كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟

يمنى طريف الخولي تبشر بنموذج إسلامي يسمح بتوطين العلم في ثقافتنا

كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟
TT

كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟

كيف نخلق تقليداً علمياً إسلامياً معاصراً؟

صدر أخيراً، عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع ببيروت، كتاب جديد للدكتورة يمنى طريف الخولي، بعنوان رئيسي: «نحو منهجية علمية إسلامية»، وعنوان فرعي: «توطين العلم في ثقافتنا». والكتاب جاء تتويجاً لمسار الباحثة في مجال «الابستمولوجيا»، مستجيباً هذه المرة، لهموم عالمنا العربي - الإسلامي. فالخولي عملت لسنوات، كأستاذة لفلسفة العلوم بالقاهرة، وكباحثة زائرة في جامعات عربية ودولية، وحصلت على الكثير من الجوائز، ولها رصيد يتجاوز العشرين كتاباً ما بين التأليف والترجمة، ويكفي ذكر عملها عن الفيلسوف الكبير كارل بوبر: «منطق العلم ومنهج العلم»، وترجمة كتابه: «أسطورة الإطار».
تندرج جهود طريف الخولي ضمن مباحث فلسفة العلوم. وقد أشبعت نهمها منها انطلاقاً من بحوث رصينة، حيث تعاملت ولوقت طويل، مع أعمدة فلاسفة العلم في القرن العشرين، أمثال: كارل بوبر وتوماس كون، اللذين شكلا تياراً نظرياً، تحرك عكس النزعة الوضعية، التي لا ترى في العلم إلا مناهجه وطرق اشتغاله من الداخل وآلياتها، ضاربة عرض الحائط الإطار الاجتماعي الذي تجري فيه العملية العلمية. وهذا ما أصبح مرفوضاً. فللعلم تاريخيته وطابعه الاجتماعي. وهو يمارس في إطار حضاري مخصوص. بمعنى آخر، يعد العلم ليس فقط تقنيات معزولة عن السياق المعرفي العام والاجتماعي الخاص، بل هو ينتج معجونا وممزوجا بالثقافة السائدة والمكونة من الاعتقاد والسياسة والأخلاق ومختلف القيم. فيمنى الخولي ستقتنع بضرورة التخلي عن الفكرة الوضعية التي ولى عهدها في الغرب، والتي أعاد إنتاجها كبار الفلاسفة العرب من أمثال زكي نجيب محمود، والتي تحكم على العلم ومنهجيته من خلال ذاته فقط، وكونه بلا وطن أو هوية، إلى وجوب الحكم عليه انطلاقاً من البعد الحضاري والقيمي، خاصة مع ظهور «مفهوم البراديم» الذي نحته توماس كون، في كتابه الذائع «بنية الثورات العلمية». وهو المفهوم الذي زلزل أركان المباحث الفلسفية في العلوم الكلاسيكية، وأبرز أن العلم لا ينفصل أبدا عن شروط إنتاجه السوسيولوجية. هذا المفهوم الذي تعول عليه الخولي كثيراً في كتابها الجديد الذي تترجمه: «بالنموذج الإرشادي»، على الرغم من أن هناك ترجمات أخرى للمفهوم، نراها أقوى (كالنموذج الموجه، الإبدال، المنوال وغير ذلك.
توطين العلم في الثقافة الإسلامية
لا ننكر أن هذا الزمن، الذي نعجز عن ولوجه، هو زمن علمي بامتياز. فمنذ القرن السابع عشر، والثورات العلمية تكتسح كل المجالات، وتحقق كل النجاحات، إلى درجة أصبح «العقل العلمي» طاغياً وكأنه الخيط الناظم لكل تفكير، والخلفية الواعية واللاواعية، الواضحة والمعتمة، الموجهة لرؤية الناس للعالم. إنه كالمستبد والطاغية الذي أصبح الكل يطلب وده ويسعى إلى التقرب منه. فكل البحوث من دون استثناء، تلهث وراء يافطة «علمي» خوفاً من أن لا يعتد بها، ومن ثم يجري إقصاؤها من نادي التنافس المعرفي.
