من التاريخ: صناعة الأبطال في غاليبولي

الجنرال إيان هاملتون
الجنرال إيان هاملتون
TT

من التاريخ: صناعة الأبطال في غاليبولي

الجنرال إيان هاملتون
الجنرال إيان هاملتون

أذكر جيدًا يوم شاهدت صناعة النجم ميل غيبسون من خلال فيلمه الشهير الذي يجسد معركة غاليبولي، الذي لعب فيه دور الضابط الأسترالي الذي شارك في هذه المعركة الكبيرة ضمن قوات «الأنزاك Anzac» (اختصار كلمات الفيلق الأسترالي - النيوزيلندي) التي دربت في مصر في 1915 تمهيدًا لمشاركتها في الجهد العسكري لبريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية وذلك بعد قرابة سبعة عقود من الحدث الحقيقي. ولكن في هذه المعركة الشهيرة سطع نجم الضابط التركي اللامع مصطفى كمال «أتاتورك» أيضًا - كما تابعنا في الأسابيع الماضية - ومن المفارقات أن هذه المعركة أسفرت أيضًا عن خسوف نجم السياسي العبقري البريطاني ونستون تشرشل صاحب فكرة هذه الحملة الفاشلة وقراره الطوعي بالابتعاد عن السياسة لحين تولى المسؤولية مرة أخرى رئيسا لوزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه، فيما يخص تشرشل، فرصة قلما منحها التاريخ لقائد سياسي فشل فشلاً ذريعًا في معركة ليصحح خطأه بعد ذلك بنجاح أكبر عملية إنزال برمائي في التاريخ الحديث على شاطئ النورماندي في فرنسا عام 1944 لدحر ألمانيا النازية.
وحقًا، عاد تشرشل بعد 29 سنة ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه هاضمًا أخطاءه في معركة غاليبولي. وفي المقابل بنى «أتاتورك»، بعكس الزعيم البريطاني، مستقبله العسكري على نجاحه في تلك المعركة. وكان قبلُ ملحقًا عسكريًا لبلاده في صوفيا (عاصمة بلغاريا) إبان الحرب العالمية الأولى وكانت مشتاقًا لقيادة عسكرية ليشارك في الدفاع عن بلاده. ومن خلال اتصالاته مع قيادته استطاع أخيرًا الحصول على هذه القيادة، إذ جرى تعيينه قائدًا للفرقة التاسعة عشرة الملحقة بقيادة الجيش التركي في شبه جزيرة غاليبولي، لكنه كان تحت قيادة اللواء الألماني أوتو ليمان فون ساندرز، الذي كانت قد عينته القيادة التركية قائدًا عامًا للجيش التركي في هذه المنطقة.
«أتاتورك» بطبيعته كان رافضًا للسياسة الألمانية وتوجهاتها رغم كون ألمانيا حليف بلاده في الحرب العالمية الأولى، وهو ما أثر سلبيًا على علاقته مع قائده الجديد. ولكن مع ذلك أبلى بلاءً حسنًا في تنظيم صفوف قواته ما جعله محل ثقة القائد الألماني، خصوصا أنه كان على إدراك كامل بالطبيعة الطوبوغرافية لشبه الجزيرة - المطلة على مضيق الدردنيل - إبان مشاركته في الحرب العثمانية البلغارية. وهذا ما وضع «أتاتورك» في موقف أفضل من الحلفاء الذين كانوا يجهزون للإنزال وفقًا لخرائط قديمة تعود إلى أيام حرب القرم عام 1854، الذين كان هدفهم الاستراتيجي من هذه الحملة البرمائية لتأمين السيطرة على مضيق الدردنيل ثم مضيق البوسفور، وهو ما جعلهم يتعجلون العملية بغير دراسة كافية، لا سيما تشرشل الذي رفض كل الخيارات العسكرية الأخرى.
وكما توقع «أتاتورك» تم الإنزال في خمس مناطق محددة، إضافة إلى إنزال آخر لقوات «الأنزاك» شمالاً، وبدأت هذه المعركة العسكرية يوم 25 أبريل (نيسان) 1915. كان فون ساندرز مقتنعًا بأن الحرب على الشواطئ ستفقده القدرة على إحكام دفاعاته، فقرر الإبقاء على دفاعات بسيطة متقدمة في الشواطئ لإبطاء حركة العدو بينما نشر قوته الأساسية في المرتفعات الملاصقة للشواطئ، إلا أن الفرنسيين قاموا بحركة خداع من خلال مناورة جعلت القائد الألماني يتحرك صوب الشمال الشرقي اعتقادًا منه أن الحلفاء سينزلون بقوة في شمال شرقي شبه الجزيرة وهو ما أخرجه من بؤرة مسرح العمليات الحقيقي وترك القادة الميدانيين أسيادًا للموقف.
