عبد المنعم تليمة... محطات راسخة ومسارات متجددة

ترك بصمة في حقل النقد الأدبي ومكانة بارزة على الساحة الثقافة العربية

عبد المنعم تليمة
عبد المنعم تليمة
TT

عبد المنعم تليمة... محطات راسخة ومسارات متجددة

عبد المنعم تليمة
عبد المنعم تليمة

محطات راسخة، ومسارات متجددة من العطاء الأدبي والإنساني النبيل، في معنى الريادة والأستاذية والأبوة الحانية، مشكلة حصاد رحلة علمية كبيرة، تداخلت فيها بسلاسة وحيوية كل صنوف الإبداع وأطيافه، واستطاع أن يخلق لها في كتاباته وطروحاته بيئة من التعايش الخصب، يعتد بالتنوع باعتباره المعيار الأمثل والأكثر عمقا في فهم حقيقة الظاهرة الأدبية، ودفعها إلى آفاق التطور الرحبة والمغامرة الخلاقة.
هكذا عاش الناقد الدكتور عبد المنعم تليمة، أستاذ الأدب العربي، الذي غيبه الموت، أول من أمس، عن عمر يناهز الثمانين عاما، تاركا منجزا فكريا، سيظل قادرا - لسنوات عديدة - على إثارة الأسئلة، والقدرة على الإدراك والفهم والتفكير الصحيح في حياتنا الثقافية العربية.
تسلح تليمة منذ طفولته القروية ببصيرة حية ومتقدة، فكانت مجابهته الأولى للحياة من خلال حفظه للقرآن الكريم وتجويده على يد أحد الشيوخ المخضرمين في كُتاب قريته «أوسيم» بمحافظة الجيزة. شكلت هذه المجابهة الغضة حجر أساس في حياته، فأدرك مبكرا أن اللغة ثمرة من ثمرات الطفولة، ثم اتسع هذا الإدراك لتصبح اللغة بمثابة مخزن للذاكرة، لها سياقها التاريخي والاجتماعي والنفسي، لا نستطيع أن ننظر إليها بمعزل عن حركة الزمن والعناصر والأشياء، فالوجود المادي الواقعي للإنسان لا ينفصل عن وجوده الروحي، واللغة وعاء الاثنين معا، هناك فقط تعارضات يصنعها البشر، لغايات وأهداف محددة، أغلبها لا يصب في صالح الجماعة البشرية، بل يسعى إلى استغلالها إلى حد الاستعباد.
مع تطور فصول حياته وتخرجه في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب، جامعة القاهرة، سنة 1960، ثم حصوله من الجامعة نفسها على درجة الماجستير في الأدب العربي الحديث، سنة 1963، ودرجة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث سنة 1966. حرص أستاذ الأدب المقارن على أن يطور ويعمق من هذه المجابهة بحيث تصبح بمثابة كينونة فارقة، يستطيع من خلالها أن يفسر ويأوّل ويهضم ويتمثل حقيقة الواقع الراهن سواء في سياقه الأدبي والاجتماعي والثقافي، أو في تقاطعه مع الآخر المختلف، ومحاولة إيجاد مشترك معرفي معه، يضع هذا الاختلاف في موضعه الصحيح، بين كيانين يتجادلان من أجل مستقبل أفضل وحياة عادلة.
برز هذا في نظرة تليمة إلى تراث الماضي، باعتباره جسرا إلى الحاضر، فعشقه لشعر أحمد شوقي، وولعه الشديد بأغاني محمد عبد الوهاب خاصة القديمة، لم يكن حاجزا بين تعامله بحيوية مع كل تيارات الكتابة الجديدة في شتى مناحي الإبداع، بل في أقصى أشواطها، فيما بعد الحداثة.
