حين يذهب الشعراء إلى سوق المال

أعمال فنية وقصائد وروايات تبدو بلا معنى في مجالس «البزنس»

و. هـ. أودن  -  وليم بتلر ييتس
و. هـ. أودن - وليم بتلر ييتس
TT

حين يذهب الشعراء إلى سوق المال

و. هـ. أودن  -  وليم بتلر ييتس
و. هـ. أودن - وليم بتلر ييتس

كلما جمعتني الصدف أو المناسبات برجال أعمال، أو بأهل الثراء والمال، المعنيين بالأسهم وتقلبات السوق وحسابات الخسائر والأرباح، كما حدث لي مؤخرًا، بل كلما دخلت بنكًا وتحدثت إلى موظف فيه، شعرت بغربة وجودية تقريبًا؛ غربة تحمل كل إيحاءات اللامعنى، نوعًا من اليتم واللاانتماء، ليس لي شخصيًا بقدر ما هو لما تعلمت أنه ذا قيمة في هذا العالم. تخطر ببالي أعمال فنية وقصائد وروايات تبدو مثلي بلا معنى في مجالس «البزنس» واتجاهات السوق وأسعار البورصة. تعبر إلى ذاكرتي، مثل لاجئ أغلقت أمامه الحدود، فلم يجد سوى ذاكرته وطنًا، قصيدة للشاعر الإنجليزي «و. هـ. أودن» التي رثى فيها شاعرًا كبيرًا آخر هو الآيرلندي وليم ييتس. في تلك القصيدة تأمل أودن معنى الشعر ودوره في عالم يموج بالأحداث الجسام، بالمال والثراء وبهجات الحس، وأيضًا وحشة التكالب على المكاسب، فجاءت المرثية تأسيًا على شاعر كبير رحل بقدر ما هي تحسر على مصائر العالم، لا سيما أن ييتس عاش حياته على قناعة بأن للشعر دورًا في التغيير، وهو الآيرلندي الذي أمضّته هيمنة الإنجليز على بلاده وكم التضحيات التي كان مواطنوه والقريبون إلى قلبه بشكل خاص يقدمونها في أتون المقاومة المستعرة رغبة في التخلص من المستعمر.
أودن، الذي لم تحل إنجليزيته من إدراك عظمة النضال الذي كانت تخوضه آيرلندا ضد بلاده أو روعة القصائد التي كتبها ييتس مؤمنًا بجدوى ذلك النضال، لم يكن مقتنعًا مع ذلك بما كان ييتس مقتنعًا به، فخاطبه في تلك المرثية التي تعد من عيون الشعر الإنجليزي الحديث قائلاً:
كنتَ ساذجًا مثلنا؛ موهبتك تجاوزت ذلك كله؛
أبرشيةَ النساء الثريات، الاندثارَ الجسدي،
نفسَكَ. آيرلندا المجنونة آلمتك حد الشعر.
والآن لا يزال لآيرلندا جنونها نفسه وكذلك طقسها،
ذلك أن الشعر ليس سببًا في حدوث شيء؛ يبقى حيًا
في وادٍ من صنعه حيث لا يود التنفيذيون
أن يتجولوا، يتسرب جنوبًا
من حقول العزلة والأحزان التي لا تهدأ،
المدن الخام التي نؤمن ونموت فيها؛ يبقى حيًا،
طريقة في الحدوث، فمًا.
التنفيذيون هنا ليسوا مختلفين عن أهل سوق المال في مقطع سابق من القصيدة يصف فيه أودن حجم الغياب الذي سيتركه شاعر مثل ييتس «في خضم اهتمامات المستقبل وضجيجه»:
حين يزأر السماسرة كالوحوش على أرضية البورصة
ويعود الفقراء للآلام التي اعتادوا...
في هذا الموقف المعادي لأهل السوق والتجارة لم يكن الشاعران مختلفين، ولعل أودن تذكر مواقف ييتس تجاههم حين رسم صورة التنفيذيين والسماسرة في إحدى قصائده. ففي قصيدة بعنوان «لعنة آدم» يعلن الشاعر الآيرلندي دون مواربة موقفًا كارهًا لأهل المال، وذلك ضمن استعراضه لوجوه الشقاء التي ابتليت بها البشرية منذ غادر أبوها آدم الجنة. يتأمل ييتس وجوهًا ثلاثة يتمثل فيها الشقاء: الشعر والجمال والحب. وسيبدو ذلك غريبًا لأن الوجوه الثلاثة هي من أهم ما تمتلكه الثقافات البشرية وتعده من كنوزها. غير أن ما يقصده ييتس هو أنها وجوه يشقى الإنسان لكي يحققها، أو أنها قيم يتضمن السعي إليها الكثير من الشقاء، الشقاء الذي لا يفهمه أهل البنوك، ضمن آخرين يشير إليهم ضمن تحاوره مع سيدتين يقول الشاعر إنهما كانتا تجلسان معه:
قلت: «إن سطرًا (من الشعر) قد يستغرقنا ساعات طويلة
ومع ذلك إن لم يبد وليد اللحظة،
فكل رتقنا وفتقنا يصير إلى لا شيء.
خير لنا أن ننظف أرضية المطبخ، أو نكسر الحجارة
مثل فقير عجوز، في كل ألوان الطقس؛
ذلك أن التلفظ بالأصوات الحلوة معًا
يعني عملاً أصعب من كل أولئك، وأن
يُنظر إلينا، مع ذلك، على أننا لا نصلح لشيء
من قبل أهل البنوك، ومدراء المدارس، والقساوسة
الذين يسميهم الشهداء العالم».
بضربة واحدة يحقق الشاعر ضربة بلاغية وحجاجية قوية حين يضع الشهداء والشعراء في صف واحد ضد صف معادٍ يجمع أهل المال والتربويين والقساوسة؛ التربويين لأنهم - فيما يبدو - مرتبطين ذهنيًا وتقليديًا بالشدة والصرامة في تعاملهم مع الصغار في المدارس. الشهداء هم نقيض الفئة المقابلة وكونهم هم، الشهداء، من يصف تلك الفئة بالعالم (أي المادي في مقابل الروحي) يقوي حجة الشعراء المعادية لهم أيضًا.
لكن ما هو مدى صدقية الشعراء في معاداتهم لأهل المال؟ هل نصدق رفضهم للماديات إلى هذا الحد؟ هذا سؤال طرحه الشاعر وأستاذ الشعر الكندي آرون جيوفاني في مقالة نشرت مؤخرًا في مجلة «والروس» Walrus الكندية عنوانها «على الشعر أن يتحدث بصدق عن المال» استعرض فيها معاناته هو في الحصول على عمل أو في الكسب من وراء شعره، ثم توقف عند مواقف الشعراء من المال ابتداءً بالشاعر الرومانسي الإنجليزي وردزورث الذي عاش مع زملائه الرومانسيين بدايات الثورة الصناعية وهيمنة التجارة والعالم المادي على الحياة في إنجلترا نهاية القرن الثامن عشر. أحد الذين يشير إليهم جيوفاني الشاعرة الكندية جينيفر زلم Zilm التي نشرت مجموعة بعنوان «غرفة انتظار» تتضح منها معاناتها هي الأخرى في الحصول على قرض لشراء منزل في مدينة فانكوفر في أقصى الغرب الكندي حيث يتضح أيضًا، كما يقول جيوفاني، التفاوت الطبقي حسب الدخل. في إحدى قصائد المجموعة تصف الشاعرة محاولتها الحصول على قرض من البنك فتقول المتحدثة في القصيدة - والأقرب أنها الشاعرة نفسها - إنها كتبت في طلب القرض أن مهنتها «شاهد» لوصف عملها في مصحة عقلية. يقول جيوفاني إن عمل «زلم» هو مراقبة المرضى أثناء تناولهم جرعات العلاج، ولكنها رفضت التصنيفات الوظيفية التي وضعها البنك ووضعت بدلاً منها وصف «شاهد»، وذلك لكي «تعيد تعريف، وتستعيد، مهنتها في المصحة العقلية، بنقلها من المجال الإداري إلى ما هو أكثر إنسانية». هذا السعي نحو ما هو أكثر إنسانية هو بالتأكيد ما تحرك في أذهان وردزورث وييتس ثم أودن وغيرهم من الشعراء حين عبروا عن رغبتهم في النأي عن مادية البنك، ووحشية الصراع على المال في البورصة. لكن أولئك الشعراء، مثل الشاعرين الكنديين جيوفاني وزلم، ليس لهم في نهاية المطاف سوى البنك، وما تعرضه السوق من وظائف وقروض، إن هم أرادوا أن يجدوا لقمة العيش.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.