«فقه الضرورة» بين متطرفين ليبيين يعيد صياغة «تحالفات مرحلية»

غالبية المنهزمين في درنة وسرت وبنغازي فرّوا إلى طرابلس›

عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
TT

«فقه الضرورة» بين متطرفين ليبيين يعيد صياغة «تحالفات مرحلية»

عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش ليبيا» خارج مدينة سرت («الشرق الأوسط»)

بدأت عناصر مصرية متشددة خلال الأسبوع الماضي، تتجمّع من جديد في العاصمة الليبية طرابلس ومحيطها، وخاصة في المناطق القريبة من مطار طرابلس الدولي - يوم الجمعة قبل الماضي - عقب افتتاحه على يد ميليشيات لا تخضع لسلطة «حكومة التوافق» التي يرأسها فايز السراج.
أين كانت هذه العناصر وما الخطوط الفكرية والفقهية التي توافقت حولها، ومَن وراء فتح الطريق لها، ومن يدفع لها أموال الإقامة والتدريب في عاصمة تعمّها الفوضى؟
هل تتذكّرون المتشددين المصريين الذين فرّوا إلى ليبيا عام 2013. عقب الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي؟ كانوا عدة مئات من العناصر الإخوانية وغير الإخوانية الموالية لمرسي، واستقر المقام بهؤلاء في مدينة درنة الليبية التي تقع على بعد نحو 300 كيلومتر من الحدود المصرية.
غير أن الخلافات الفكرية والفقهية سرعان ما عصفت بهذا «الخليط المصري المغترب» الذي كان يضم عناصر من الإخوان ومن تنظيم «أنصار بيت المقدس» الموالي لـ«داعش»، ومن مقاتلين موالين لتنظيم القاعدة. ودبّ الضعف في هذا الخليط القتالي المصري الذي استحوذت أخباره وقتها على وسائل الإعلام، وأخاف المصريين من المستقبل. ولكن في الأسبوع الماضي، بدأت وجوه من هذا الخليط تتجمع من جديد في العاصمة الليبية، وخاصة في المناطق القريبة من مطار طرابلس الدولي عقب افتتاحه يوم الجمعة قبل الماضي على يد ميليشيات لا تخضع لسلطة «حكومة التوافق».
أحد المنظّرين السابقين لتنظيم «القاعدة في ليبيا» يقول شارحاً إن ما يمكن تسميته بـ«فقه الضرورة» بين «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان» في ليبيا، هو السبب في العودة لتجميع المقاتلين المتشددين المصريين ومحاولة الاستفادة، مشيراً إلى أن غالبية البارزين من هؤلاء من «أنصار بيت المقدس» الذين انتهى بهم طريق الفرار من سيناء إلى طرابلس، مرورا بعدة مدن ليبية، ودول بالمنطقة على خصام مع مصر.
ويوضح مصدر في ميليشيات طرابلس إن غالبية العناصر المتشددة التي وصلت إلى العاصمة الليبية طرابلس في مجموعات صغيرة، في الوقت الراهن، هم من جماعة «أنصار بيت المقدس» التي غيرت اسمها منذ إعلانها مبايعة «داعش» إلى «ولاية سيناء». وكانت الجماعة قد أقدمت، عقب عزل الرئيس السابق مرسي من الحكم، وعقب العصف بألوف من قيادات وكوادر الإخوان المسلمين، على شن حملة من العمليات الدامية استهدفت منشآت عسكرية وأمنية في سيناء وعدة مدن مصرية خارج سيناء.
وأدت الحملة الأمنية المصرية الواسعة ضد تنظيم «أنصار بيت المقدس» أو «ولاية سيناء»، إلى فرار المئات منهم عبر عدة طرق: الأول من سيناء إلى قطاع غزة المجاور حيث يوجد هناك خليط آخر من جماعات متشددة. والثاني، إلى الحدود مع ليبيا، ومنها إلى مدينة درنة التي كانت في ذلك الوقت من عام 2014. معقلاً لتنظيم «أنصار الشريعة» الليبي الموالي لتنظيم القاعدة، والذي كان يقوده في تلك المدينة سجين سابق في غونتانامو يدعى «بن قمو».