أراد تليمة أن يؤسس منجزه النقدي بمعيار الإنتاج الشامل، الذي لا ينفصل أمسه عن غده، ولا سابقه عن لاحقه، فحصل على دبلومة عامة في التربية وعلم النفس سنة 1961. وبعد أن حصل على الدكتوراه درس الآداب الكلاسيكية اليونانية واللاتينية سنة 1985، وحصل فيها على ليسانس من جامعة عين شمس سنة 1985. كان هدفه أن يقف على معنى الأصالة والتجديد، فالأصيل، حسبما يرى، ليس نبتا شيطانيا مكتفيا بذاته في الفراغ، بل تكمن أصالته في مقدرته على الأخذ والعطاء، على أن يؤثر ويتأثر، هكذا حال الآداب الخالدة، وحال الحضارات الراسخة القوية الممتدة في الزمان والمكان. لذلك كان يرد على من يثيرون غبار القطيعة العدمية مع الماضي «أساتذتنا وشيوخنا الأجلاء علمونا أنه لكي تجدد لا بد أن تشبع الماضي قتلا».
في سياق هذا المعيار الشامل برز ولع تليمة بفكرة الجذور، فالذهاب إلى الماضي، هو محاولة لاستشراف وسبر أغوار تلك الجذور، ومعرفة التربة الضاربة فيها. وكان ولعه يزداد افتتانا، كلما كانت هذه الجذور مفصلية في تاريخ الحضارات الكبرى.
لذلك، حين أراد أن يجرب رحلته مع الآخر المختلف، لم يذهب إلى الغرب كما هو شائع، وإنما ذهب إلى أقصى الشرق، إلى اليابان، في رحلة استغرقت عشر سنوات من عمره، وشكلت محطة مهمة في حياته، كان دائما يتباهى بها، ويحكي عنها، كأنها إحدى حكايات ألف ليلة وليلة.
ذهب إلى اليابان كأستاذ للأدب العربي، يحمل على كاهله أربعين عاما من البحث والتقصي والمغامرة بين أقصى الثابت وأقصي المتحول في التراث والحياة، وكتابين شغلا الحياة الأدبية، هما «مقدمة في نظرية الأدب»، سنة 1973، و«مدخل إلى علم الجمال الأدبي»، سنة 1978.
عايش تليمة فضاء الثقافة اليابانية بمحبة عالم يعرف ما يريد، وما يحلم به، وتعرف عن قرب إلى حضارة الهند والصين، وزار معابد، البوذية والكونفوشيوسية والشنتاوية، وتحاور مع أئمتها، نمط حياة ينهض على تقديس العمل والإنتاج والقيمة، محكوم بنظام اجتماعي صارم، يحترم الأخلاق والعادات والتقاليد إلى حد القداسة.
ساهم تليمة في نقل عدد من عيون الكتب في تراث الثقافة العربية الإسلامية إلى اليابان، وعلى رأسها كتاب «ألف ليلة وليلة» فقد كان مترجما عن لغات أجنبية، وتمت ترجمته لأول مرة مباشرة عن العربية، كما ساهم في ترجمة أجزاء من مروج الذهب للمسعودي، ورحلة ابن جبير، وكتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ، وفي الأدب العربي الحديث، تم نقل عدد من أعمال طه حسين، وديوان جبران خليل جبران كله، وبعض أعمال نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ومجموعات من القصة القصيرة والشعر، وطبعت هذه الأعمال في اليابان، لتشكل إضافة إلى القارئ المعروف بحبه للمعرفة ونهمه للقراءة. يقول تليمة: «كنت أملي على المختصين اليابانيين، وكانوا يقومون بعملية الترجمة». وحين عاد في عام 1994 تابع نقل عدد مهم من الكتب اليابانية في الآداب والفنون إلى اللغة العربية.
