«مربد العراق»... حضور واسع للشعراء وهامش ضيق للشعر

تحت شعار «الشعر العربي حاضر البصرة وماضيها»، وبحضور جمهرة غفيرة من الشعراء العراقيين، بينهم 25 شاعرا من الدول العربية وشعراء أجانب من الهند وإنجلترا وإيران، أطلق مهرجان المربد بمدينة البصرة بالعراق فعاليات دورته الثالثة عشرة، على مدار أربعة أيام في الفترة من 1 إلى 4 فبراير (شباط) الحالي.
حملت هذه الدورة اسم الشاعر العراقي الراحل مهدي محمد علي، وخصص المهرجان جلسة نقدية لإلقاء الضوء على منجزه الشعري وملامحه الفنية والجمالية، وكان الشاعر ارتحل عن مدينته البصرة قسرا عام 1978، في رحلة شاقة عبر الصحراء حتى وصل إلى الكويت؛ هربا من بطش النظام الحاكم وملاحقته القوى التقدمية، ثم غادر الكويت إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
ولد الشاعر مهدي محمد علي عام 1945، وتلقى مراحل تعليمه الأولى في مدارس البصرة، وأكمل دراسته في كلية الآداب جامعة بغداد وتخرج فيها عام 1968، وعمل بمهنة التدريس في مدارس الحلة والبصرة، ونشر أول قصائده عام 1961. وبعد رحلة الهرب ظل يتنقل بين المنافي، إلى أن مات في مدينة حلب بسوريا بعد معاناة قاسية مع المرض في عام 2011، تاركا عددا من الدواوين الشعرية، معظمها صدر عن دور نشر سورية، كما عمل بالصحافة، وكتب عددا من المقالات والدراسات الأدبية المهمة، وله كتاب نثري خصصه لمدينته الأولى بعنوان «البصرة.. جنة البستان». وفي بادرة هي الأولى التي تصدر له بالعراق قام صديقه الشاعر عبد الكريم كاصد، الذي رافقه في رحلة الهرب، باختيار مختارات من شعره صدرت في كتاب وزعت منه نسخ في المهرجان. يصف الشاعر المحتفى به رحلة الهرب تلك في إحدى قصائده قائلا:
«في أول هذا العام
غادرت الوطن بزي بدويّ
وعبرت صحاراه على ظهر بعير
في قافلة من رحل ورياح
ونياق وأدلاء
ورجال تبحث عن رزق ما بعد الصحراء
سبعة أيام بلياليها
لم نعرف غير ذلول ليل
وسماء ورمال
وصحارى تصفر فيها الريح
في آخر هذا العام حلمت:
أني أرحل نحو الوطن المغلوب
بقطار تحت الأرض
يمرّ بأحياء تحت الأرض ومحطات
تكتظ بأعداء وعيون جواسيس
... ...
لكني...
قابلت أخي في زاوية الشارع
عجلاً، أتلفت
ودعت أخي وأفقتُ
تذكرتُ
بأني لم أرَ أمي في الحلم».
شهد المهرجان طيلة أيام انعقاده باقة من الأمسيات الشعرية الصباحية والمسائية، وسوى أمسية أقيمت في بيت الشاعر الرائد بدر شاكر السياب، وأخرى أقيمت بأحد المراكز التجارية بالبصرة احتضن باقي الأمسيات بأحد فنادق البصرة، مقر إقامة المهرجان، والشعراء والكتاب الضيوف. وبالتوازي مع الأمسيات انعقدت أربع جلسات نقدية مصاحبة.
اكتظت الأمسيات بالعشرات من الشعراء، وحظيت بحضور مكثف من الجمهور، وكان لافتا سطوة الشعر العمودي، في سمته التقليدي الذي يكرس للنظم، ودغدغة حواس المتلقي، وعلو نبرة الحنجرة، ما أربك الكثير من شعراء قصيدة التفعيلة والنثر، الذين تجاوز معظمهم سطوة هذه المرحلة، وأصبحت من تداعيات بواكيرهم وطفولتهم الشعرية، فأحسوا أن انفتاح المهرجان على شتى أشكال الكتابة الشعرية تحول إلى تكريس للفوضى باسم الشعر. وبخاصة أن ما قدم في إطار الشكل العمودي يفتقر إلى أبسط سمات هذه القصيدة التي شكلت متن الشعرية العربية على مدار أربعة عشر قرنا، بل إن هذا الشكل لم يستطع، في أغلبه الأعم، أن يلتحم بنسيج هذا التراث في ماضيه القريب، على يد الشعراء العراقيين من أمثال: محمد مهدي الجواهري، ومعروف الرصافي، وجميل الزهاوي، وغيرهم من الشعراء العرب من أمثال أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم وأبو القاسم الشابي. ناهيك عن الشعراء الذين فجّروا ثورة الشعر العربي الحديث، وفي طليعتهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة.
