مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا

الظهير «الاشتراكي» الأيسر في المباراة ضد خط الوسط «المحافظ»

مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا
TT

مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا

مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا

بدأ مارتن شولتز، المرشح الاشتراكي لمنصب المستشارية في ألمانيا بالضد من المستشارة الألمانية المحافظة أنغيلا ميركل، حياته الشبابية لاعب كرة قدم، ولعب حينها ظهيرًا أيسر في فريق نادي رينانيا فورزيلين 05، واحتل مع فريقه المركز الثاني في بطولات الشباب بألمانيا الغربية آنذاك. ومع أن أحدًا في الحزب الديمقراطي الاشتراكي (الاجتماعي) لا يستطيع وصف شولتز بالـ«يساري»، فإن الحزب في حاجة ماسة حاليًا إلى «ظهير أيسر» ينتشل الاشتراكيين من نسبة تأييد دون الـ20 في المائة التي تهددهم في استطلاعات الرأي، ويعزز الهجمات من جهة اليسار ضد وسط الاتحاد المسيحي الذي يتخذ من سياسة «الوسط» شعارًا لكسب الناخبين. ويعتقد الاشتراكيون أن عزوف الناخبين عنهم يعود إلى التحالف الكبير مع المسيحيين، ويرون على هذا الأساس ضرورة رسم سياسة جديدة على يسار ميركل، ستعيد إليهم شعبيتهم الضائعة.

