صراعات الطائفة والمرجعية

استراتيجيات الأصولية في الواقع والوعي

عائلات مسيحية مصرية تفر من  سيناء (رويترز)
عائلات مسيحية مصرية تفر من سيناء (رويترز)
TT

صراعات الطائفة والمرجعية

عائلات مسيحية مصرية تفر من  سيناء (رويترز)
عائلات مسيحية مصرية تفر من سيناء (رويترز)

هل أيد الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي رحل يوم 17 فبراير (شباط) الحالي، المراجعات الدينية - السياسية - العنفية في القرن الماضي وباركها، كما كان يؤكد دائمًا مجلس شورى الجماعة الإسلامية ممن كتبوا المراجعات، أم لم يباركها أو يوافق عليها كما ظل يؤكد أيمن الظواهري زعيم «القاعدة» الحالي والراحل محمد خليل الحكايمة؟
تخوض الأفكار والجماعات الأصولية دائماً - بهدف التمدد والتجنيد - نوعين غير مباشرين من الصراع، تستهدفهما وتراهن عليهما في مجالين مختلفين، هما: الأول الصراع الطائفي، وهو صراع في الواقع والمجتمعات رهاناً على التوظيف والاحتقان الطائفي، والصدام المجتمعي بين مكوناته، مما يمثل فرصة لها. والثاني صراع الرمز والصورة، حيث تحرص مختلف جماعات التشدد الديني على صناعة رموز وصورة متخيلة مرجعية خاصة بها، بغض النظر عن حقيقتها الفعلية، وتسعى لتهويلها، وتشويه منافسيها وخصومها في الفضاء الديني، أو القضاء عليها عملياً أو معنوياً.
من هنا يمكن تفهم تنازع وصراع أصحاب المراجعات، والرافضين للمراجعات التي شهدها العقد الماضي، شخصية الدكتور عمر عبد الرحمن، الراحل في 17 فبراير الحالي. وهل أيد المراجعات وباركها، كما كان يؤكد دائماً مجلس شورى الجماعة الإسلامية ممن كتبوا المراجعات، أم لم يباركها أو يوافق عليها كما ظل يؤكد أيمن الظواهري، زعيم «القاعدة» الحالي، والراحل محمد خليل الحكايمة (توفي سنة 2008)، ولم يوافق مطلقاً على نبذ العنف، أو ترويجه واشتهاره، رغم أنه امتهن الخطابة أكثر مما امتهن العلوم الشرعية، ولم يترك سوى آثار قليلة تمثل سندًا لتنظيمات التشدد نفسها، مثل شهادته في مقتل الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات (كلمة حق)، أو بعض فتاواه في تكفير بعض الكتاب أو الاتجاهات؟
الرهان على الصدام الطائفي
أولاً: لم تصعّد أي من جماعات الإرهاب والتطرف العنيف والتشدد، سنية أو شيعية، اجتماعيًا وسياسيًا، إلا من نيران هذا التوظيف الطائفي، وتوظيفًا لاحتقاناته وهواجسه، أو لعبًا ورهانًا مستمرًا على تفجيره، منذ الدعوات المبكرة لمواجهة «التغريب والتنصير» في بدايات القرن الماضي، إلى استهداف الكنائس ودور العبادة في مصر وبعض دول الخليج، وصولاً لما كان الأسبوعين الماضيين من إعلان «داعش» قتل وتصفية عدد من المواطنين المسيحيين في العريش خلال فبراير الحالي، بشكل وحشي. وهو ما يحرج النظام، ويحقق حضورًا إعلاميًا، خصوصًا مع صحوة التنظيم واستعادته نشاطه في شبه جزيرة سيناء. وربما كان استهداف المسيحيين أبعد أثرًا إعلاميًا حتى من استهداف مدينة إيلات بالصواريخ من داخل سيناء، وهو ما تبناه تنظيم داعش في نشره النبأ في الأسبوع الثاني من فبراير نفسه.
