مفاجأة الأوسكار... «لا لا لاند» يربح ثم يخسر

هرج ومرج في آخر جوائز الموسم

طاقم عمل «لا لا لاند» يتسلم جائزة افضل فيلم بالخطأ قبل تدقيق النتيجة وتكريم «مون لايت» (أ.ب)
طاقم عمل «لا لا لاند» يتسلم جائزة افضل فيلم بالخطأ قبل تدقيق النتيجة وتكريم «مون لايت» (أ.ب)
TT

مفاجأة الأوسكار... «لا لا لاند» يربح ثم يخسر

طاقم عمل «لا لا لاند» يتسلم جائزة افضل فيلم بالخطأ قبل تدقيق النتيجة وتكريم «مون لايت» (أ.ب)
طاقم عمل «لا لا لاند» يتسلم جائزة افضل فيلم بالخطأ قبل تدقيق النتيجة وتكريم «مون لايت» (أ.ب)

كاد أن يمر كل شيء بسلام. لا خطابات نارية، ولا تشنجات، ولا كلمات تخدش أحاسيس المرشحين، بل عرض سلس مثير، لا يخلو من المفاجآت. وكاد أن ينتهي أيضاً بالتوقعات السائدة: فيلم «لا لا لاند» سيختتم الحفل بفوزه بجائزة أوسكار أفضل فيلم، لكن هذا لم يقع. فجأة وقع سواه!
أحدهم سلّم مقدّم الفقرة، الممثل والمخرج وورن بايتي، المغلف الخطأ. فتحه وورن، ليجد اسم الممثلة إيما ستون، وبجانبه «لا لا لاند». وبما أن إيما ستون كانت قد فازت عن دورها في هذا الفيلم قبل نحو ثلث ساعة، فإن وورن سلّم المغلّف وما فيه للممثلة التي شاركته بطولة «بوني وكلايد» قبل 50 سنة، والتي قرر سيناريو الحفل أن تتلو النتيجة، هذه قرأت اسم الفيلم معتقدة أنه الفيلم الرابح.
على الفور، هب الحضور فرحين للفيلم وصفّقوا، وصعد المنتجون الأربعة إلى المنصّة، واستلموا الأوسكار. هذا قبل أن يتبدّل الموقف سريعاً. قاطع أحد منتجي الفيلم الموسيقي الخطب التي بدأت تُتلى، وقال: «هناك خطأ. الفيلم الرابح هو (مونلايت)».
بالنسبة للمعظم الكاسح من الحضور، لم يكن هناك ريب أن «لا لا لاند» سيكون الفيلم الفائز. فهو مثل «الجوكر» اكتسح معظم الجوائز الرئيسية منذ شهرين، وبينها جوائز أفضل فيلم. ابتسامة الفوز تربّعت على وجوه الكثيرين، خصوصاً وجوه المخرج داميان شازيل، والممثلين إيما ستون ورايان غوزلينغ، رغم أن هذا الأخير خسر مواجهته مع الممثل كايسي أفلك، قبل دقائق.
كل هذا أدى إلى هرج ومرج، وراقب الحضور ما يدور على المنصّة، في تساؤل عما إذا كان الموقف جاداً أو جزءاً من مسرحية، لكن تأكيد المنتج جوردان هوروفيتز على أن «مونلايت» هو الفيلم الرابح، وصعود فريق ذلك الفيلم إلى المنصّة (التي باتت تشبه محطة قطار)، بدأ يزيل غبار الدهشة. وسارع ورن بيتي بتبرئة نفسه وفاي داناواي، مشيرًا إلى أنه استلم المغلف الخطأ، وأن فاي داناواي قرأت ما طلب منها أن تقرأه.
* الثلاث الألمع
يستطيع المرء تخيل ليل ونهار في آن واحد: فيلم يفرح لفوزه، ثم يخبو فرحه، وفيلم آخر كان قد تلقى نبأ أنه لم يفز، ليجد أن هناك خطأ، وأنه هو الأحرى بالصعود إلى المنصّة، واستلام ما كان يحلم به. لكن ما حدث لا يعني أنه كان المفاجأة الوحيدة في هذه الدورة الـ89. في الحقيقة، مجرد خروج «لا لا لاند» فارغ اليدين من مسابقة أفضل فيلم هو مفاجأة وصدمة، إن لم يكن لشيء فلأن التوقعات كلها انصبّت عليه، وبينها توقعات أكثر المراقبين في الصحف والمواقع الأميركية والأوروبية.
كما هو معروف، تردد عنوان هذا الفيلم في 14 قسماً: كان مرشّحاً في سباقات أفضل فيلم، وأفضل ممثل أول، وأفضل ممثلة أولى، وأفضل مخرج، وأفضل سيناريو مكتوب خصيصاً، وأفضل تصوير، وأفضل توليف، وأفضل توليف صوتي، وأفضل مزج صوتي، وأفضل تصميم فني، وأفضل موسيقى، وأفضل أغنية (مرتين عن أغنيتين)، كما أفضل تصميم ملابس. لكن حصيلة هذا الفيلم الموسيقي لم تكن بمثل هذا التعداد، إذ بلغت 6 جوائز فقط، وذلك في مجالات التأليف الموسيقي، والأغنية المكتوبة خصيصًا، وتصميم المناظر، والتصوير، والإخراج، وأفضل ممثلة أولى.
