الدين والدولة في السياق الغربي

تفاعلات «الإنجيلية» في زمن الصحوة الدينية

ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية قبل إلقائها خطاب افتتاح دورة جديدة للبرلمان في مايو 2016 وركز خطاب الملكة في حينه على التدابير المقرر اتخاذها لمواجهة الارهاب « غيتي}
ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية قبل إلقائها خطاب افتتاح دورة جديدة للبرلمان في مايو 2016 وركز خطاب الملكة في حينه على التدابير المقرر اتخاذها لمواجهة الارهاب « غيتي}
TT

الدين والدولة في السياق الغربي

ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية قبل إلقائها خطاب افتتاح دورة جديدة للبرلمان في مايو 2016 وركز خطاب الملكة في حينه على التدابير المقرر اتخاذها لمواجهة الارهاب « غيتي}
ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية قبل إلقائها خطاب افتتاح دورة جديدة للبرلمان في مايو 2016 وركز خطاب الملكة في حينه على التدابير المقرر اتخاذها لمواجهة الارهاب « غيتي}

تتعرض أطروحة الانفصال بين السياسة والدين في عالم اليوم لتحديات جمة، على المستويين العالمي والغربي خاصة. ذلك أن الصحوة الدينية المعولمة أصبحت المؤشر الأبرز على التحول العميق في عالمي الدين والسياسة المعاصرين. ورغم أن طرح التشابك المعقد فرض نفسه في حقل العلوم الاجتماعية، خاصة علمي الاجتماع والسياسة، فإن تأثر النخب العلمية العربية بخصوصية الحداثة الفرنسية جعلها من أقل النخب العلمية إدراكًا للمسارات المتنوعة التي اتخذها المعتقد باعتباره حقلاً من حقول الاجتماع السياسي، وفي الوقت نفسه حقلاً من حقول المعرفة العلمية التي اعترفت بها الحداثة وعلومها المعاصرة.
على المستوى العملي، جاء فوز الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب ليظهر من جديد الدور الفعال للمسيحيين الإنجيليين في إنتاج الخريطة السياسية الحالية في الولايات المتحدة، وهو ما يفسر إقامة كل من ترمب ومنافسته المرشحة الديمقراطية الرئاسية هيلاري كلينتون مهرجانات وحفلات انتخابية داخل كنائس متعددة في ولايات مختلفة، وكذلك افتتاح بعض التجمعات الانتخابية بالأدعية الدينية.
ولقد خاطب ترمب، يوم 30 سبتمبر (أيلول) 2016، الجمهور الحاضر في إحدى فعالياته الانتخابية بالقول: «جئنا إلى (ولاية) آيوا، وتلقينا كل هذا الدعم الهائل من الإنجيليين، ومن الجميع. وتذكرون أنني أحضرت معي كتابي المقدس، تذكرون ذلك، وكان هناك من يقول: حسنًا، هل تعتقدون أن ترمب سيكون جيدًا مع الإنجيليين؟ لقد كنت جيدًا مع الإنجيليين، أليس كذلك؟!»
في عالم السياسة الأميركية، لم يعد الدين حبيس الكينونة الفردية التي نظرت لها الليبرالية والحداثة، بل أصبحت هذه الأخيرة نفسها ممسوسة بالنزوعات الدينية، مما خلق نوعًا من التماهي الديني مع منظومة الدولة الحديثة، القائمة على المأسسة وبناء النفوذ. وفي هذا الإطار، يمكن إدراج الصرح المؤسساتي للتيار الديني الأميركي الذي يتكون من آلاف المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والخدماتية والوعظية التبشيرية وغيرها.
* متدينو أميركا
وكما يشير إلى ذلك البروفسور مايكل ج. بيري، في كتابه «الدين في السياسة... جوانب دستورية وأخلاقية»، فإن الدين ليس قضية ثانوية بالنسبة للمواطنين الأميركيين، فهم «الأكثر تدينًا في ديمقراطيات العالم الصناعي المتقدم... 95 في المائة من الأميركيين البالغين يعلنون إيمانهم بالله، و70 في المائة هم أعضاء في كنيسة أو معبد يهودي». ورغم أن هذه الأرقام تتعلق بدراسات قديمة، فإنها في الواقع تدل على أن مسار الدين في حقل السياسة بأميركا اكتسب شرعية تاريخية، وتحول إلى ثابت «سلطوي»، أخلاقي وقانوني، تطور من داخل المجتمع ومؤسساته.
ومن هنا، ينبه البروفسور بيري، أستاذ القانون في جامعة نورثوسترن ثم جامعة إيموري، إلى أن «حرية الدين يحميها القانون الدستوري الأميركي، وتقوم على قاعدتين: الأولى، أنه لا يجوز للحكومة أن تؤسس للدين (قاعدة عدم التأسيس). والثانية، أنه لا يجوز للحكومة منع الممارسة الدينية». ويبدو أن سلسلة التشابك التاريخي بين الدين والسياسة في أميركا لا يمكن تفسيرها فقط بالتدين الشعبي، وقوة المتدينين على مستوى خريطة النخب، بل إن القانون والعرف الدستوري يجعل من التشابك أكثر تعقيدًا.