وعن التوظيف الطائفي لدى جماعات الإرهاب، واستثمار حاضنته، وتأجيج احتقاناته، يمكننا أن نذكر المحطات والعلامات التالية في هذه الاستراتيجية:
1 - صحوة «داعش» في العراق: تجددت حياة «القاعدة» في العراق من فض اعتصامات الأنبار بالقوة عام 2013، على يد الميليشيات التابعة لرئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، إذ سيطر «داعش» على الموصل وسائر المحافظات السنية بحجة حماية الطائفة من نير الحشد الشعبي والميلشيات الطائفية الموالية لإيران التي غدت في تصوره تسيطر على العراق. وحقًا كانت لها سوابق عنيفة حتى دور المساجد في ديالى والرمادي وغيرها، وقمع تجاه رموزها وشيوخ عشائرها في الأنبار، بل ونواب وسياسيين من أبناء الطائفة السنية.
2 - صحوة «النصرة» و«داعش» في سوريا: لقد وجدت هذه التنظيمات فرصتها سانحة مع قمع النظام الأسدي للثورة الشعبية المدنية التي ثارت ضده قبل ست سنوات، واستقدم لقمعها ميليشيات «حزب الله» وميليشيات التطرف الشيعي في العراق، مثل لواء أبو الفضل العباس وعصائب الحق، بل والهزارة الأفغانية، منذ الشهور الأولى للثورة، التي كونت فيما بعد لواء «فاطميون»، في مايو (أيار) 2015، وغيرها. وهكذا، أنتجت وبررت لعسكرة و«طوأفة» الثورة منذ أبريل (نيسان) 2012، عبر نصرات مضادة سنية، بدأت بـ«جبهة النصرة» التي انقسمت فيما بعد لـ«داعش» و«النصرة». وهكذا، كان الاحتقان والصراع الطائفي السبب في صحوة «داعش» الذي أعلن خلافته المزعومة فيما بعد، ونجح في استقدام آلاف المقاتلين إلى ساحات الصراع في سوريا والعراق من مختلف أنحاء العالم.
3 - الانقلاب الحوثي قبل «عاصفة الحزم» بسنة: لم يكن غريباً أن بدأت ميليشيات الانقلاب الحوثي حربها وصراعها في قمع سنّيي دماج، في مايو 2014، قبل «عاصفة الحزم» والتحالف العربي الداعم للشرعية بسنة. ولقد ارتكبت في حقهم حينها ما وصفته الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية بجرائم حرب وإبادة جماعية، ثم تلتها بمحافظة عمران السنية، في يونيو (حزيران) 2014، قبل قفزها إلى العاصمة صنعاء، في سبتمبر (أيلول)، ومحاولتها ابتلاع الدولة، بحجة اعتراضها على رفع أسعار البترول حينها، ومطالبتها باستقالة الحكومة التي استقالت رغم ذلك. ولكن لم يقف طموح هذه الميليشيات المسلحة عند هذا الحد، بل أصرت على محاصرة، ثم السيطرة على، مقري الرئاسة ورئاسة الحكومة، ومقدرات البلاد، بعلنية مكشوفة. وراهنت على احتكار الحديث باسم الطائفة، بعدما همشت كل المراجع المعتدلة التي رفضت انحراف الزيدية نحو نظرية الولي الفقيه الإيرانية، التي تمثل النموذج المرجعي لطموح هذه الحركة منذ تأسيسها على يد الراحل حسين الحوثي، الشقيق الأكبر لزعيمها الحالي، الذي تلقى دروسًا له في قُم بإيران، وأقام فيها فترة.
