«البؤساء الأميركيون» في عصر ترمب

بيع منها نحو نصف مليون نسخة إلكترونية وصوتية

مشهد من العرض الموسيقي «البؤساء» في لندن
مشهد من العرض الموسيقي «البؤساء» في لندن
TT

«البؤساء الأميركيون» في عصر ترمب

مشهد من العرض الموسيقي «البؤساء» في لندن
مشهد من العرض الموسيقي «البؤساء» في لندن

في الصيف الماضي، قفز كتاب «بؤساء هيلبيلي» (منطقة جبال أباليشيان في ولايات نورث كارولينا، وفرجينيا، وويست فرجينيا)، لمؤلفه جي دي فانس، إلى قمة أكثر الكتب مبيعا في قائمة صحيفة «نيويورك تايمز». وخلال الأسابيع القليلة الماضية، قفز أكثر توزيع الكتاب، بعد أن صار واضحا أن ترمب يريد تنفيذ شعاراته (عن البيض، والمكسيكيين، والمسلمين، وغيرهم).
في الأسبوع الماضي، سمت صحيفة «واشنطن بوست» الكتاب: «البؤساء الأميركيون»، إشارة إلى رواية «البؤساء»، التي كتبها فيكتور هوغو (توفي عام 1885)، والتي تعد واحدة من أشهر روايات القرن التاسع عشر، وهي حتى اليوم، تُعرض مسرحيةً، وتنتَج أفلاما سينمائية وعروضا موسيقية.
عن الجانب الأخلاقي في الرواية، أشارت الصحيفة إلى قول هوغو، في مقدمتها: «ما دام هناك نظام اجتماعي يخلق جحيما على سطح الأرض، وما دام يوجد الفقر والبؤس على سطح الأرض، فلا يمكن أن تكون روايتي هذه من دون فائدة».
ويضيف: «لا أعرف إذا ما كان سيقرأ كل الناس روايتي، لكن، أعرف أنها تخص كل الناس. يظل العطف الإنساني لا يعرف حدود فرنسا، أو إنجلترا، أو ألمانيا، أو آيرلندا، أو إسبانيا...». وتعلق الصحيفة بقولها: «ربما كان عليه أن يضيف أميركا».
خلال نصف العام الماضي، باع الكتاب قرابة 20 ألف نسخة ورقية، وقرابة نصف مليون نسخة إلكترونية وصوتية. واستضاف تلفزيون «سي إن إن» المؤلف ليكون معلقا مقابل أجر، وضمته صحيفة «نيويورك تايمز» إلى قائمة كتاب الرأي فيها، وتراكمت عليه دعوات لإلقاء محاضرات، وبمبالغ كبيرة، حتى قال الأسبوع الماضي: «أكاد أغرق في المال» (بعد سنوات الفقر).
يصف كتاب «بؤساء هيلبيلي» حياة الفقر وسط سكان جبال أباليشيان، من خلال طفولته هو؛ إذ أدمنت والدته الخمور والمخدرات، وتزوجت وتطلقت 5 مرات. كان والده هو الزوج الثالث. وعندما كان عمر المؤلف 6 أعوام، سئم والده من مغامرات أمه، واختفى فجأة، ثم ربته والدته، ثم جدته، ثم خالته، ثم عمته.
التحق بقوات الكوماندوز (التابعة للمارينز)، ثم تركها، والتحق بجامعة أوهايو ستيت، ثم بجامعة ييل، حيث تخرج فيها محاميا، لكنه لم ينس جذوره في ولاية ويست فرجينيا... عاد إليهم، ودافع عنهم، وها هو يكتب كتابا عنهم صار حديث الناس.
صار فانس في «بؤساء هيلبيلي» مثل جين فالجين بطل رواية «بؤساء فرنسا».
