ليلة القبض على مهدي مقلات في باريس بتهمة ازدواج الشخصية

هل يعاني مهدي مقلات من «انفصام الشخصية»؟ فهذا الشاب العربي الأصل المولود في فرنسا هو النسخة المغاربية من «دكتور جايكل ومستر هايد». واستفاق الفرنسيون، قبل أيام، على حكايته التي أثارت جدلاً فوريًا في وسائل الإعلام، بحيث إن صحيفة «لوموند» خصصت له افتتاحيتها ليوم أمس، ووصفته بأنه «الطفل المدلل لوسائل الإعلام نهارًا وداعية الكراهية والإرهاب ليلاً». فمن هو مقلات، سليل ضواحي المهاجرين شمال باريس، وما قضية تغريداته القديمة على «تويتر» التي كشفت عن شخصية مزدوجة؟
رغم أن عمره لا يزيد على 24 عامًا، فإن مهدي مقلات اكتسب شهرة طيبة حين عمل كمعلق إخباري في إذاعة «فرنس أنتير»الرسمية وغيرها. كما نحج في أن يكون روائيًا رائجًا وكاتب مدونات يحلّ ضيفًا منتظمًا على برامج الراديو والتلفزيون والصحافة المكتوبة ووسائل الإعلام الرقمية. لكن كل تلك السمعة انهارت بين ليلة وضحاها، قبل أيام، إثر ظهوره على قناة تلفزيونية دعي إليها للترويج لكتابه الثاني، وهو رواية بعنوان «دقيقة» ألّفها مع صديقه بدر الدين سعيد عبد الله. فالأخير، الملقب «بادرو»، هو رفيقه الأدبي منذ سنوات، تشارك معه أيضًا في تأليف روايتهما الأولى «برن آوت» (الإجهاد المهني)، وفي تحرير مدونة «بوندي بلوغ» ذائعة الصيت. وقد أطلقت الصحافة على الثنائي لقب «ذا كدز» (الفتَيان).
لقيت المدونة النجاح وكانت سببا في شهرة مهدي مقلات لا سيما أنها جاءت في أعقاب أحداث العنف التي اندلعت في ضواحي فرنسا نهاية عام 2005 وقاربت العصيان المدني. وهو ما دفع وزير الداخلية، وقتذاك، نيكولا ساركوزي، إلى إطلاق خطب عنيفة ووعود «بتنظيف» تلك الأحياء «برشاش المياه المضغوطة». وفي خضم تلك الاضطرابات العنيفة وما نجم عنها من شرخ مجتمعي، وجدت أوساط اليسار ودعاة التآخي والاندماج الاجتماعي، في مهدي مقلات النموذج المضاد للصورة السلبية عن الجيل المغاربي الثالث من المهاجرين، باعتباره جيل الغضب والفشل والسرقات الصغيرة والمخدرات. لقد كان المراهق الموهوب، ابن تلك الضواحي الحساسة نفسها، صورة عكسية لما هو شائع ومثالاً للفتى المتفتح، الناضج فكريًا، الفصيح، المتمكن من اللغة الفرنسية، المدرك لضرورة رهانات الاندماج مع التمسك بحق الاحتفاظ بالخصوصيات.
عرف مقلات كيف يستثمر تلك السمعة الطيبة وبفضلها ارتقى إلى مصاف كاتب ومعلق إخباري ومحلل إعلامي. وبموازاة تلك الشخصية الظاهرة، كانت للشاب الطموح شخصية مستترة. وبدأ ينشر تغريدات على موقع «تويتر» تحت اسم فرنسي مستعار هو مارسلان ديشان. وفي تلك المنشورات، التي واصل نشرها خلال السنوات الخمس الماضية، كشف بصراحة صادمة عن مواقف تعدّت في فرنسا خطوطًا حمراء، مثل احتقار النساء والتقليل من شأنهن وكراهية المثليين والمتحولين جنسيًا. وإذا كان يمكن تمرير هذه المواقف فإن ما لا يمكن غفرانه هو التصريحات التي توصف بـ«معاداة السامية»، وهي من أشد الخطوط الحمراء التي يجرمها القانون. فقد كتب مارسلان ديشان: «ليأتي هتلر ويقتل اليهود». وهي أقوال لا يتورع عن ترديدها، خفية، أنصار اليمين المتطرف والجماعات العنصرية ممن يسمون «الرؤوس الحليقة». لكن أحدًا لم يكن يعرف من هو ديشان إلى أن ظهرت هويته الحقيقية وتأكد الكل من أنه مهدي مقلات. والغريب أنه لم ينكر تغريداته ولم يسعَ إلى التنصل منها، إنما أكدها واكتفى بالتعبير عن الأسف لـ«زلات اللسان». وأضاف أن شخصيته المستترة كانت «لعبة أدبية روائية» وأنه مسح التغريدات من موقعه قبل أشهر. وفي معرض تبريراته، ذكر لمجلة «تيليراما» أن تلك التغريدات «مثلت الجانب الشيطاني من شخص آخر، ليس أنا، إنما تخيّلتُه وتركته يهذي».
كانت الشكوك في مهدي مقلات قد ظهرت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكنها لم تسقطه بالضربة القاضية. وكان هناك من رأى فيها نزقًا وطيش شباب. لكن صاحبها ظهر، مؤخرًا، مع صديقه وشريكه بدر الدين سعيد عبد الله في برنامج «المكتبة الكبرى» الشهير، على القناة الفرنسية الخامسة، للترويج لروايتهما المشتركة الثانية. وهنا نشرت إحدى المغردات رأيًا عبرت فيه عن بالغ استهجانها لظهور مقلات في البرنامج، متسائلة: «كيف يمكن ترك شخص مثله يظهر على قنواتنا متبجحًا بتلك البساطة؟». كما أعاد آخرون نشر نخبة من تغريدات مقلات السابقة التي كان قد مسحها من حسابه.
مرة ثانية، كان يمكن للعاصفة أن تمرّ، لكن، من سوء حظ مقلات، أن انتبه إلى التغريدات جوان سفار، وهو مؤلف يهودي شهير من أصل جزائري، ينشر قصصًا مصورة واسعة الانتشار. فقد نزل سفار بكامل ثقله في القضية وأعاد نشر تغريدات مهدي مقلات على حسابه الخاص في «تويتر» وأطلع عليها متابعيه الكثر. وبين ليلة وضحاها أطلقت القضية كالنار في الهشيم. وكان من نتائجها أن تخلى منتجو البرامج التي كان يشارك فيها مهدي مقلات عنه، وابتعدت دار النشر المعروفة «لو سوي» عن المؤلفَين الشابين اللذين أصبحا في حكم المنبوذين. وجاء في افتتاحية «لوموند» أن القصة تستحق أن تتحول إلى فيلم شائق من أفلام التجسس. كما اتهمت الصحيفة مقلات بـ«الازدواجية المقيتة وتبني أفكار الإرهاب والترويج للحقد الأعمى». وطبعًا، من اليسير التكهن بأن مستقبل الشاب، إعلاميًا وأدبيًا، أصبح في خبر كان.