صراعات الطائفة والمرجعية

استراتيجيات الأصولية في الواقع والوعي

عائلات مسيحية مصرية تفر من  سيناء (رويترز)
عائلات مسيحية مصرية تفر من سيناء (رويترز)
TT

صراعات الطائفة والمرجعية

عائلات مسيحية مصرية تفر من  سيناء (رويترز)
عائلات مسيحية مصرية تفر من سيناء (رويترز)

هل أيد الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي رحل يوم 17 فبراير (شباط) الحالي، المراجعات الدينية - السياسية - العنفية في القرن الماضي وباركها، كما كان يؤكد دائمًا مجلس شورى الجماعة الإسلامية ممن كتبوا المراجعات، أم لم يباركها أو يوافق عليها كما ظل يؤكد أيمن الظواهري زعيم «القاعدة» الحالي والراحل محمد خليل الحكايمة؟
تخوض الأفكار والجماعات الأصولية دائماً - بهدف التمدد والتجنيد - نوعين غير مباشرين من الصراع، تستهدفهما وتراهن عليهما في مجالين مختلفين، هما: الأول الصراع الطائفي، وهو صراع في الواقع والمجتمعات رهاناً على التوظيف والاحتقان الطائفي، والصدام المجتمعي بين مكوناته، مما يمثل فرصة لها. والثاني صراع الرمز والصورة، حيث تحرص مختلف جماعات التشدد الديني على صناعة رموز وصورة متخيلة مرجعية خاصة بها، بغض النظر عن حقيقتها الفعلية، وتسعى لتهويلها، وتشويه منافسيها وخصومها في الفضاء الديني، أو القضاء عليها عملياً أو معنوياً.
من هنا يمكن تفهم تنازع وصراع أصحاب المراجعات، والرافضين للمراجعات التي شهدها العقد الماضي، شخصية الدكتور عمر عبد الرحمن، الراحل في 17 فبراير الحالي. وهل أيد المراجعات وباركها، كما كان يؤكد دائماً مجلس شورى الجماعة الإسلامية ممن كتبوا المراجعات، أم لم يباركها أو يوافق عليها كما ظل يؤكد أيمن الظواهري، زعيم «القاعدة» الحالي، والراحل محمد خليل الحكايمة (توفي سنة 2008)، ولم يوافق مطلقاً على نبذ العنف، أو ترويجه واشتهاره، رغم أنه امتهن الخطابة أكثر مما امتهن العلوم الشرعية، ولم يترك سوى آثار قليلة تمثل سندًا لتنظيمات التشدد نفسها، مثل شهادته في مقتل الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات (كلمة حق)، أو بعض فتاواه في تكفير بعض الكتاب أو الاتجاهات؟
الرهان على الصدام الطائفي
أولاً: لم تصعّد أي من جماعات الإرهاب والتطرف العنيف والتشدد، سنية أو شيعية، اجتماعيًا وسياسيًا، إلا من نيران هذا التوظيف الطائفي، وتوظيفًا لاحتقاناته وهواجسه، أو لعبًا ورهانًا مستمرًا على تفجيره، منذ الدعوات المبكرة لمواجهة «التغريب والتنصير» في بدايات القرن الماضي، إلى استهداف الكنائس ودور العبادة في مصر وبعض دول الخليج، وصولاً لما كان الأسبوعين الماضيين من إعلان «داعش» قتل وتصفية عدد من المواطنين المسيحيين في العريش خلال فبراير الحالي، بشكل وحشي. وهو ما يحرج النظام، ويحقق حضورًا إعلاميًا، خصوصًا مع صحوة التنظيم واستعادته نشاطه في شبه جزيرة سيناء. وربما كان استهداف المسيحيين أبعد أثرًا إعلاميًا حتى من استهداف مدينة إيلات بالصواريخ من داخل سيناء، وهو ما تبناه تنظيم داعش في نشره النبأ في الأسبوع الثاني من فبراير نفسه.
