النزاعات العشائرية المسلحة تصل إلى بغداد

مجموعة تطارد طاقم برنامج تلفزيوني اتهمته بـ«الإساءة» إلى جدها

النزاعات العشائرية المسلحة تصل إلى بغداد
TT

النزاعات العشائرية المسلحة تصل إلى بغداد

النزاعات العشائرية المسلحة تصل إلى بغداد

لم يكن أكثر العراقيين تشاؤمًا يتوقع قبل الغزو الأميركي، أن تصل هيبة الدولة إلى ما وصلت إليه من تراجع في ظل الفوضى المستمرة وضعف القانون، بحيث صار التقاضي في النزاعات بين الأفراد، يستند أساسًا إلى العرف العشائري، وليس إلى مؤسسات الدولة وقوانينها.
وقد تصل النزاعات العشائرية في بعض الحالات إلى الضغط على مؤسسات الدولة وأفرادها ومقاضاتهم عشائريًا ودفعها إلى التراجع عن قراراتها أو دفع التعويض المطلوب. حتى أن إحدى العشائر في محافظة البصرة قاضت عشائريًا العام الماضي، موظفًا كوريًا يعمل في شركة للنفط.
ومع أن الامتدادات العشائرية ضاربة في جذور المجتمع، وليست جديدة في تاريخ العراق القديم والحديث، لكن انفراط هيبة الدولة سمح بصعود الطابع العشائري على حساب المؤسسات وحكم القانون.
وإذا كان مفهومًا «تغوّل» الطابع العشائري في محافظات الجنوب، لبعدها عن المركز، فإن صعود هذه النزاعات في العاصمة يثير أكثر من علامة استغراب في الأوساط البغدادية، لجهة عجز الدولة عن معالجة سطوة العشائر ونزاعاتها. ولعل في سياق هذا العجز، يأتي حادث الخصومة بين أفراد من قبيلة «بني لام» الكبيرة ذات الامتدادات الجنوبية، ومدير تلفزيون «هنا بغداد» المخرج الشاب علي فاضل، على خلفية مشهد كوميدي أتى على ذكر الشيخ الأكبر للقبيلة غضبان البنيّة الذي توفي بدايات القرن الماضي.
وحدثت حالات مماثلة كثيرة قبل ذلك، منها مقاضاة عشائرية لمدرب المنتخب الوطني لكرة القدم راضي شنيشل ومقدم البرامج الرياضية حيدر زكي، على خلفية لقاء في برنامج تلفزيوني.
وتعود قصة المشكلة الحالية بين فخذ من قبيلة «بني لام» ومدير المحطة إلى مشهد تلفزيوني من إخراجه يظهر فيه أحد الممثلين (المفارقة أن الممثل ينتمي إلى القبيلة نفسها) وهو يرتدي زيًا هنديًا ويرتجز بلغة ركيكة أهزوجة شعبية تقول: «احنه الما نهاب الموت، احنه زلم العمارة، وعدنه زلم طبّارة، غضبان البنيّة يمكن تسمع أخباره». الأمر الذي اعتبره الفخذ العشائري «سيناريو مشينًا» وتطاولا على «رمز العروبة والشهامة»، كما ورد في بيان نشر على صفحة «تحالف عشائر بني لام» في موقع «فيسبوك».
وهاجم البيان تلفزيون «هنا بغداد»، وهدد بالقصاص من كاتب سيناريو المشهد التمثيلي. وعلى الرغم من مرور أكثر من شهر على عرض المشهد التلفزيوني وتوقف البرنامج، فإن تداعياته ما زالت قائمة، إذ هاجم مسلحون من العشيرة منزل المخرج علي فاضل مساء أول من أمس في حي الكفاح ببغداد، في إطار ما يعرف عشائريًا بـ«الدكة»، أي الهجوم لإجبار الخصم على الإذعان لشروط الصلح المفترض. وتتفاوت الغرامات المالية استنادًا إلى طبيعة الإساءة المرتكبة، وعادة ما يتم فرض غرامات كبيرة والاعتذار، على الطرف المسؤول عن الإساءة. المخرج التلفزيوني علي فاضل، كان قدّم اعتذارًا عبر التلفزيون باسمه وباسم كادر قنوات التلفزيون والممثلين الذين يعملون معه في إنتاج مشاهد تمثيلية تتناول مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بأسلوب ساخر تحت عنوان «ولاية بطيخ». ويحظى البرنامج المذكور بمتابعة كبيرة من قبل المشاهدين والمدونين في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، ووجّه آلاف المدونين اتهامات لاذعة إلى الأعراف العشائرية. وقال في الاعتذار: «باسمي وباسم قناة هنا بغداد أتقدم باعتذار رسمي، حيث إننا نفخر بكل عراقي، فضلاً عن رمز وطني يختزل تاريخ العراق».
مصدر من تلفزيون «هنا بغداد» ذكر لـ«الشرق الأوسط» أن الخلاف مع أحد بطون القبيلة «آخذ بالتصاعد رغم الجهود الكثيرة التي بذلت لاحتواء الخلاف من مختلف الأطراف والمشايخ، ومن ضمنها أطراف حكومية». وأضاف أن التلفزيون طلب من السلطات توفير حماية لمبناه.
وأظهر شريط مصور أفراد القبيلة وهم يرددون أهازيج الفخر ويطلقون الرصاص في الهواء. وأكد المصدر الذي فضّل عدم ذكر اسمه، أن فاضل «تعرض لضغوط هائلة من قبل بعض أفراد القبيلة، وسافر إلى جهة مجهولة بعد استهداف منزله».
وقال لـ«الشرق الأوسط» أحد وجهاء قبيلة «بني لام»، الذي طلب عدم نشر اسمه بسبب «حساسية الموضوع»، إن «تصرف أحد أفراد أفخاذ القبيلة على هذا النحو، لا يعني قبول الآخرين بذلك». واعتبر أن «الاعتذار كان يكفي»، كاشفًا أن «الأفراد المصرّين على مقاضاة المخرج والقناة يتحدرون مباشرة من نسل الشيخ غضبان البنيّة، وقد طالبوا بما لا يقل على مائة مليون دينار (85 ألف دولار تقريبًا) تعويضًا عن الإساءة».



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.