إن عالمنا العربي الإسلامي، وعلى الرغم من كل المجهودات المبذولة فيه، لم يقدر على جعل العلم يمد جذوره إلى أعماق ثقافته. نعم نحن نستهلك المنجزات العلمية وربما أكثر حتى من الغرب، لكن الروح العلمية تكاد تغيب عنّا، والدليل هو عدم مساهمتنا الفعالة والمبدعة في العلم العالمي بإنجازات تذكر. فما السبب في ذلك؟ ولماذا هذا العجز في الانخراط في العلم العالمي بقوة؟ هذا هو الهم الذي حملته يمنى الخولي، واضطرها إلى تأليف كتاب تبرز فيه بعض المعوقات التي تحول دون تغلغل العلم إلى ثنايا ثقافتنا.
تنطلق يمنى الخولي بداية، من ضرورة الاعتراف بتواضع الإسهام في التقدم العلمي من قبل العالم الإسلامي المعاصر. نعم لدينا المجتهدون والمبدعون، وبعض الجامعات الرائدة والعريقة وذات الموقع في التصنيفات العالمية، وكذلك بعض المؤسسات. لكن كل هذه الجهود مشتتة. فنحن مازلنا في مرحلة النقل والاستهلاك (مشتقة من الهلاك)، ولم نحقق بعد، الذات الحضارية مثلما فعلت اليابان ولحقت بها، أو سبقتها الصين، وانضمت إليهما ثقافات أخرى لم تسهم في الحداثة ولكنها استوعبت المنجز العلمي، وهي تقدم اليوم مساهمات في المنجز العالمي المعاصر.
ترى يمنى الخولي، أن الدخول إلى عالم الإضافة والإبداع في العلم والبحث العلمي، لن يتم إلا إذا جرى التفكير في الطرق الكفيلة بتوطين العلم، وجعله جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا وليس غريبا عنا. بمعنى آخر، تريد الخولي أن تقول، إن على المثقفين والمتخصصين التفكير في السبل التي يجب أن نسلكها لجعل الروح العلمية تتغلغل إلى مخ عظام العربي- المسلم. أي علينا بذل الجهد لخلق تقاليد إسلامية تمهد لمجتمع العلم. وهنا تستشهد يمنى الخولي بفيلسوف العلم العربي الشهير رشدي راشد، الذي قال إن «المجتمع العلمي يكون موجودا عندما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي، تمهد لوجود هذا المجتمع العلمي، وتقدم له الخصائص التي تميزه. وإذا انعدمت التقاليد الوطنية في البحوث، لا يبقى سوى كمية من المعلمين وتجمع من التقنيين». وهذا بالضبط ما تريد الخولي القيام به في كتابها الجديد، أي وضع خريطة طريق تسمح، وبعزم، بخلق نموذج إرشادي يمتح أصوله من الثقافة الإسلامية، يمكنه أن يعطي الانطلاقة نحو التقليد العلمي المنشود. فهي قررت عدم العودة إلى الماضي بحثاً عن أسباب التخلف، أو البحث عن تلك النقط المضيئة لكي نحتمي بها. بل قررت على العكس من ذلك، النظر إلى المستقبل، أي البحث عن القوى التي يمكن الاستناد إليها لخلق الحماسة وتوليد الحركة في العقل المسلم. فما هي ملامح هذا «النموذج الإرشادي الإسلامي» الذي تبشر به يمنى الخولي؟
ملامح النموذج العلمي الإسلامي
تعترف يمنى بداية، بأن عملها في اقتحام «العقدة المنهجية» التي تتخبط فيها ثقافتنا، جاءت كتوليف لمجهودات السابقين. وتقصد بالأساس، عمل أو حلم مصطفى عبد الرزاق في تحقيق الذات الحضارية، الذي سيسير في دربه علي سامي النشار. وهو العمل الذي سيفتر ويتحول إلى نقيضه، حين تهيمن الأطروحة الوضعية المنطقية مع زكي نجيب محمود، الذي شد انتباه الباحثين إلى المعاصرة، وزاد من حدتها العمل التنويري القاطع والحاد الذي أنجزه فؤاد زكريا وآخرون. فهذا الموقف الذي يتحرك ما بين الأصالة والمعاصرة، بين الأخذ من الذات ومن الآخر، هو ما شد انتباه الخولي، حيث عملت على التركيب والتوليف المتناغم، عبر المزاوجة بين المنهجية ذات البعد المشترك والمنهجية ذات البعد الخاص. أو بعبارة أخرى، عملت على خلق جدل بين ما هو كوني وما هو خصوصي. وهنا تعلن استفادتها من المعهد العالمي للفكر الإسلامي في فرجينيا منذ 1977.
