أبقراط وتعميم الصناعة الطبية والالتزام الأخلاقي لمزاولها

«أبو الطب»... حظي بمكانة خاصة عند الأطباء المسلمين

أبقراط وتعميم الصناعة الطبية والالتزام الأخلاقي لمزاولها
TT

أبقراط وتعميم الصناعة الطبية والالتزام الأخلاقي لمزاولها

أبقراط وتعميم الصناعة الطبية والالتزام الأخلاقي لمزاولها

يعد الطب من أقدم المعارف الإنسانية، نظرًا لتعلقه بالألم الذي ما هو إلا إنذار بالموت. لهذا فالطب اتخذ من الجسد موضوعًا له، من أجل تخفيف آلامه، وتأجيل حالة الموت عنه ما أمكن. كما أن الطب هو علاقة بين منفعل هو المريض العليل، والفاعل الذي هو الطبيب الذي يسعى إلى تقديم العلاج المناسب. وفي الحقيقة إذا كان المنفعل لم يتغير كثيرًا، فإن الفعل الطبي قد تعرضت طرقه إلى التحول مع مر العصور. وما وصل إليه الطب في زماننا شاهد على ذلك، فإنجازاته أصبحت مذهلة كمًا وكيفًا. إلا أن الأمر لم ينشأ دفعة واحدة. فلا شيء من لا شيء. والحاضر الطبي هو، في حقيقته، مجرد جني لثمرة قد نضجت، عبر تراكمات إنسانية ضاربة في عمق التاريخ ساهمت فيها كل الحضارات. لهذا يمكن أن نتحدث عن طب سومري ومصري وصيني وفارسي وهندي ويوناني وعربي. وإذا ما تحدثنا عن الأشخاص الذين سجلوا حضورًا قويًا، ووضعوا لبنات في صرح المنجز الطبي العالمي، نجد علمًا بارزًا هو أبقراط، الذي يلقب بـ«أبو الطب». فمن هو هذا الطبيب؟ وما إنجازاته؟ وما تأثيره على الأطباء العرب، وقت ازدهار الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى؟
في البداية، تجدر الإشارة إلى أن المصادر التاريخية قليلة حول شخصية أبقراط. لكن لا يمكن الحديث عن تاريخ الطب الإنساني من دون ذكر اسم هذا الحكيم اليوناني. وسبب ذلك يعود إلى كونه دوّن الطب وسجّل بعض الملاحظات السريرية «الإكلينيكية». باختصار، يعد أبقراط صاحب أقدم المؤلفات الطبية في التاريخ الإنساني. لقد وردت الإشارات الأولى إلى أبقراط الكوسي الأسكليبادي، في محاورات أفلاطون، خاصة «فيدروس» و«بروتاغوراس». لكن أول ترجمة لأبقراط، كانت من إنجاز الطبيب اليوناني «سورانوس» الذي عاش في النصف الأول من القرن الثاني بعد الميلاد.
ينتمي أبقراط، إلى عائلة طبية يونانية شهيرة، هي أسرة أسكليبوس (Asclepios). وأسكليبوس، شخصية قديمة، عرف عند اليونان كطبيب، لكنهم ما لبثوا أن جعلوه إلهًا، وركزوا له بصولجان يلتف حوله ثعبان. وكانوا يضعونه في معابد اليونان الكثيرة (نحو 320 معبد). وبالعودة إلى كتاب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، الذي نعتمده كثيرًا في صياغة هذا المقال، لصاحبه ابن أبي أصيبعة، وبالضبط في الباب الرابع المخصص لطبقات الأطباء اليونانيين، نفهم أهمية أبقراط. فهو من أذاع لدى الإغريق صناعة الطب، حيث ظل آل أسكليبوس يتوارثون صناعة الطب حتى قل عددهم في زمن أبقراط، فخاف هذا الأخير، على ضياع الصناعة، فألف فيها محاولاً نشرها وتعميمها وتعليمها حتى للغرباء عن العائلة الأسكليبادية. كان الطب حكرًا على العائلة التي كان ينظر إليها على أنها من نسل الآلهة. وكانوا ينقلون الخبرات بالمخاطبة فيما بينهم، وإذا ما جرى تدوينها، يكون ذلك بشكل مقتضب، وبطريقة ملغزة لا يفهمها إلا الأب وابنه، أما أبقراط ونظرًا لقلة نسل عائلته، وتلمسه أن صناعته تكاد تبيد، فقد قرر تعليم الطب للمستحقين، ولكل راغب فيه، وإن لم ينتم إلى العائلة «الشريفة»، شريطة أن يحلفهم بالأيمان والالتزام بعهد وناموس ووصية وضع ملامحها أبقراط. وما قسمه الشهير، الذي سنقف عنده، إلا واحدًا من هذه الأمانات، التي كانت ولا تزال تلقى إلى وقتنا هذا، على عاتق طالب الطب.