وعن التوظيف الطائفي لدى جماعات الإرهاب، واستثمار حاضنته، وتأجيج احتقاناته، يمكننا أن نذكر المحطات والعلامات التالية في هذه الاستراتيجية:
1 - صحوة «داعش» في العراق: تجددت حياة «القاعدة» في العراق من فض اعتصامات الأنبار بالقوة عام 2013، على يد الميليشيات التابعة لرئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، إذ سيطر «داعش» على الموصل وسائر المحافظات السنية بحجة حماية الطائفة من نير الحشد الشعبي والميلشيات الطائفية الموالية لإيران التي غدت في تصوره تسيطر على العراق. وحقًا كانت لها سوابق عنيفة حتى دور المساجد في ديالى والرمادي وغيرها، وقمع تجاه رموزها وشيوخ عشائرها في الأنبار، بل ونواب وسياسيين من أبناء الطائفة السنية.
2 - صحوة «النصرة» و«داعش» في سوريا: لقد وجدت هذه التنظيمات فرصتها سانحة مع قمع النظام الأسدي للثورة الشعبية المدنية التي ثارت ضده قبل ست سنوات، واستقدم لقمعها ميليشيات «حزب الله» وميليشيات التطرف الشيعي في العراق، مثل لواء أبو الفضل العباس وعصائب الحق، بل والهزارة الأفغانية، منذ الشهور الأولى للثورة، التي كونت فيما بعد لواء «فاطميون»، في مايو (أيار) 2015، وغيرها. وهكذا، أنتجت وبررت لعسكرة و«طوأفة» الثورة منذ أبريل (نيسان) 2012، عبر نصرات مضادة سنية، بدأت بـ«جبهة النصرة» التي انقسمت فيما بعد لـ«داعش» و«النصرة». وهكذا، كان الاحتقان والصراع الطائفي السبب في صحوة «داعش» الذي أعلن خلافته المزعومة فيما بعد، ونجح في استقدام آلاف المقاتلين إلى ساحات الصراع في سوريا والعراق من مختلف أنحاء العالم.
3 - الانقلاب الحوثي قبل «عاصفة الحزم» بسنة: لم يكن غريباً أن بدأت ميليشيات الانقلاب الحوثي حربها وصراعها في قمع سنّيي دماج، في مايو 2014، قبل «عاصفة الحزم» والتحالف العربي الداعم للشرعية بسنة. ولقد ارتكبت في حقهم حينها ما وصفته الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية بجرائم حرب وإبادة جماعية، ثم تلتها بمحافظة عمران السنية، في يونيو (حزيران) 2014، قبل قفزها إلى العاصمة صنعاء، في سبتمبر (أيلول)، ومحاولتها ابتلاع الدولة، بحجة اعتراضها على رفع أسعار البترول حينها، ومطالبتها باستقالة الحكومة التي استقالت رغم ذلك. ولكن لم يقف طموح هذه الميليشيات المسلحة عند هذا الحد، بل أصرت على محاصرة، ثم السيطرة على، مقري الرئاسة ورئاسة الحكومة، ومقدرات البلاد، بعلنية مكشوفة. وراهنت على احتكار الحديث باسم الطائفة، بعدما همشت كل المراجع المعتدلة التي رفضت انحراف الزيدية نحو نظرية الولي الفقيه الإيرانية، التي تمثل النموذج المرجعي لطموح هذه الحركة منذ تأسيسها على يد الراحل حسين الحوثي، الشقيق الأكبر لزعيمها الحالي، الذي تلقى دروسًا له في قُم بإيران، وأقام فيها فترة.