عكف تليمة على تطوير المنهج الواقعي في النقد، وأولاه جل جهده الكبير، خاصة في كتابه «مقدمة في نظرية الأدب»، ويرى الكثير من المختصين أن هذا الجهد لا يقل أهمية عن جهود ألتوسير، وتيري إيجلتون، وغيرهما من رواد النقد الأدبي الحديث في الغرب. أكد تليمة في هذا السياق على مجموعة من الحقائق، من أهمها أن «الفن انعكاس لصورة الواقع الموضوعي على الذات، ولكنه ليس انعكاسا سلبيا، بل هو إسهام في التعرف على الواقع، وأداة للم شعثه، وسلاح لتغييره. فإذا غامت رؤية الفنان للحقيقة الموضوعية فقد عمله موضوعيته، وإذا غابت الذات فقد عمله فنيته»، مشددا على أن «الواقع يبدو في الفن أكثر غنى من حقيقته الواقعة؛ لأن الفن لا يقف عند الواقع في معطياته الخارجية المباشرة، إنما يتخطى هذه المعطيات إلى إدراك جديد لها، فيبدو الواقع في صورة جديدة، له صورته الفنية، وهذه الصورة الفنية أكثر كمالا من (أصلها)؛ لأنها تلم ما بدا مبعثرا من عناصره، وتوضح ما بدا غامضا من مغزاه».
وعلى هذه الأساس فالفن في معول تليمة النقدي هو باختصار، إدراك جديد للواقع، منهيا بذلك الثنائية العقيمة بين الشكل والمضمون، فلا انفصال بينهما، وإنما كلاهما يفيض عن الآخر ويشكله في الوقت نفسه.
أثرت هذه الأفكار على أجيال الكتابة الجديدة في مصر، وامتدت إلى معظم الوطن العربي، خاصة في الشعر، فكان تليمة أحد الركائز الفكرية الأساسية في تجربة جماعة «إضاءة 77» الشعرية، وكتب ثلاثة مقالات فكرية مهمة بعنوان «الشعر ينبئ ويتنبأ» نشرت في الأعداد الأولى من مجلتها غير الدورية.
طيلة حياته حظي تليمة باحترام وتقدير واسعين في أوساط الحياة الثقافية والجامعية، فكان أستاذا قديرا، وإنسانا سمحا رحب الصدر صديقا لطلابه، يشد على همومهم، ويمد لهم يده ببساطة وتلقائية ودماثة، لم يتخل عن دوره السياسي الداعم للحركة الطلابية، المدافع عن الديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية، وانحاز للأحزاب والتيارات السياسية التي تبحث عن مستقبل آمن للوطن، وحياة سياسية، ترسخ قيم المواطنة وحرية الرأي والتعبير.
بجانب هذا العطاء الواسع لا يذكر تليمة إلا ويذكر معه «الصالون الأدبي الشهير» الذي كان يقيمه مساء يوم الخميس أسبوعيا في بيته، كان الصالون بمثابة نافذة للكتاب والشعراء والنقاد والفنانين والمثقفين من شتى التيارات والأجيال، ليتنفسوا هواء مفعما بحيوية الحوار والنقاش وطزاجة الرؤى والأفكار، في قضايا السياسة والفلسفة والأدب والنقد والعلم والفن. وكان تليمة يضيئه بروحه الشاسعة النبيلة، ويلم شتاته ويوجه بوصلته بفطنة العالم الورع، صاحب الخبرة والبصيرة الثاقبة. الذي يرى أن الثقافة الركيزة الأساسية في أي إصلاح أو تغيير في المجتمع.
لقب عبد المنعم تليمة بـ«عميد النقاد المعاصرين» في احتفاليه أقامتها له الجامعة الأميركية بالقاهرة قبل عامين، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2004، وله كتابان آخران مهمان هما: «طرائق العرب في كتابة السيرة الذاتية»، و«نجيب محفوظ».
ورغم إسهامه اللافت في تأسيس العديد من الجمعيات المصرية الأدبية، كاتحاد الكتاب وجمعيتي النقد المقارن، والنقد الأدبي، بالإضافة إلى كونه خبيرا بمجمع اللغة العربية، فإنه عاش حياة اجتماعية بسيطة وزاهدة. تزوج مرة واحدة، ولم يدم الزواج، لكنه أثمر ابنه الوحيد «حاتم». فالحياة كما يراها مثل الفن تتمثل في التواصل والتفاهم، لكنها كثيرا ما تضجر من التجريد، الذي لا يكترث بنفع الشيء، بل بكيفية إدراكه في سياقات مغايرة للسائد والمألوف.



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.