يتفق معظم المؤرخين، على أن أبقراط الكوسي الأسكليبادي ولد بجزيرة كوس سنة 460 قبل الميلاد، وتعلم الطب من والده. كما أنه عرف الكثير من فلاسفة عصره، بل كان صديقًا للكثير من المشاهير آنذاك، أمثال «ديموقريطس» صاحب النظرية الذرية التي ترجع الوجود إلى ذرات، وأيضًا الخطيب الشهير «جورجياس»، الذي يسمى أبو البلاغة، والرياضي الكبير «هيروديكوس» المتفوق في الجمباز.
ذاع صيت أبقراط فطلبه ملوك الأرض. وكانت تطلب مشورته الطبية، لدرجة نسج الأساطير حوله. فقيل مثلاً، أن النحل الذي يعيش حول قبره، يفرز عسلا شافيا للأمراض. لكن الصورة الأكثر واقعية والتي تروج عنه تاريخيًا، هي أنه حكيم قصير القامة، جمع بين الطب والفلسفة. وكان ناسكًا يعالج المرضى بالمال أو من دونه. وكان يرى أن الطب مهارة من إلهام الله. وهو يعد عند الباحثين مؤسس الطب. ألف هو وتلاميذه في علم الطب، وأعراض الأمراض والأوبئة، والحميات، وتكون الأجنة، وعلاقة البيئة والتغذية بالصحة والتربية النفسية. ومعه بدأ يغادر الطب تلك الممارسة العفوية، المرتبطة بمعتقدات وطقوس ذات مرجعية أسطورية، نحو لحظة أصبح فيها العلاج يستند إلى معرفة عقلية نقدية، وعلى الخبرة الصناعية. فهو باختصار، افتتح طريق الطب نحو العلمية، القائم على المعاينة السريرية، وتقديم الأدوية، والبحث عن الأسباب الملموسة. وهو ما سيساعد على التخلص من بعض الخرافات والشعوذة.
ترك لنا أبقراط، الكثير من المؤلفات الطبية سميت «بالمدونة الأبقراطية». وقد ظهرت في مكتبة الإسكندرية في أوائل القرن الثالث ق.م، وقد جمعها ورتبها الطبيب الفرنسي «إميل ليتري»، في القرن التاسع عشر في عشر مجلدات. وعرف المسلمون كتب أبقراط، وترجموا معظمها إلى العربية، في القرن 3 و4 الهجري، أي 9 و10 الميلاديين، وقاموا بشرح بعضها. وكان أصحاب الصناعة الطبية منهم، يوصون بكتب أبقراط، ويركزون على اثني عشر منها، لا غنى عنها لطالب هذه الصناعة، وهي: كتاب الأجنة، الأهوية والمياه والبلدان، تقدمة المعرفة، الأمراض الحادة، أوجاع النساء، الأمراض الوافدة، الغذاء، الكسر والجبر، طبيعة الإنسان، قاطيطرون أو حانوت الطبيب الفصول. وتجدر الإشارة إلى أن لدى أبقراط كتاب بعنوان «المرض المقدس» أي الصرع، وقد حاول فيه إبعاده عن القداسة المزعومة. فأبقراط يرفض تقسيم الأمراض إلى طبيعية ومقدسة. فالصرع مرده إلى أسباب طبيعية صرفة، أما أصله الإلهي، فهو أمر يعكس جهل الناس وعجزهم عن فهمه، واستغرابهم من سلوكيات المصاب. أما عن تعامله مع الأعراض والمظاهر الخارجية، التي تخبر عن نوع المرض، فإننا نجد تفاصيل مهمة عن ذلك، في كتاب منسوب إليه، هو «تقدمة المعرفة»، ذكّر فيه بتفصيل العلامات المأخوذة من الوجه وتلك المأخوذة من البراز والبول والبصاق والقيح... وهي تساعد الطبيب في التشخيص، ومن ثم تقديم العلاج المناسب. هذا العلاج كان عادة، مرتكزًا على تقديم المسهلات، أو المقيئات، أو الفصد، أو الكي، أو التزام بالحمية... كما ترك لنا أبقراط أيضا، صورًا سريرية لداء السل، واستطاع أن يسجل بدقة الملامح المألوفة التي تعلو سحنة المحتضر الذي يموت، وكذلك وجه الجائع ومن أعياه الإسهال... ولا يزال الأطباء إلى يومنا هذا، يتحدثون عن «الوجوه الأبقراطية»، و«الأصابع الأبقراطية»، وهي أعراض خاصة ببعض أمراض القلب المزمنة التي تؤدي إلى تضخم مفاصل الأطراف.