ويتضمن خطاب جماعات التطرف في توظيف الطائفية في هذا الخصوص إنكاراً معلناً ومقصوداً لمفاهيم الوطنية والتعددية التي تنكرها أدبياتها منذ بدايتها حتى الآن، وما يتعلق بها من التعددية والاندماج تاريخاً وتعايشاً وواقعاً. وتصر على حديث الأمة في حال كانت التعددية ملية ودينية، أو «الفرقة الناجية» و«الطائفة المنصورة»، في حال كانت التعددية مذهبية وفرقًا مختلفة، كما هو الحال في العراق وسوريا. وكلا التوجهين يحاول تهميش مفهوم الوطن والدولة الوطنية لصالح أحلامها الأممية وتوجهها المحدود بطائفتها في الغالب.
راهناً، يبدو أن الاحتقان الطائفي المذهبي، السني - الشيعي، الأكثر اشتعالاً والتهاباً في المنطقة منذ غزو العراق عام 2003. ومع التوسع الإيراني المستمر لنظام الولي الفقيه، وتصدير ثورته الذي يعني نشر وكلائه والميليشيات التابعة له دون دولها الوطنية في عدد من كيانات منطقة الشرق الأوسط. وهي ميليشيات وجماعات دينية متشددة تدعمها دولة، وتتحد في أهدافها، وتنظمها سياسة واحدة و«ولي فقيه»، أو أمير ديني واحد، بعكس الشتات المتطرف السني المرفوض من جميع الدول السنية، ومحل مجابهة منها وصدام معها، ولكن يجد مبرره في الآخر الطائفي والمذهبي التوسعي، وهو ما يمثل خطراً برأيه على الطائفة السنية الغالبة التي يحاول تجنيدها.
كذلك يحضر التوظيف الطائفي الديني في البلدان التي لا تحتوي أقليات مذهبية كبيرة، شأن مصر، حيث تصعد أحداثه من آن لآخر بين المسلمين والمسيحيين، بحوادث من العنف العشوائي تنقلب طائفياً، أو بمحاولة مستمرة من تنظيمات العنف والتطرف، سواء في المنافسات السياسية والانتخابية طوال العقود الأربعة الماضية، أو في عمليات عنف متعمدة ضد الأفراد أو دور العبادة الخاصة بهم.
وفي كل الأحوال، تحقق الطائفية فرصة لتنظيمات التطرف في زعزعة هيبة الدولة، وإحراجها أمام مواطنيها، وثانية هي رهان مستمر على احتمال تفجير تعايش المجتمع وانقسامه، مما يمثل في النهاية فرصة هائلة لها للصعود، وقنص السلطة فيه.
معركة «الرمز» وصناعة النجوم
ثانيًا: تطالعنا منذ أول وهلة في خطاب الجماعات المتشددة تعبيرات فخمة، مثل «الرجل القرآني» و«الإمام الشهيد» و«مجدد الدين» و«العلامة الحبر الفهّامة»، حين تتكلم كل جماعة أصولية عن مؤسسيها وشيوخها وعناصرها والقريبين منها. وهنا تحضر مضامين التضحية والإخلاص والتوسع والعلم الشرعي العميق.
ويمكن أن تستهدف مضامين أخرى أيضًا ترويجًا لعدد من الشيوخ لمجرد فتاوى وإنتاج قليل من الخطب النارية المتطرفة المؤيدة لتوجهات وممارسات هذه الجماعات، رغم أنهم يفتقدون لوزن علمي كبير في مجالاتهم التخصصية.
ومن هذا القبيل، فعلت صورة «الشيخ العالم الضرير» الكثير في دعايات جماعات التطرف العنيف، من الشيخ عمر عبد الرحمن مصريًا بالخصوص، إلى السعودي الشيخ حمود عقلا الشعيبي (المتوفى سنة 2001)، إلى الشيخ الضرير مرشد التشدد في تونس الخطيب الإدريسي (المولود سنة 1955)، الذي مثل دافعاً رئيساً لهجرة الشاب التونسي إلى ساحات «داعش»، والقتال في سوريا والعراق، منذ عام 2014. وكذلك بسهولة يلاحظ اختفاء آثار كتّاب ومفكّرين مهّمين وجهل العامة بهم، بينما برز عبر الوسيط الأصولي من هم أقل منهم عمقاً وفكراً وأدباً، خصوصاً في مجال الفكر الإسلامي والهم الحداثي، بل نجح الهجوم الأصولي المتشدد والعنيف عليهم في إسكات أصواتهم، وانسحابهم الطوعي أو القسري من مجال الكتابة والإبداع، أو العيش انحباساً في دوائر ضيقة فقط، بينما انساح التأثير والنشر والترويج حكراً على رموز الأصولية في أحيان كثيرة.