خلافات.. وانقسام
لم يكن «بن قمو» يميل إلى «داعش» حين أعلنت قيادات من تنظيم «أنصار الشريعة» في كل من مدينتي درنة وبنغازي، البيعة لـ«الخليفة» المزعوم المقيم في العراق «أبو بكر البغدادي». ومن هنا بدأت الخلافات تدب لأول مرة بين المجموعات المصرية المتشدّدة التي استقرت في درنة. فهل تبايع «داعش» مع المبايعين؟ وما موقف العناصر الإخوانية والقاعدية المصرية التي فرّت معها من مصر؟ ومن هنا وقع الانقسام. غالبية المصريين، وكان عددهم يقدر بنحو ثلاثمائة مقاتل وعشرات الدعاة المتشددين، وجدوا لهم ملاذاً في مدينة بنغازي تحت رعاية قائد تنظيم «أنصار الشريعة» في المدينة، الملقب بـ«الزهاوي»، الذي قتل فيما بعد في معارك التنظيم مع «الجيش الوطني الليبي» الذي يقوده المشير خليفة حفتر.
ووفقاً لشهادة من قيادي في الميليشيات، لم يكن «الزهاوي» يشغل من معه بالخلافات الفقهية، بل كان مندفعاً في طريق واحد، هو الحرب على الجيش الليبي. ولهذا، كما يقول المصدر نفسه، ظلت هناك حالة من انعدام التوافق بين «بن قمو» في درنة، و«الزهاوي» في بنغازي، حتى مقتل الأخير في معركة مطار بنينا (بنغازي)، رغم أنهما كانا يقودان تنظيم «أنصار الشريعة» نفسه. وفيما بعد اتضح أن عناصر «أنصار الشريعة» في درنة كانوا قد انقسموا في الولاء بين «داعش» و«القاعدة». وأدى مقتل «الزهاوي»، ومحاصرة الجيش الليبي كلاً من درنة وبنغازي، إلى ضياع بوصلة المتشددين المصريين الوافدين، وذوبان معظم هؤلاء في مجاميع ليبية وأجنبية متذبذبة في الولاءات بين هذا التوجه وذاك.
استمر هذا الأمر إلى أن بدأ تنظيم داعش يعلن عن تأسيس أكبر مركز له في شمال أفريقيا، في مدينة سرت بالشمال الأوسط من ليبيا في أواخر 2014. وارتكب التنظيم في سرت أول عملية فظيعة صدمت العالم، وذلك حين أقدم على اختطاف وذبح 21 مصرياً مسيحياً. وعلى الأثر تعرض لضربات من الطيران المصري، في مطلع 2015. طالت مواقع كان ما زال يحتفظ بها في جبال محيطة بمدينة درنة. وهنا، كما يكشف مصدر من جهاز المخابرات في طرابلس، دخل التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين على الخط، وقام قيادي ليبي في التنظيم الدولي، وبمساعدة من زعيم في «الجماعة الليبية المقاتلة» التابعة لتنظيم القاعدة، بنقل المصريين، ومعظمهم من «أنصار بيت المقدس» من درنة إلى طرابلس. وكان ذلك في أواخر عام 2015.
غير أن عشرات من هؤلاء المصريين، بمجرد وصولهم إلى العاصمة الليبية حينذاك، تواصلوا مع زعيم «داعش» في طرابلس الملقب بـ«المدهوني». وخصّص لهم «المدهوني» هذا، وهو ليبي يحمل جواز سفر عراقيا، معسكراً للإقامة فيه في منطق عين زارة في العاصمة، وخصّص لهم رواتب شهرية تتراوح بين 700 دولار و1500 دولار أميركي. ومن ثم منح عدة عشرات منهم لجماعة موالية لـ«داعش» تعمل غربي طرابلس وفي منطقة الرابطة القريبة، تُعرف باسم «جند الحق» يقودها رجل يدعى «رشيد». وازداد عدد الوافدين المصريين، فجرى تشكيل عدة سرايا منهم، من أجل الدفاع عن معقل التنظيم في سرت. وبعدها انقطعت صلة العناصر التي انضوت في هذه السرايا، بكل من التنظيم الدولي لـ«الإخوان» وتنظيم القاعدة. وتعامل معهم إخوان ليبيا والجماعة المقاتلة باعتبارهم «منشقّين».