لكن على الرغم من كل هذا الجهد السريري، ظل الطب الأبقراطي مرهونًا بتصور فلسفي، أصبح، الآن، متجاوزًا، ويتمثل في نظرية «الأخلاط الأربعة» التي روجها، من بعده، الطبيب الإسكندراني، جالينوس، واستمرت آثارها عند العرب. بل صمدت حتى حدود القرن التاسع عشر الميلادي، وهي نظرية شبيهة بالمواد الأربعة التي كان يفسر بها فلاسفة اليونان تشكَّل الأشياء في العالم الأرضي، ونقصد النار والتراب والهواء والماء، التي تتصف بأربعة صفات هي: الحرارة، والجفاف، والرطوبة، والبرودة. وقياسا على ذلك، تصور أبقراط أن الجسم البشري نفسه، مشكل من أربعة أخلاط، أو سوائل متشابكة ومتداخلة هي: الدم والبلغم والصفراء والسوداء. فإن كانت هذه الأخلاط متوازنة ومتناسبة كمًا وكيفًا، أعطت الصحة. أما إذا فقدت توازنها، إما لندرة خليط أو وفرته، أو امتناعه عن الاختلاط بالأخلاط الأخرى، أدت إلى المرض، أي التهاب أو نخر عضو من الأعضاء. هذا هو التفسير الذي جرى اعتماده آنذاك. وكما نرى، سيصبح غير معتمد خاصة بعد اكتشاف الميكروبات وفهم طريقة نشوء العدوى. وإن كان لنظرية الأخلاط من استمرار، فقد أخذت وجهًا مختلفًا، وهو نظرية الهورمونات.
لكن لا يمكن أبدا الحديث عن أبقراط دون ذكر ريادته في تأسيسه أخلاقيات العمل الطبي. ويكفي الإشارة إلى قسمه الشهير، المسمى بقسم أبقراط، الذي يؤديه إلى حد الساعة خريجو كليات الطب في العالم، وإن بصياغات مختلفة تلائم العصر، لكن بالروح القديمة نفسها. فماذا يقول هذا القسم الأصلي، الذي وثقه لنا ابن أبي أصيبعة (ق13م)، في طبقات الأطباء.
يلزم أبقراط طالب صناعة الطب، بعهد أخلاقي، ولعل أبرز ما فيه: ضرورة احترام المعلم ومساعدته. وتعميم الخبرات الطبية للأبناء، وللمتعاقدين الذين أقسموا يمين الطبيب. لكن الأهم من كل ذلك، هو ضرورة الابتعاد عن فعل الشر أو إلحاق الأذى بالناس، من طريق التسميم تحت الطلب، أو السعي نحو القيام بإجهاض الجنين. واستخدام المبضع عن جهل. كما يدعو أبقراط، كل مقبل على فن الطب، لأن يقدم المساعدة للجميع، ذكورًا أو إناثًا، أحرارا أو أرقاء دون تمييز بينهما، ليختم قسمه، بكون الطبيب النموذجي لا يفشي أبدا أسرار مريضه. ومن يذيعها فقد أخل بفروض مهنته فهو كمن يفشي الأسرار المقدسة. ولم يكتف أبقراط بهذا القسم، بل أضاف نواميس ووصايا، عبارة عن واجبات على الطبيب التقيد بها، كالاحتفاظ بحسن المظهر، وتنظيف الجسم، والتحلي بالهدوء والرصانة، والعمل على إشعار المريض بالثقة، وخلق جو من الطمأنينة أثناء أداء المهمة الطبية. والمثير أيضًا، أن أبقراط ينصح الطبيب بالصبر حتى على شتائم المريض، لأن بعض الحالات من المرضى المبرسمين (البرسام: مرض نفسي) والمصابين بالوسواس السوداوي، قد تصدر منهم سلوكات عدوانية، ويتلفظون بكلمات نابية وجب تحملها من طرف الطبيب، لأن الأمر يتجاوزهم وفوق طاقتهم.
نخلص إلى أن أبقراط، لُقّب بأبي الطب، لأنه أولاً، دوّن خبرات الصناعة الطبية، فيما سمي «بالمدونة الأبقراطية»، وجعلها معممة وذائعة بين كل من يستحقها، وليست حكرًا على عائلة بعينها. ولأنه ثانيًا، قام بإنجازات طبية قائمة على الملاحظات السريرية. وثالثًا طعّم الطب بالتزامات أخلاقية تعطيه جانبه الإنساني. لهذا كله سيحظى أبقراط بمكانة خاصة عند الأطباء المسلمين، وهذا بحث آخر.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.