زاد الأمر إرباكا، أن لغة النظم تكاد تكون منفصلة عما يحدث في الواقع العراقي الراهن من حرب على الإرهاب، واقتحام مفردات الحرب وتداعياتها المعقدة الحياة العراقية سياسيا واجتماعيا وثقافيا ونفسيا، حتى أصبحت بمثابة الخبز اليومي في الكثير من المناطق. اكتفت هذه القصائد بالبكاء على الشهداء أحيانا، وتصوير استشهادهم وكأنه ملطمة ليس فيها إلا العويل والكثير، بينما تراجعت فكرة المرثية الشعرية بإيقاعها الإنساني النبيل والفني الراقي.
واتسمت بعض القصائد بنزعة أحادية حادة بالنظر إلى الماضي انعكست على رؤيتها لواقع الإنسان نفسه، وكينونته التي تعتد بالتميز والاختلاف، وجدل الثابت والمتغير، في إطار البحث عن وحدة المشترك وإعلاء قيم العدل والحرية.
رغم هذا استطاع المهرجان أن يخلق جوا من الألفة والحميمية، تناثرت في سهرات وتجمعات الشعراء والكتاب، في شكل هامش مرن وحي، لتبادل الأفكار والآراء والإصدارات الجديدة، والإنصات إلى الشعر، بعيدا عن صخب وضجيج القاعات الرسمية، والتعصب لشكل شعري بعينه أصبح مكانه فوق رف التراث.
وكانت الجلسات النقدية الأوفر حظا من الهدوء، وتناولت في أربعة محاور: المناهج النقدية الشعرية وتحولاتها، والشعر العراقي وتجلياته الحداثية، وجهود شجاع العاني في النقد العراقي، وإسهامات الشاعر مهدي محمد علي وملامح شعره. شارك في الجلسات كوكبة من النقاد والباحثتين المتخصصين، استطاعوا أن يردموا الفجوة بين الشاعر والنقد، باعتبار أن كليهما يشكل ضرورة للآخر، وشددوا على أهمية أن تقوم العلاقة بينهما على الاحترام والموضوعية، وتتأصل بشكل علمي سليم، وأهمية الإفادة من معطيات التكنولوجيا الحديثة، وبخاصة الانتقال من النص الورقي المطبوع إلى النص الإلكتروني؛ مما يستوجب إعادة النظر في علاقة الاتصال بين الشاعر المبدع والمتلقي من ناحية، وبينه وبين الناقد من ناحية أخرى.
ثمنت الجلسة المخصصة للاحتفاء بالناقد الدكتور شجاع العاني منجزه النقدي، وبصيرته الكاشفة في قراءة المشهد الشعري والروائي العراقي بأسس منهجية ومعرفية مرهفة الحواس. ففي حوار نشر معه في صحيفة «المربد» المصاحبة للمهرجان يقول في معرض سؤال عن الفرق بين العملية النقدية الأكاديمية ومثيلتها الأدبية: «المفروض ألا يكون هناك فرق، لكن الواقع لدينا ليس كذلك، فالناقد خارج النطاق الأكاديمي أقرب ما يكون إلى الأديب نفسه، بمعنى الشبه بينهما، بينما الأكاديمية تتطلب قدرا كبيرا من الموضوعية والانضباط المنهجي، على أن يكون الخيال الذي يتمتع به الناقد الحر ضروريا للعمل النقدي، وألا يتحول إلى عمل مدرسي جاف. أفضل النقد ما ينطوي على المنهجية والموضوعية، ولكن في الوقت نفسه يتجرأ على المنهج عندما يجده عاجزا عن أن يلم بدقائق العمل الفني».
أيضا صاحب المهرجان معرض للفوتوغرافيا والفن التشكيلي العراقي، مطعما ببعض القطع النحتية الصغيرة، من الحديد والخشب. اتسم المعرض بطابع الهواة مما أكسبه طزاجة المغامرة، والبحث عن صيغ فنية، بعيدا عن القوالب الفنية الشائعة، كما برزت الحياة العراقية في اللوحات، بشخوصها وعاداتها وبيوتها القديمة، ومهنها وحرفها، سواء في البر أو البحر؛ وهو ما ميز المعرض وأعطاه نكهة خاصة.
عن «المربد» يقول الدكتور سلمان كاصد، رئيس اللجنة التحضيرية للمهرجان، رئيس اتحاد الأدباء والكتاب بالبصرة: لقد حرصنا على أن يكون بالمهرجان أنشطة وفعاليات متنوعة بمشاركة شعراء ونقاد ومثقفين عرب وأجانب وعراقيين، كما تنعقد دورة هذه العام في غمرة أفراح شعبنا بانتصارات قواته المسلحة الباسلة التي تمضي قدما في تحرير الموصل، آخر معاقل عصابة «داعش» المجرمة في بلدنا؛ ما يعزز الآمال باستعادة اللحمة الوطنية العراقية ويؤسس أجواء السلام والاستقرار، وفي الوقت نفسه، يجعلنا نطمح في «مربد» متميز دائما.