بعد خسارة سرت
بعد هزيمة «داعش» في سرت، كما يذكر أحد القيادات الأمنية في طرابلس، فرّت العناصر المصرية المتشددة إلى الصحراء وإلى دول في المنطقة، وبدأت تبحث من جديد عن ملاذ آمن. لكن «المدهوني» كان قد غادر إلى العراق، والقيادات الجديدة لـ«داعش ليبيا» ما زالت في طور إعادة التشكيل. ويضيف المصدر نفسه: هنا دخل التنظيم الدولي لـ«الإخوان» ومعه قيادات من «الجماعة الليبية المقاتلة» على الخط، للاستفادة من المقاتلين المصريين على محورين: بالنسبة للمحور الأول، الذي يخص التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، فإنه كان يهدف إلى استخدام العناصر المصرية لصالح خصوم مصر للضغط على القاهرة، والتهديد بهم كذراع يمكن أن تنفذ أعمال عنف، ليس في سيناء فقط، ولكن في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية. أما المحوَر الثاني، فيتعلّق بـ«الجماعة الليبية المقاتلة» التي كانت تعاني من نقص في عدد المقاتلين، خاصة بعدما انقسم قادتها بين موالين لـ«حكومة التوافق» برئاسة فايز السراج، وموالين لـ«حكومة الإنقاذ» بقيادة خليفة الغويل.
لكن المصدر يضيف موضحاً: بشكل عام، بعد فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وتوقع ظهور سياسة أميركية صارمة تجاه الجماعات المسلحة في طرابلس، أصبحت هذه الجماعات تبحث عن طرق لزيادة أعدادها، بغية استعراض القوة. وفي المقابل، يسعى المقاتلون الأجانب، ومنهم «أنصار بيت المقدس» وغيرهم، إلى إيجاد مصادر للتمويل من أجل الاستمرار في العمل. بالطبع كل له أهداف بعيدة عن الآخر، لكن الظروف تجعل كل هذه المجاميع تستفيد من بعضها بعضا بقدر الإمكان. ويكشف مصدر أمني آخر أن قياديا ليبياً في التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، وآخر في «الجماعة الليبية المقاتلة»، قاما خلال الشهر الماضي بالإشراف على تجميع المصريين الفارين من سرت وبنغازي، في مقار بمدينة صبراتة، غرب طرابلس وعلى مقربة من الحدود الليبية مع تونس، مشيراً إلى أن هذه المنطقة أصبح ينشط فيها أيضا القادة الجدد لتنظيم «داعش ليبيا»، وهم أربعة جاءوا لإصلاح أوضاع «داعش» بعد فشل «المدهوني» في الحفاظ على سرت. وتابع مفصلاً: وجود أربع قيادات لـ«داعش» في صبراتة والزاوية وغرب طرابلس، أعاد مخاوف الإخوان والمقاتلة من انضمام المصريين إلى «داعش» من جديد، خاصة أن أحد القيادات الداعشية الأربعة الجديدة، مصري الجنسية. ولهذا بدأت خطة سريعة لإبعادهم عن صبراتة وإيجاد مناطق آمنة لهم في طرابلس. ووفقاً للمصدر نفسه، جرت عملية تجميع المصريين في غرب طرابلس منذ نحو عشرة أيام، داخل معسكر في منطقة الحرشة بمدينة الزاوية (قرب طرابلس)، وتم جلب عشرات المقاتلين المصريين الآخرين الذين كانوا قد فروا من درنة وسرت وبنغازي، إلى خارج ليبيا. و«يوم الأربعاء الماضي دخل بالفعل 30 عنصراً مصرياً من (أنصار بيت المقدس) متسللين عبر الحدود من تونس. وهؤلاء كانوا قد فروا من ليبيا إلى العراق وسوريا عقب هزيمة «داعش» في سرت». ويضيف أن «أنصار بيت المقدس»، رغم رعاية قيادات من الإخوان و«الجماعة الليبية المقاتلة» لهم في ليبيا، من جديد، فإنهم ما زالوا على تواصل مع تنظيم داعش.
ويتابع المصدر: «مثلاً،.. حين كان العناصر الثلاثون في طريقهم من الحدود التونسية إلى طرابلس، فإنهم عرّجوا على صبراتة، والتقوا هناك بأحد القيادات الأربع للدواعش، وهو تونسي ملقّب بـ(أبو حيدرة)، قبل أن يواصلوا طريقهم إلى طرابلس. وتسبب هذا بمخاوف من أن تعود جماعة أنصار بيت المقدس إلى العمل مع (داعش ليبيا) مجدداً، في حال تمكنها من إيجاد مواضع لأقدامها في العاصمة».