واقع الأمر أن الحلفاء ارتكبوا كثيرا من الأخطاء؛ فهم لم يتوقعوا المقاومة التركية الشرسة التي واجهتهم على الإطلاق. ثم إن الإنزال حصل في مناطق صعبة للغاية لم تسمح لهم بسرعة التحرك، إضافة إلى وجود حالة من الفوضى ضربت القوات الحليفة بعد الإنزال عندما تعطلت حركتها إثر المقاومة التركية الباسلة، وهو ما جعلها تفقد وقتًا ثمينًا قبل محاولة الاستيلاء على المرتفعات. هذا كان كافيًا لمنح الأتراك الفرصة لإحكام الدفاعات بعدما عرفوا أماكن الاختراقات المتوقعة، وهكذا تمتعوا بميزة الدفاع من الجبال المرتفعة أمام قوة هجومية بطيئة الحركة أسفلها.
أما على الجبهة، حيث كان «أتاتورك»، فالأمر لم يكن بالصورة نفسها، وبخاصة أنه توقع مكان نزول الحلفاء وهو ما جعله يراهن على خطوتهم التالية. ومن ثم، مع توقعه مكان حدوث المعركة بشكل صحيح، حرك القائد التركي قواته بكل سرعة لملاقاة «الأنزاك»، إلا أنه عندما وصل إلى مواقعه الدفاعية أدرك أنه تأخر بعض الشيء عندما رأى قواته الأمامية منهكة وعاجزة عن الاستمرار. وفي حالة انسحاب، تحرك هو بمفرده بعيدًا عن مركز الفرقة لملاقاة فلول الدفاعات المتقدمة المنسحبة بكل سرعة تحت ذريعة نفاد الذخيرة. هنا كان «أتاتورك» في مرمى نيران العدو لكنه لم يأبه، بل هدّد كل من ينسحب وطلب من جنوده أن يضعوا الحراب على البنادق ويقاتلوا من دون ذخيرة لوقف تقدم «الأنزاك». وعلى الأثر، أخذ يحرك دفاعاته لصد الهجوم، وكانت خطوة «أتاتورك» موفقة للغاية علمًا بأنه دفع باحتياطياته كلها دون استئذان فون ساندرز، ولو لم يفعل هذا لكانت الجبهة التركية قد اُختُرقت من الشمال الغربي ولكان الحلفاء قد زحفوا على الدفاعات التركية في المناطق الخمس الأخرى، ولكن فطنة «أتاتورك» وشجاعته حالتا دون ذلك.
وفعلاً استطاع القائد التركي وقف تقدم «الأنزاك» بفضل هجوم مضاد أعادهم مرة أخرى إلى الشواطئ، حيث كانوا قد أنزلوا، ولكن بثمن باهظ من الضحايا. ومع ذلك أدت هذه الخطوة إلى وقف تقدم العدو وحماية الجبهة التركية من هزيمة محققة، وما لبث الفريقان أن دخلا في حرب خنادق على النحو السائد في الجبهة الفرنسية بين ألمانيا وفرنسا. ولكن الحلفاء قرروا الدفع بدعم عسكري جديد قوامه عشرون ألفًا وبدأت الجولة الثانية في أغسطس (آب) من العام نفسه. ومجددًا تعمد «أتاتورك» مواجهة الهجوم الغربي بمقاومة شديدة أنهكته وجعلته يتأخر في إعادة التمركز مرة أخرى وهو ما استغله القائد التركي الشجاع وقاد هجومًا انتحاريًا ضد هذه القوات ودحرها في منطقة شانوك بايير. وكان لهذا الإنجاز أثره الكبير في إقناع الحلفاء - ولا سيما بريطانيا - بأن حملتهم في غاليبولي فشلت بعدما فقدوا نحو 46 ألف قتيل.
وكان المنتصر الأكبر في هذه المعركة مصطفى كمال «أتاتورك»، الذي لم يكن من المستغرب أن ينال إعجاب الأعداء قبل الحلفاء. ومنذ هذه اللحظة بدأت «صناعة نجوميته»، في حين أصر تشرشل على تحميل القائد البريطاني الجنرال إيان هاملتون المسؤولية في فشل الحملة بدلاً من سوء تخطيطه، وقال عنه معاتبًا إنه «جاء وشاهد وانسحب»، في تهكم صريح وتحوير لكلمات يوليوس قيصر عندما قال: «جئت وشاهدت وغزوت»، ولكن الساسة كثيرًا ما يعلقون فشل فكرهم على آخرين وهذه سمة ليست نادرة.
لقد كانت معركة غاليبولي علامة فارقة في حياة «أتاتورك»، غير أنه لم يتذكرها على أنها معركة عسكرية فحسب، بل أدرك بمرور الوقت أهميتها بالنسبة لتركيا كلها ولسياسته الخارجية الهادفة للسلام والاستقرار وليس الحرب والفوقية وافتعال الخلافات. وهكذا، قال في خطبته الشهيرة في رثاء جنود أعدائه السابقين كلمات... منها: «أيها الأبطال الذين أريقت دماؤهم وفقدوا أرواحهم ارقدوا في سلام... اليوم لا اختلاف بين من نسميهم (جوني) أو (محمد) حيث يرقدون جنبًا إلى جنب هنا في وطننا... أيتها الأمهات الثكالى اللائي أرسلن أبناءهن إلى الحرب... امسحن دموعكن فأولادكن في أحضاننا وهم في سلام... إنهم بعدما فقدوا أرواحهم في هذه الأرض أصبحوا الآن أولادنا نحن أيضًا».
هكذا تكون العبقرية السياسية الممزوجة بالانتصار العسكري.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.