إن أهم ما استفادت منه يمنى الخولي من الابستمولوجيا المعاصرة، هو أن العلم لم يعد مجرد إجراءات تجريبية عقلية ورياضية، أو مجرد آليات يجري تعلمها. بل هو يحتاج، قبل كل شيء، إلى قوة دافعة تؤخذ من الثقافة السائدة. فالبعد العقدي والنسيج العاطفي والمنظومة القيمية، تولّد في النفوس، الطاقة اللازمة، وتخلق فيها الحماسة الضرورية لانبثاق العلم. باختصار، لكي يتطور العلم يحتاج إلى المشترك الإنساني العام، أي الحصيلة المعرفية الكونية. لكنه يحتاج أيضاً، إلى أن يضخ كل ذلك في إطار الخصوصية الثقافية والواقع الاجتماعي. لهذا ولكي ينطلق العلم عندنا، لا بد من إقحام المنجز العلمي المعاصر في التربة الإسلامية بما يتلاءم ومبادئها وأسسها، وإلا سيكون الأمر كصرخة في واد. بكلمة واحدة، تؤكد الخولي على أن الانطلاق في العلم، يجب أن يكون مربوط الصلة بالماضي. إذ لا ينبغي البدء من دون جذور. وتجسير الهوة بين المشترك الكوني وبين المخزون الثقافي والحضاري، يغدو مطلبا ملحا، وإلا لن نتحرك قيد أنملة في جعل العلم يتشكل كتقليد يسري في كيان الثقافة العربية الإسلامية.
وتبعا لما جرى تحديده أعلاه، يكون المسلم بحسب يمنى الخولي، مطالبا بالاشتغال وفق إطار منهجي إسلامي عام، إن شاء أن لا يحس بالغرابة تجاه العلم، ويمكن تحديد ملامحه كالآتي:
أولاً: الانطلاق من نواة التوحيد. والتوحيد هنا، ليس مجرد مبدأ ميتافيزيقي وحسب، يوفر إمكانية النظام. بل هو أيضاً، مبدأ قيمي، يضفي على البحث العلمي أخلاقيات ومعايير يفتقدها العلم الغربي. فعلاقة المسلم بالعالم، لا ينبغي أن تسير في منحى المنهجية الغربية نفسها، ذات القراءة الوحيدة لكتاب الطبيعة. بل يجب أن تتجاوزها إلى نظرة تكاملية تستحضر قراءة الكتاب المنزل. وهذا الدمج بين القراءتين أي قراءة الكتاب المنظور (الطبيعة) والكتاب المسطور (الوحي)، هو ما سيضفي الخصوصية على العلم الإسلامي المرتقب.
ثانياً: إذا ينبغي على المنهجية الإسلامية الانطلاق من نواة صلبة هي التوحيد، تضمن النظام والأبعاد القيمية، فإنه ينبغي أن تضاف إليها موجهات ومقاصد، هي: مقصد الاستخلاف، أي أداء الأمانة وتحمل المسؤولية في الأرض، ومقصد العمران، أي الاضطلاع بمهام البناء وأعمار الأرض، ومقصد التزكية، أي التطهير وترقية النفس وصون قيمة الحياة.
إذن ترى يمنى الخولي، أن إقحام العلم وتوطينه وإبعاده عن أن يكون غريبا عن ثقافتنا، لن يتحقق إلا إذا تلاءم ومرجعية المسلمين. بعبارة أخرى، على العقل المسلم أن يسدد العلوم الطبيعية، ويخرجها من النزعة الآلية الجافة، كما هي في المنهجية الغربية، نحو إضفاء صبغة الغائية والقيم والمقاصد عليها، ما سيولد لديه الإحساس بالتميز، وكذلك الحافز، والحماسة نحو الاشتغال بما يناسب ميوله وثقافته المتغلغلة في جوفه.
نخلص إلى أن الخولي، تشتغل ضمن السؤال نفسه الطاعن في السن: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ والجواب عندها، يكمن في غياب العلم. لكن الإشكالية الأهم المتفرعة عن السؤال الأول: لماذا لم نفلح في تبيئة العلم وتوطينه، كي يسري في عروق ثقافتنا، ويصبح تقليداً عاماً يسمح بالإبداع؟ الجواب عندها، هو أن الأمر جرى بمعزل عن مراعاة سياقنا الحضاري العقدي والعاطفي والقيمي. فظل العلم عندنا مشتتاً وتقنياً يردده بعض المعلمين فقط، فأضحى غير مستساغ، بل غريباً عنا. فهل نبدأ في وضع مناهج تدمج الكوني بالخصوصي ولو على سبيل التجريب؟



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!