أيضاً لم تتحقق نجومية الكثيرين إلا بعد تحولهم لاتجاه التنظيمات التي حملته، وقامت به وبمؤلفاته، وحملته على الأعناق، كما كان في حالة الراحل سيد قطب بعد عودته من الولايات المتحدة في صيف عام 1951، إذ استقبلته عناصر جماعة الإخوان في مطار القاهرة حاملين إياه فوق رؤوسهم، ولم يلبث أن تحوّل مفكّرهم ومنظرهم الأول، وبرز حضوره الجدلي في الفكر العربي الحديث بعدها. وهذا بعدما كان سيد قطب يشكو التهميش، وتجاهل أمثال أستاذه عباس محمود العقاد والعميد طه حسين، كما كتب معاتباً لهم في مجلة «الرسالة» في أربعينات القرن الماضي، وتجاهلهم لكتاباته، رغم أنه كان دائم الكتابة والاهتمام بما كتبوه، بينما لم يهتم ببعض أعماله سوى الأستاذ توفيق الحكيم... رحمهم الله. وهو في عتابه لهم كان ثائراً لأنه كتب عن كل كتاباتهم، بينما لم يكتب العميد أو العملاق عن كتبه مرة، في حين يكتبون عن غيره! ولكن بعد التحول والتشدد النظري والتنظيمي الذي انتقل إليه، صار صوته وحضوره أعلى من أساتذته حينها.
وفي السياق نفسه، حسبنا أن نذكر كتيب المتشدد السابق الراحل فارس آل شويل الزهراني (أبو جندل الأزدي)، عن مؤسس «القاعدة» أسامة بن لادن، الذي جعله بعنوان «مجدد الزمان وقاهر الأميركان». وهذا رغم أن المعروف أن بن لادن لم يترك أثراً علمياً، بل خطباً متشددة وحدثية وقائعية، ثم أنه لم يغير واقعاً إلا سلباً، ولم يقهر الأميركان، حسب دعواه.
وفي وثيقة استراتيجية تنظيم «القاعدة» في العراق الثانية، الصادرة أوائل يناير (كانون الثاني) 2010، التي نرى أنها احتوت خطتها التي نفذتها حتى وصولها «خلافة داعش» المزعومة سنة 2014، تتناول أزمة الرمز عندها بعد رحيل أبو مصعب الزرقاوي الذي يوصف بـ«العلامة» و«شيخ المجاهدين» الآن في أدبياتها، ورحيل قائديها السابقين أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر الذي كانوا يصفونه بالدهاء الشديد أيضاً، رغم أن عارفيه شأن أبي عبد الله المنصور، شيخ «جيش المجاهدين»، يؤكدون أنه كان أسير الرؤى والنبوءات، كما كان حال بعض قادة حركة العدالة والإحسان المغاربية قبل أعوام!
ولكن في المقابل، يتجاهلون وهم يصفون الزرقاوي بما يصفونه به من العلم ما انتقد به من شيوخه في الأردن، شأن المقدسي فترة، أو ما انتقد به من شيوخ «القاعدة» نفسها، أو أنه دخل السجن فترة بجرائم سرقة وسطو في موطنه الأصلي، مصرين على ترويج صورة محددة تسكن وجدان المنتمي، وتغري اللامنتمي، ليس غير.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».