ويتضمن خطاب جماعات التطرف في توظيف الطائفية في هذا الخصوص إنكاراً معلناً ومقصوداً لمفاهيم الوطنية والتعددية التي تنكرها أدبياتها منذ بدايتها حتى الآن، وما يتعلق بها من التعددية والاندماج تاريخاً وتعايشاً وواقعاً. وتصر على حديث الأمة في حال كانت التعددية ملية ودينية، أو «الفرقة الناجية» و«الطائفة المنصورة»، في حال كانت التعددية مذهبية وفرقًا مختلفة، كما هو الحال في العراق وسوريا. وكلا التوجهين يحاول تهميش مفهوم الوطن والدولة الوطنية لصالح أحلامها الأممية وتوجهها المحدود بطائفتها في الغالب.
راهناً، يبدو أن الاحتقان الطائفي المذهبي، السني - الشيعي، الأكثر اشتعالاً والتهاباً في المنطقة منذ غزو العراق عام 2003. ومع التوسع الإيراني المستمر لنظام الولي الفقيه، وتصدير ثورته الذي يعني نشر وكلائه والميليشيات التابعة له دون دولها الوطنية في عدد من كيانات منطقة الشرق الأوسط. وهي ميليشيات وجماعات دينية متشددة تدعمها دولة، وتتحد في أهدافها، وتنظمها سياسة واحدة و«ولي فقيه»، أو أمير ديني واحد، بعكس الشتات المتطرف السني المرفوض من جميع الدول السنية، ومحل مجابهة منها وصدام معها، ولكن يجد مبرره في الآخر الطائفي والمذهبي التوسعي، وهو ما يمثل خطراً برأيه على الطائفة السنية الغالبة التي يحاول تجنيدها.
كذلك يحضر التوظيف الطائفي الديني في البلدان التي لا تحتوي أقليات مذهبية كبيرة، شأن مصر، حيث تصعد أحداثه من آن لآخر بين المسلمين والمسيحيين، بحوادث من العنف العشوائي تنقلب طائفياً، أو بمحاولة مستمرة من تنظيمات العنف والتطرف، سواء في المنافسات السياسية والانتخابية طوال العقود الأربعة الماضية، أو في عمليات عنف متعمدة ضد الأفراد أو دور العبادة الخاصة بهم.
وفي كل الأحوال، تحقق الطائفية فرصة لتنظيمات التطرف في زعزعة هيبة الدولة، وإحراجها أمام مواطنيها، وثانية هي رهان مستمر على احتمال تفجير تعايش المجتمع وانقسامه، مما يمثل في النهاية فرصة هائلة لها للصعود، وقنص السلطة فيه.
معركة «الرمز» وصناعة النجوم
ثانيًا: تطالعنا منذ أول وهلة في خطاب الجماعات المتشددة تعبيرات فخمة، مثل «الرجل القرآني» و«الإمام الشهيد» و«مجدد الدين» و«العلامة الحبر الفهّامة»، حين تتكلم كل جماعة أصولية عن مؤسسيها وشيوخها وعناصرها والقريبين منها. وهنا تحضر مضامين التضحية والإخلاص والتوسع والعلم الشرعي العميق.
ويمكن أن تستهدف مضامين أخرى أيضًا ترويجًا لعدد من الشيوخ لمجرد فتاوى وإنتاج قليل من الخطب النارية المتطرفة المؤيدة لتوجهات وممارسات هذه الجماعات، رغم أنهم يفتقدون لوزن علمي كبير في مجالاتهم التخصصية.
ومن هذا القبيل، فعلت صورة «الشيخ العالم الضرير» الكثير في دعايات جماعات التطرف العنيف، من الشيخ عمر عبد الرحمن مصريًا بالخصوص، إلى السعودي الشيخ حمود عقلا الشعيبي (المتوفى سنة 2001)، إلى الشيخ الضرير مرشد التشدد في تونس الخطيب الإدريسي (المولود سنة 1955)، الذي مثل دافعاً رئيساً لهجرة الشاب التونسي إلى ساحات «داعش»، والقتال في سوريا والعراق، منذ عام 2014. وكذلك بسهولة يلاحظ اختفاء آثار كتّاب ومفكّرين مهّمين وجهل العامة بهم، بينما برز عبر الوسيط الأصولي من هم أقل منهم عمقاً وفكراً وأدباً، خصوصاً في مجال الفكر الإسلامي والهم الحداثي، بل نجح الهجوم الأصولي المتشدد والعنيف عليهم في إسكات أصواتهم، وانسحابهم الطوعي أو القسري من مجال الكتابة والإبداع، أو العيش انحباساً في دوائر ضيقة فقط، بينما انساح التأثير والنشر والترويج حكراً على رموز الأصولية في أحيان كثيرة.