لكن، بالإضافة إلى طفولة بائسة، صار فالجين مجرما، ودخل السجن، وبعد أن خرج من السجن، قرر أن يغفر لنفسه، وانخرط في عمل الخير؛ ساعد فقراء، وتبنى أيتاما، وعفا عن مجرمين (عفا عن «جايفيرت» الذي حاول قتله)، وأوصى أن يكتب على قبره: «كل شيء يحدث كما رتب له، مثل الليل يحدث بعد أن ينتهي النهار». يتشابه الفرنسي الخيالي فالجين والأميركي الحقيقي فانس في شيئين:
أولا: ليست قصة كل واحد منهما عنه، بقدر ما هي عن الفقر والبؤس والشقاء الذي أحاط بكل واحد منهما.
ثانيا: لكل قصة مغزى أخلاقي؛ تحدث فالجين عن «ملائكة» يحرسونه، وتحدث فانس عن «ماماو»، جدته التي علمته كيف يهرب من الجهل والفقر نحو التعليم والشهرة.
* فقر البيض
من صور الفقر الأميركي التي سجلها فانس ما حصل له ووالدته يوم فتشا في حاوية القاذورات لجمع فضلات طعام، ويوم عرضت عليه أن يستعمل المخدرات معها. ولإنقاذها من المخدرات، شهد ضدها في محكمة، فهددته بالقتل. حتى «ماماو»، جدته التي ربته، وزرعت فيه حب العمل والاجتهاد، لم تكن امرأة مثالية؛ ففي يوم من الأيام، غضبت على زوجها، ورمته أرضا، ثم صبت عليه بنزينا، وأشعلت عود كبريت، وألقته عليه، لكن الصبي دي فانس سارع وأنقذ جده.
* فقر السود
لا نقرأ في الكتاب عن التفرقة العنصرية بين البيض والسود (توجد نسبة قليلة من السود وسط سكان جبال أباليشيان)، لكن نقرأ كثيرا عن الفروقات الطبقية. يوم شاهد شخصا يعيش على المساعدات الحكومية، ويحمل تليفونا تزيد قيمته على 500 دولار، يكتب: «غضبتُ، وسألت نفسي: لماذا لا أقدر أنا على شراء مثل هذا التليفون»؟، أو يوم قرأ في «فيسبوك» عن شخص ترك وظيفته لأنها تجبره على أن يعمل ليلا: «غضبتُ لأني كنت أعمل في وظيفة ليلا، وأحيانا ليلا ونهارا»، ويوم سمع عن شخص أنجب أطفالا من امرأة ليست زوجته: «غضبتُ لأن دافع الضرائب، في نهاية المطاف، سيدفع تكاليف تربية هؤلاء الأطفال«.
لقد نجح الكاتب، كما كتبت صحيفة «نيويورك تايمز»، في تقديم ما كان يتجادل حوله الاقتصاديون والسياسيون في صورة بسيطة وسهلة، صورة إنسانية عما يعانيه البيض الفقراء... «هذا هو الطريق نفسه الذي سار عليه الرئيس ترمب، حتى وصل إلى البيت الأبيض».
وفي الأسبوع الماضي، أيضا، أجرت صحيفة «واشنطن بوست» مقابلة مع المؤلف في مطعم راق في نيويورك، ولاحظت الصحافية التي أجرت المقابلة أنه دفع مبلغا كبيرا مقابل الطعام والشراب، واعترف المؤلف بتحسن أحواله كثيرا، قائلاً: «أنا نفسي لا أصدق هذا».
وصار واضحا أن مؤلف «بؤساء هيلبيلي» (الجمهوري المحافظ) ليس مثل مؤلف «بؤساء فرنسا»، فيكتور هوغو (الليبرالي الثائر)، فقد هرب هوغو من فرنسا بعد أن قاد نابليون الثالث انقلابا عسكريا (1851)، وعاش خارج فرنسا قرابة 20 عاما (حيث كتب «البؤساء» و«أحدب نوتردام»... وغيرهما). ولم يعد إلا بعد سقوط نابليون.
خلال حكم نابليون، كان كتاب «البؤساء» عدوا، وعندما ثار الفرنسيون صار الكتاب ملهماً.
لا يبدو أن كتاب «بؤساء هيلبيلى» مثله.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.