زد على ذلك أن استعمال الديني هو فعالية سياسية متجددة في زمن الحركات الأصولية. فحسب عالم الاجتماع الشهير أنتوني غندز، في كتابه «علم الاجتماع»، كان الدين وراء ظهور «أعداد لا حصر لها من الحركات الدينية الجديدة. وانتشرت هذه الحركات، بصورة خاصة، في الولايات المتحدة، مستعينة بالتلفزيون ووسائل الإعلام الإلكترونية، وشكلت ما يسمى (اليمين المسيحي الجديد) الذي يقترب في أحيان كثيرة من مواقع صنع القرار» (ص 595).
وفي الحقيقة، فإن مثل هذه الحركات الدينية استطاعت بالفعل الوصول إلى مراكز القرار السياسي الاستراتيجي بأميركا، وهي تحتل اليوم صدارة الشخصيات العامة في بعض دوائر النفوذ بالبيت الأبيض والمحيط الضيق للرئيس الحالي، على المستويين المدني والعسكري. ويبدو أن نتائج هذا السياق تجعل من اختيار القاضي الإنجيلي نيل غورستش من طرف الرئيس دونالد ترمب لتولي المقعد الشاغر في المحكمة العليا، بتاريخ 2017 /2 /1 أمرًا عاديًا، رغم ما أثاره من نقاش آيديولوجي داخلي.
إن هذا التعيين هو واحد من المؤشرات الدالة على قوة الإنجيليين، وقدرتهم على الانتشار من داخل الجهاز البيروقراطي والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية. فالمحكمة العليا أعلى هيئة قضائية تنظر في أهم القضايا، منها قرارات كانت موضوع البرنامج الانتخابي لترمب، من مثل قضية الهجرة التي أصبحت معركة مفتوحة سيلعب فيها القضاء دورًا حاسمًا، نظرًا لحجم الدعاوى المعروضة عليه. غير أن الرئيس ترمب، الذي كان يقول في مهرجاناته الانتخابية إنه متمسك بالكتاب المقدس، ينطلق من هذا البعد العقدي في اختياره لرجل متدين يقاسمه المعتقد نفسه ليرجح به كفة تيار المحافظين في هذه المؤسسة القضائية العليا.
ولا يبدو أن تداخل الحقل الديني والسياسي خصيصة أميركية حصرية، بل يمكن إثارة مزيد من الشكوك في مزاعم رواد علم السياسة والاجتماع المعاصر، خصوصًا تلك التي تنبأت بتقويض الأسس الاجتماعية للدين، مدعية أن الزمن الحديث سيتجاوز المقدس الطقوسي، والمعتقد المنظم، عن طريق انكماش الدين إلى بعده الفردي. غير أن منظومة العقائد اليوم نفسها تأثرت بالديناميات الاجتماعية، والالتزام الجماعي بالقيم. أكثر من ذلك، أصبحت منظومة الخدمات مهنة للحركات الدينية، وأضحت الممارسات والمشاركة الجماعية جزءًا من السياسة الفعلية للدين في الفضاء العام للمجتمعات الديمقراطية المعاصرة.
* ملكة بريطانيا والكنيسة
في النموذج الديمقراطي البريطاني، لا تزال الملكة هي صاحبة السيادة العليا، والحاكم الأعلى للكنيسة الإنجليكانية، وتتمتع بصلاحيات تعيين الأساقفة ورؤسائهم. ومن الناحية التشريعية القانونية، يمكن للمجمع الكنسي الإنجليكاني البريطاني أن يتقدم باقتراح قوانين تكون سارية المفعول، بعد اعتمادها من طرف البرلمان. كما يتمتع المجمع الكنسي بحق التشريع بأحكام الشريعة المسيحية الإنجليكانية، بعد موافقة الملك أو الملكة، ذلك أن القانون يعتبر أن «كنيسة إنجلترا» (الكنيسة الإنجليكانية) و«كنيسة اسكتلندا»، الكنيستين «الرسميتين»، المقررة لمراسم الدولة ذات الطابع الديني، ولا يحصل أعضاؤها مع ذلك على أية ميزة بكونهم أعضاءها.
في هذا الاتجاه نفسه، ينص دستور الدنمارك، في مادته الرابعة، على أن الكنيسة الإنجيلية (البروتستانتية) اللوثرية هي الكنيسة الرسمية للدولة، وتشترط المادة السادسة أن يكون الملك منتميًا لهذه الكنيسة. أكثر من ذلك، يعتبر الدستور الدنماركي أن «الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الهيئة الدينية الوحيدة في البلاد التي لها حق الحصول على إعانات مالية، أو تمويل مباشر من خزينة الضرائب في الدولة». ويمكن اعتبار هذا المؤشر كافيًا لإعادة البحث في العلاقة بين الدين والسياسة، داخل الدولة الحديثة الغربية. ليس من داخل معمارها الدستوري القانوني فحسب، ولكن أيضًا من داخل رؤية الفضاء العام للعلمنة، ومفهومها، وطريقة قياسها وتفعيلها ديمقراطيًا.