هذه الثلاث الأخيرة هي أهم هذه المجالات. إيما ستون انتزعت الجائزة بثقة من منافساتها روث نيغا (عن «لفينغ»)، ونتالي بورتمن («جاكي»)، وميريل ستريب («فلورنس فوستر جنكينز»)، والفرنسية إيزابل أوبير («هي»). والمخرج داميان شيزيل فاز (كما توقعنا أيضًا) على زملائه كنيث لونرغان (مخرج «مانشستر على البحر») وباري جنكينز («مونلايت»)، ودنيس فيلينييف («وصول»)، ومل غيبسون («هاكسو ريدج»).
أما الجائزة المهمّة الثالثة، وهي جائزة التصوير، فاستلمها لينوس ساندغرن الذي منح «لا لا لاند» انسيابه البصري وألوان بهجته. وقد فاز بها عنوة عن برادفورد يونغ («وصول»)، وغريغ فريز («ليون»)، وجيمس لاكستون («مونلايت»)، ورودريغو برييتو («صمت»).
خسائر «لا لا لاند» الأساسية كمنت في موقعين: الأول، عندما ذهب الأوسكار للممثل كايسي أفلك عن دوره في «مانشستر على البحر»، متجاوزة كذلك أندرو غارفيلد («هاكسو ريدج»)، ودنزل واشنطن («سياجات»)، وفيغو مورتنسن («كابتن فانتاستك»).
الثاني بالطبع عن حط غبار الفوضى، وتبين أن «لا لا لاند» خسر موقعه الأخير كأفضل فيلم، لصالح فيلم «مونلايت».
* قضايا مهمة... وخاسرة
«مونلايت» فيلم معتدل الحسنات، من وجهة نظر نقدية صارمة، خصوصاً إذا ما قورن بثلاثة أفلام من أصل ثمانية منافسة: «هاكسو ريدج» لمل غيبسون، و«مانشستر على البحر» للونرغان، و«سياجات» لدنزل واشنطن، بالإضافة إلى «لا لا لاند». طبعًا هناك دراما محسوسة عاطفيًا في «مونلايت»، لكن كذلك الحال بالنسبة لفيلم واشنطن «سياجات» الذي خسر جائزته هنا، وجائزة في نطاق أفضل ممثل (دنزل واشنطن)، وفي نطاق أفضل سيناريو مقتبس. هذه الأخيرة ذهبت أيضًا إلى «مونلايت»، مما يدل على أن الناخبين وجدوا «سياجات»، المأخوذ عن مسرحية بالعنوان ذاته، محدود المزايا، ملتصق تمامًا بالنص المسرحي، على عكس «مونلايت»، المستمد بدوره من مسرحية عنوانها «Black Boys Look Blue»، ولكلمة «بلو» معنيان: حزين وأزرق.
كلا الفيلمين يبحث قضايا اجتماعية تخص الأحياء الأفرو - أميركية في المدن. «سياجات» عبّر عنها أفضل، لكن هذا لم يساعده في تسجيل الهدف هنا. وهذه القضايا ضاعت كذلك في سباق أفضل فيلم تسجيلي طويل، فثلاثة من الأفلام الخمسة المرشّحة هناك تناولت مواضيع جادّة، تحمل قضايا آنية، وهي «النار في البحر» لجيانكارلو روسي، وهو فيلم إيطالي عن المهاجرين الآتين بصورة غير شرعية، عبر المراكب، إلى الجزر الإيطالية الجنوبية، و«أنا لست زنجيّك» لراوول بك الذي ينظر، من خلال أشرطة وثائقية، لنشاطات الكاتب الراحل جيمس بولدوين، إلى المشكلة العنصرية الكامنة في جذور المجتمع الأميركي حيال السود. مثله في هذا البحث فيلم آفا دوفيرناي «13» الذي يبحر في حياة الأفرو - أميركيين المنتقلين من بؤس الشارع إلى بؤس السجون.
الفيلمان اللذان لم يحملا قضايا كانا «حياة مرسومة» لروجر روس ويليامز، حول وله شديد لصبي مفتون بعالم وولت ديزني، و«أو جي سيمسون» لإزرا إيدلمان الذي كان فوزه بالأوسكار مفاجئاً، من ناحية أنه سبق له أن فاز بما يكفي من جوائز سينمائية وتلفزيونية.
هذا يحيلنا إلى مسابقة الفيلم الأجنبي التي انتهت بفوز الفيلم الإيراني «البائع» على منافسه الأول في هذا النطاق، وهو الفيلم الألماني «توني إردمان». هذا هو الفوز الثاني للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، إذ سبق له أن نال الأوسكار ذاته سنة 2015، عن فيلمه الأفضل «انفصال».
المخرج بعث برسالة تمت قراءتها على المنصّة، وما فيها لم يكن مفاجئاً. لقد أحب المخرج، بطبيعة الحال، حضور الحفل، لكنه لم يستطع، فعمد إلى ثاني أفضل الأشياء: بث تمنياته بعالم يسوده العدل والتسامح.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)