أيضاً لم تتحقق نجومية الكثيرين إلا بعد تحولهم لاتجاه التنظيمات التي حملته، وقامت به وبمؤلفاته، وحملته على الأعناق، كما كان في حالة الراحل سيد قطب بعد عودته من الولايات المتحدة في صيف عام 1951، إذ استقبلته عناصر جماعة الإخوان في مطار القاهرة حاملين إياه فوق رؤوسهم، ولم يلبث أن تحوّل مفكّرهم ومنظرهم الأول، وبرز حضوره الجدلي في الفكر العربي الحديث بعدها. وهذا بعدما كان سيد قطب يشكو التهميش، وتجاهل أمثال أستاذه عباس محمود العقاد والعميد طه حسين، كما كتب معاتباً لهم في مجلة «الرسالة» في أربعينات القرن الماضي، وتجاهلهم لكتاباته، رغم أنه كان دائم الكتابة والاهتمام بما كتبوه، بينما لم يهتم ببعض أعماله سوى الأستاذ توفيق الحكيم... رحمهم الله. وهو في عتابه لهم كان ثائراً لأنه كتب عن كل كتاباتهم، بينما لم يكتب العميد أو العملاق عن كتبه مرة، في حين يكتبون عن غيره! ولكن بعد التحول والتشدد النظري والتنظيمي الذي انتقل إليه، صار صوته وحضوره أعلى من أساتذته حينها.
وفي السياق نفسه، حسبنا أن نذكر كتيب المتشدد السابق الراحل فارس آل شويل الزهراني (أبو جندل الأزدي)، عن مؤسس «القاعدة» أسامة بن لادن، الذي جعله بعنوان «مجدد الزمان وقاهر الأميركان». وهذا رغم أن المعروف أن بن لادن لم يترك أثراً علمياً، بل خطباً متشددة وحدثية وقائعية، ثم أنه لم يغير واقعاً إلا سلباً، ولم يقهر الأميركان، حسب دعواه.
وفي وثيقة استراتيجية تنظيم «القاعدة» في العراق الثانية، الصادرة أوائل يناير (كانون الثاني) 2010، التي نرى أنها احتوت خطتها التي نفذتها حتى وصولها «خلافة داعش» المزعومة سنة 2014، تتناول أزمة الرمز عندها بعد رحيل أبو مصعب الزرقاوي الذي يوصف بـ«العلامة» و«شيخ المجاهدين» الآن في أدبياتها، ورحيل قائديها السابقين أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر الذي كانوا يصفونه بالدهاء الشديد أيضاً، رغم أن عارفيه شأن أبي عبد الله المنصور، شيخ «جيش المجاهدين»، يؤكدون أنه كان أسير الرؤى والنبوءات، كما كان حال بعض قادة حركة العدالة والإحسان المغاربية قبل أعوام!
ولكن في المقابل، يتجاهلون وهم يصفون الزرقاوي بما يصفونه به من العلم ما انتقد به من شيوخه في الأردن، شأن المقدسي فترة، أو ما انتقد به من شيوخ «القاعدة» نفسها، أو أنه دخل السجن فترة بجرائم سرقة وسطو في موطنه الأصلي، مصرين على ترويج صورة محددة تسكن وجدان المنتمي، وتغري اللامنتمي، ليس غير.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.