* تشابك وتداخل
ويمكن الاسترشاد كذلك بالنموذج الفرنسي للتدليل على تشابك التداخل، وفي الوقت نفسه سلطوية السلطة السياسة على الدين، حيث يتدخل فيه رئيس الجمهورية للتعيين في مناصب دينية عمومية. ففي ستراسبورغ وميس، بإقليمي الألزاس واللورين، وبموجب القانون، يعتبر رجال الدين في الكنائس موظفين عموميين يتلقون أجورهم من خزينة الدولة، كما يتمتعون بحق تقديم دروس التعليم الديني في مدارس الجمهورية.
وإجمالاً، يمكن الحديث أوروبيًا عما يطلق عليه «ضريبة الكنيسة» التي يدفعها المنتمي للكنيسة عبر خزينة الدولة لكنيسته. وهذا النظام معمول به في كثير من الدول الأوروبية، منها: السويد والنرويج وألمانيا وإيطاليا والنمسا وفنلندا والدنمارك وآيسلندا. غير أنه لا بد من التأكيد على خاصية يتمتع بها النموذج الفرنسي، وهي كونه «سلطويًا» وحادًا، واستعماليًا للقانون للحد من حرية الدين. ولقد صيغ هذا النموذج الأوروبي بالتداخل بين العلمانية واللائكية. وهو بذلك يختلف عن النموذج الإنجيلي الأنجليساكسوني المتسامح، مقدمًا خيارًا معرفيًا وتصوريًا فلسفيًا جذريًا مغايرًا، حيث يقدم الفيلسوف الفرنسي روني كبيتان René Capitant، باعتباره واحدًا من المنظرين المعاصرين لهذا الخيار، تعريفًا للعلمانية «يعتبرها تصورًا سياسيًا يطبق الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الديني، فالدولة لا تمارس أية سلطة دينية، كما لا تمارس الكنائس أي سلطة سياسية».
ويمكن القول إن العَلمانية، من خلال التجربة الفرنسية، متوقفة بالضرورة على السيطرة على إنتاج الثقافة والتعليم. وهذه السيطرة هي نظام ونسق استبعادي وتحكمي في الدين، من خلال بناء وعي جماعي متحكم فيه، عبر آلية التعليم، فالمدرسة الفرنسية هي «آيديولوجية» لبناء عقيدة للدولة يطلق عليها العلمانية (بكسر العين) Laïque، سواء كتصورات تجريدية أو كسلطة ونظام سياسي.
ومن خلال هذه الازدواجية التي وسم بها كل من لفظي اللائكية والعلمانية، نستطيع التأكيد مع فيلسوف العلمانية الأبرز، جون بوبيرو، أن علمانية المدرسة (la laïcité scolaire) تعني نهاية بناء الأخلاق الدينية، وتعويضها بأخلاق من دون الله؛ وهذه الأخيرة هي الأخلاق اللائكية.
* 3 مراحل للعلمانية
وتماشيًا مع هذه الحقيقة التاريخية، نؤكد أن العلمانية مرت في مسيرتها التاريخية بمراحل ثلاث: الأولى صراعية، هدفت إلى تحقيق الفصل بين الكنسي والزمني. تبعتها المرحلة الثانية التي اتسمت بتحييد الكنسي وتشريعاته، لتكريس التشريع الوضعي (positiviste). أما العلمانية اليوم، فهي في مرحلتها الثالثة، وتتعرض لضغوط مجتمعية، وعالمية في قسم كبير منها. ذلك أن مبادئ حقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها عالميًا، جعلت من العلمانية، حسب جاكلين كوستا - لاسكو Jacqueline Costa - Lascoux، «قيمة حوارية». هذه الحوارية هي الممثلة للمرحلة الثالثة التي نقلت العَلمانية إلى نظام سياسي تعددي.
إن هذا التطور التاريخي قد تطور عبر مسارين خاصين: ففي أوروبا الغربية، كثير من البلدان المحافظة على حلقة الوصل مع هوية الدين، في حين أن بعض البلدان تخضع لنظام فردي شمولي، كما هو الحال في الشرق الأوروبي سابقًا. وعلى الجانب الآخر، تعمل الأنظمة الديمقراطية العريقة، في معظمها، على ضمان الحرية الدينية في دساتيرها. ومع ذلك، تحضر العلمانية والدين في كثير من الأحيان، بشكل ضمني، في الحاضر والممارسات الاجتماعية، وهو ما يفسر كون «عدد من الدول الأوروبية لا تزال تعاني من دين الدولة». كما أن الواقع السوسيولوجي يؤكد أن هناك «حالة دينية تقبع داخل العَلمانية، وتتكيف باستمرار مع الفضاء العام»، بتعبير الفيلسوف الفرنسي إيف لامبير. أكثر من ذلك، أصبحت الصحوة الدينية تسائل الأسس الجذرية والفلسفية للعلمانية، وتفرض عليها التخلي عن بعض أسسها المعرفية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.