت تلميذاً لنحوها وبلاغتها وأدبها. لكن خيار الإنجليزية كان يلمع بالمختلف، بالجديد، بعالم آخر أردت أن أتميز باقتحامه في وقت قل أبناء الوطن المتجهون إليه. ولكني كنت أواجه باستمرار السؤال الملح: لماذا لم تدرس العربية؟ وكانت إجابتي، الخجولة والمعتذرة غالباً، أن العربية قريبة مألوفة ومن الممكن العودة إليها في أي وقت، في حين أن أدباً أجنبياً ليس من الميسور معرفته في مظانه الأصلية دون دراسة لغته والتمكن منها.
ذلك ما كنت أقوله لنفسي ولغيري حين يطرح سؤال التخصص: لماذا اخترت هذا دون ذاك؟ لكني حين عدت إلى الأدب العربي مرة أخرى وقد تشبعت بأدب الآخر لم أجد الطريق إليه كما وجده ويجده من سلكوه منذ البدء. فدراسة أدب ما دراسة منهجية تضع الدارس في سياق مختلف عن ذلك الذي سيجده القادم من أدب آخر مهما كانت درجة قرب الدارس من الأدب الذي يسعى للعودة إليه. قد تكون عودة ثرية بما هي مختلفة بحمولتها المعرفية واستعدادها النقدي، لكن العائد لن يكون شبيهاً بزملائه الذين قرروا منذ البدء أن يكونوا في الطريق المألوف. ولكم تذكرت في مرحلة لاحقة، وأنا أستعيد لحظات الاختيار تلك، قصيدة شهيرة للشاعر الأميركي روبرت فروست عنوانها «الطريق الذي لم أختر» أو «الذي لم يقع عليه الاختيار» (The Road Not Taken). فكل امرئ سيجد نفسه في لحظات متكررة من حياته أمام طريقين، وأحياناً أكثر وعليه أن يختار. لكن ما يلفت فروست نظرنا إليه، ليس الوضع المألوف للاختيار، وإنما ذلك الأمل والحزن المصاحبان؛ أمل العودة لسلوك الطريق الأول يوماً ما، والحزن المتكشف فيما بعد أن ذلك بات مستحيلاً، ليس بعد أن يكون المرء قد قطع شوطاً بعيداً في الطريق الذي اختار.
حين حاولت العودة إلى الطريق الآخر حزنت بالطبع حين تبينت أن فرصة الاختيار انتهت، لكن حزني ما لبث أن خف تدريجياً حين تبينت أيضاً أنني في عودتي الجزئية أختلف بما أسهم به من ربط ومقارنة مستمرتين بين أدب أثير لم أدرسه وأدب أجنبي اخترته ودرسته. ثم تذكرت أمراً آخر له أهميته وقيمته هو أيضاً. تذكرت أنني حتى في ذلك الذي درست لم أدرسه كأهله، لم أدرسه دراسة المحب الذي يستمد هويته وجذور ثقافته مما يدرس. لم أكن كبقية الطلاب الأجانب الذين كانت آداب اللغة الإنجليزية تعني لهم ما يعنيه الأدب العربي لي. كان حضوري منهجياً وشاملاً في دراسة تلك الآداب الأجنبية، لكنه ظل جزئياً. ظللت أقتنص الفرصة تلو الفرصة للعودة إلى مرابعي الأولى: قصيدة هنا تشبه قصيدة هناك، وملمح هنا يذكّر بملمح هناك، إلى أن تشكلت أطروحتي الجامعية في منطقة برزخية سحبت الثقافة العربية قدر الممكن في بحث حمل من الحنين ما يكفي لتخفيف وحشة الاغتراب. كانت دراسة الصورة النمطية للعرب والمسلمين في الآداب الغربية دراسة للذات وتسديداً لدين قديم، لثقافة مهجورة وأهل متروكين، أو هكذا بدا الأمر.