«كتيبة الفاروق»
من ناحية أخرى، خصّصت يوم الجمعة الماضي خمس حافلات لاستقبال دفعة جديدة من «أنصار بيت المقدس» الآتين من خارج ليبيا عبر طائرة حطت في مطار طرابلس بعد أيام من افتتاحه. ونقلت الحافلات هؤلاء من المطار إلى مقر يقع على طريق السواني في العاصمة، منحه زعيم في «كتيبة الفاروق» الداعشية، لجماعة الإخوان. ومن المقرر أن ينضم هؤلاء إلى ميليشيات موالية للقاعدة ومناوئة لحكومة السراج.
ويعود تقارب الخطوط بين التنظيمات المتطرفة، خاصة «داعش» والقاعدة، إلى رسالة قديمة تعود لعام 2015 لزعيم في مقر «داعش» في العراق وسوريا، هو «أبو محمد المقدسي»، كان يريد فيها إبعاد الخلافات «النظرية والشرعية» بين التنظيمين المتشددين، خاصة بعد تفاقم الصراع بينهما في سوريا. وخلال الأيام الماضية، في خضم الفوضى في أوساط الجماعات المسلحة في ليبيا، عاد الحديث عن نظرية «المقدسي»، إلا أن أنصاراً في تنظيم القاعدة في ليبيا ما زالوا يتعاملون مع هذه المحاولة باعتبارها «تكتيكاً «داعشياً» جديد للاستقطاب والتوسع، وأنها «في الحقيقة لا أساس لها في الواقع».
وهنا يقول أحد المنظّرين السابقين لتنظيم «القاعدة في ليبيا» إن «ما يحدث هو أن بعض القيادات التي ما زالت موالية للظواهري (زعيم القاعدة) تشعر بأنها أصبحت تفتقر للقوة في ليبيا... ولهذا ليس لديها مانع من التحالف مع (داعش). أما (داعش) وأنصار بيت المقدس (الغرباء عن ليبيا) فيرون أنهم في حاجة لمثل هذه القيادات المحلية سواء من القاعدة أو من الإخوان، من أجل التغلغل داخل البلاد التي يجهلون تركيبتها وتعقيداتها. والخلاصة، أن كل فريق يعين الآخر، لكن لكل طريقه الخاص في نهاية المطاف».
ووفقاً لمصدر في جهاز مخابرات طرابلس، الضعيف الإمكانيات، حرصت جماعة الإخوان الليبية على وضع المقاتلين المصريين من «أنصار بيت المقدس»، وذوي الخبرة القتالية في مقرات جديدة بالعاصمة طرابلس، على أن يصار إلى توظيف غير المدرّبين منهم في أعمال الخدمة العادية كالبناء والطبخ والغسيل، مع إخضاعهم لدورات التدريب لاحقاً. ومن المرجح أن يكون قد وصل عدد هؤلاء الآن إلى نحو 500 مصري.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.