من هنا كان الدرس المقارن هو المنطقة الطبيعية والمريحة لباحث اغترب سنين، وحين عاد كان كالابن الضال يسعى لترميم جسور عودته بتقديم ما يعرف عن الآخر لتأثيث بيته بالجديد والمختلف. ولأن الدرس المقارن لم يزدهر بما يكفي في البيئة الأكاديمية أو الثقافية التي عدت إليها، كان من الطبيعي أن تستمر المقارنة، سلسلة من الاجتهادات المشتتة تقابلها أنماط مرتبكة من التلقي. ظل البريد الذي كان ينبغي أن يذهب إلى قسم اللغة الإنجليزية يؤخذ خطأ إلى قسم اللغة العربية، ظناً أن صاحبه من أهل العربية لا من أهل الأدب الأجنبي. وفي الوقت نفسه ظل ذلك الباحث نفسه ضيفاً يدعى بين الحين والآخر إلى القسم الذي لم يختره مناقشاً لرسالة أو ملقياً لمحاضرة، ظل البيت الآخر مضيافاً يقدر للابن الضال غربته وحرصه في الوقت نفسه على مد الجسور وتعميق الأواصر.
غير أن تلك العلاقة الجميلة لم تخلُ من قلق وتوتر. كان الجميل فيها أنني حين نظرت من منزل الجيران على منزلي القديم كنت أرى جمال الإطلالة، أرى مميزات المبنى الذي اخترت فأرنو إلى نقلها إلى بيتي الأول: نبتات باهرة يمكن استنباتها، عادات في التفكير والتحليل والبحث يمكن نقلها، إضافات كثيرة قادرة على تحويل المنزل إلى منزل أكبر وأكمل. لكن الحماسة ما لبثت أن خفتت حين اكتشفت أن بعض ما ظننته غائباً موجود، وأن بعضه مستعصٍ؛ إما لأنه لا يصلح أو لأنه مرفوض. غير أن الأسوأ كان اكتشاف أن ما بدا موجوداً أو ما جرى استقدامه وتوظيفه جاء مشوهاً فشوه المنزل، إما على هيئة غرفة ضرورية لكنها بنيت باعوجاج أو نافذة ستسمح بالنور والهواء، لكنها فتحت في المكان غير المناسب فلم تجلب ضوءاً أو هواء.
من هنا بدت الترجمة نافذة واعدة بهواء أعلى نقاءً وضوء أكثر هدى. والترجمة ليست بالضرورة أو دائماً ما يفرز نصوصاً أو كتباً. هي أحياناً كثيرة ما يولّد أفكاراً وأحاسيس نبتت في مكان آخر وتسللت عبر مسامات التأمل والتحليل إلى أفكار وأحاسيس بلبوس جديد تغيرت معه الملامح وتبدلت الهويات. الترجمة هي أيضاً ما نفعله حين نقرأ نصاً بمقاربة تعلمناها في ثقافة أخرى، أو نتوصل إلى حلول أو مقترحات لم تكن لتنبت في فكرنا لولا فلسفة عرفنا أو علم درسنا في بيئة مغايرة لما ألفنا. لكن الترجمة بمعناها المألوف ظلت ولا تزال قناة كبرى للاختلاف ومقاربة الجديد.
من هنا بدا أن دراسة الأدب الأجنبي هي في جوهرها، أو كما ينبغي أن تكون، تعلم للتفكير بطريقة مختلفة، ليس فقط لمن يتخصص فيها وإنما أيضاً لمن يسعى إلى قراءتها بلغتها الأصلية. فثمة اختلاف واختلاف كبير بين قراءة الأدب الأجنبي مترجماً وقراءته بلغته. وهنا المفارقة؛ قراءة المترجم ليست الطريق الأفضل نحو التفكير المترجم. الدخول في أفق الثقافة الأخرى بغرابتها وأجنبيتها هي ما اكتشفه الفرنسي رولان بارت حين زار اليابان وعاد ليؤكد أنه كان يود لو بقيت الكلمات والأسماء في لغتها الأصلية لكي تحتفظ بصدمة المختلف، الأجنبي، الغريب. كان يود أن تبقى الغرابة صادمة للمألوف، محركة لرتابته، أن يكون الطريق الآخر معبراً مثرياً إلى الطريق الأول... فقط لو أمكن ذلك.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!