وصف مارتن شولتز مرة شغفه بلعبة كرة القدم بالقول إن «إنجيله» في السابق كان مجلة «كيكرز»، وأن مثله الأعلى كان فولغانغ أوفيرات. ومجلة «كيكرز» هي أشهر المجلات الرياضية الألمانية التي تهتم بكرة القدم، أما أوفيرات فهو لاعب الوسط في منتخب ألمانيا لكرة القدم في عقد السبعينات من القرن الماضي، وكابتن فريق 1 إف. سي. كولون السابق ورئيس النادي السابق. ولقد حاز أوفيرات كأس العالم لكرة القدم عام 1974، على حساب هولندا، إلى جانب رفاقه النجوم العالميين فرانز بيكنباور وغيرد موللر وسيب ماير وغيرهم.
ومعروف عن شولتز أنه من كبار مشجعي فريق نادي 1 إف. سي. كولن؛ لأنه ولد في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا، وعاش طوال عمره فيها، تحديدًا في مدينة فورزيلين القريبة من كولون. وتقع فورزيلين قرب مدينة آخن الحدودية، عند «المثلث» الألماني البلجيكي الهولندي، وربما كان هذا العامل السبب في إتقانه اللغتين الهولندية والفرنسية، إلى جانب اللغات الإيطالية والإنجليزية والإسبانية.
شولتز يتمتع بشعبية كبيرة في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا المزدحمة بالسكان (نحو20 مليونا)، ويعتقد زعماء الحزب الديمقراطي الاشتراكي أن تحقيقه نسبة عالية من الأصوات في هذه الولاية ربما يرجّح كفته على المستشارة أنغيلا ميركل.
* النشأة والمسيرة
ولد مارتن شولتز في إيشفايلر يوم 20 ديسمبر (كانون الأول) 1955 لعائلة لها خمسة أطفال. ويوصف شولتز بأنه مولود «غروكو»، مع أنه ينبغي عليه الآن أن يضع حدًا للـ«غروكو» وأن يعيد الاشتراكيين إلى منصة الحكم. وللعلم، فالـ«غروكو» هو المختصر الذي استخدمته الصحافة الألمانية لوصف التحالف الكبير بين الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي (غروسه كوالاتسيون). ونال التعبير لقب أفضل مفردة ابتكرت في عالم الصحافة بألمانيا عام 2015. والحقيقة أن علاقة شولتز بـ«الغروكو» تعود إلى أنه ولد في عائلة مختلطة الولاء السياسي؛ إذ كان أبوه ألبرت ضابطًا في الشرطة ومن نشطاء الحزب الديمقراطي الاشتراكي، في حين كانت أمه كلارا ربة بيت ومن نشطاء الحزب الديمقراطي المسيحي. وفي هذه البيئة «التحالفية» شق مارتن طريقه إلى منظمة الشبيبة الاشتراكية، وبنى من خلالها تاريخه في الحزب.
ولقد درس مارتن الصغير في فورزيلين بمدرسة إعدادية كاثوليكية، بيد أن عشقه كرة القدم كان يعرقل استمراره الدراسي. وبعد فشله سنتين متتاليتين وهو في الصف الحادي عشر، غادر المدرسة كي يحترف كرة القدم، لكن إصابة في الركبة أرسلته إلى التقاعد في سن مبكرة عام 1975، وكانت هذه الإصابة أيضا سبب إعفائه من الخدمة العسكرية أيضًا.
ويعترف شولتز في أكثر من مقابلة بأنه تحوّل إلى مدمن كحول بعد «تقاعده» الرياضي وهو شاب في العشرين من عمره. ويتابع القول «ليس لدي ما أخفيه»، ويؤكد أنه شرب كل ما وقعت عليه يده في تلك الفترة، وخصوصًا بين عامي 1975 – 1980، غير أن امتنع عن الشرب تمامًا، وحتى الآن، منذ 1980، وكان في هذه الأثناء قد بلغ لجنة الحزب القيادية في منطقة فورزيلين.
وأنهى الظهير الأيسر المقعد بين 1975 - 1977 دورة تأهيل مهني في مجال الكتب والمكتبات، وعمل لمدة خمس سنوات في مكتبات ومحال عدة لبيع الكتب، قبل أن يؤسس دارًا صغيرة للنشر في فورزيلين بالاشتراك مع شقيقته دوريس.
ومع أن شولتز لم يكن قد «شفي» بعد من إدمانه، انتخب في السبعينات في مجلس مدينة فورزيلين، ثم أصبح عمدة المدينة بين1987 واحتفظ بالمنصب حتى 1998. وهكذا أصبح بعمر 31 سنة أصغر عمدة لمدينة ألمانية منذ الحرب العالمية الثانية. وبعدها انتخب عضوًا في البرلمان الأوروبي عن اللائحة الاشتراكية بين 1994 و2017، وتولّى رئاسة البرلمان الأوروبي بين 2012 - 2017.
* مواقف لافتة شهيرة
ولعل من أشهر مواقف مارتن شولتز في البرلمان الأوروبي تبادله الاتهامات في جلسة برلمانية مع رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق اليميني سيلفيو بيرلوسكوني. فخلال جلسة البرلمان الأوروبي يوم 2-7-2003 انتقد مارتن شولتز سياسة بيرلوسكوني التي لا يفرق فيها بين منصبه السياسي وشخصيته بصفته مليارديرا، كما انتقد بعض تصريحات الزعيم الإيطالي المعادية للأجانب، وانتقد سياسته تجاه الأوساط الإعلامية. ورد بيرلوسكوني بالإيطالية أنه يقترح عليه أن يصبح «كابوش» في معسكر نازي للاعتقال. والـ«كابوش» هو السجين السياسي الذي يتعاون مع قيادة المعسكر النازي ضد مصلحة رفاقه. وبعد ذلك وصف بيرلوسكوني رده أمام الصحافة بأنه جاء على سبيل «نكتة»، وأنه ربط فقط بين اسم شولتز واسم هانز جورج شولتز، حارس معسكر الاعتقال النازي في المسلسل التلفزيوني الشهير «قفص يغص بالأبطال».
من ناحية أخرى، أثار شولتز حقد الأوساط اليمينية المتعصبة في إسرائيل، وتلقى تهمة العداء للسامية بهدوء، بسبب خطبة له أمام الكنيست الإسرائيلي باعتباره رئيس البرلمان الأوروبي؛ إذ قال شولتز أمام الكنيست يوم 12-2-2014 إن أكثر ما أثار عطفه هو سؤال وجهه إليه شاب فلسطيني يسأل: لماذا يتمتع الإسرائيلي بـ70 لترًا من الماء يوميًا، بينما لا يحصل الفلسطيني إلا على 17 لترًا من الماء يوميًا؟
* المعركة في الداخل
ولكن يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فاجأ مارتن شولتز الإعلام الأوروبي حينما أعلن استقالته فجأة من موقعه قائلا إنه يودّ التفرغ للعمل في البرلمان الألماني (لبوندستاغ)، وأن يرشح ضمن قائمة الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا.
وجرى ذلك بعد اتفاق التحالف الحكومي، بين الاشتراكيين والمحافظين ببرلين، على ترشيح وزير الخارجية الاشتراكي فرانك - فالتر شتاينماير لمنصب رئيس الجمهورية خلفًا للرئيس المستقل يواخيم غاوك. وتوقع الجميع حينها أن يرشح الاشتراكيون شولتز لموقع وزير الخارجية، أو لمنافسة المستشارة ميركل على مكتبها الواقع على نهر الشبري ببرلين.
وحسم الحزب الديمقراطي الاشتراكي الأمر بعد فترة قصيرة من إعلان ميركل ترشيح نفسها مجددًا. وقرّر الحزب في اجتماع للجنته المركزية أن يتولى شولتز قيادة الحزب محل زيغمار غابرييل (وزير الاقتصاد)، وأن يصار إلى ترشيح شولتز رسميًا لموقع المستشارية.
واستقبل المحافظون، أي الديمقراطيين المسيحيين، في البداية ترشيح شولتز بشيء من قلة الاكتراث، إلا أن انقلاب موازين استطلاعات الرأي بعد أسبوعين فقط من ترشيحه لصالح الاشتراكيين، أخذ يثير القلق في صفوفهم. ودفعت الحالة قيادتي الحزب (الاتحاد) الديمقراطي المسيحي، والاتحاد الاجتماعي المسيحي (الشقيق البافاري للديمقراطيين المسيحيين)، إلى عقد اجتماع خاص اتفق خلاله الحزبان اليمينيان الشقيقان على ترشح ميركل، وتأجيل الخلافات الحادة بينهما حول سياسة اللاجئين إلى أجل غير مسمى. وعلّق هورست زيهوفر، زعيم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، على قرارات الاجتماع بالقول إنها اتخذت لمواجهة «خصم قوي». وهكذا أصبح الاشتراكي «القوي» شولتز سببا مهمًا في توحيد صفوف المحافظين المسيحيين بعدما بلغت الخلافات بينهما حد تهديد زيهوفر بترشيح نفسه، لأول مرة في تاريخ التحالف المسيحي، ضد ميركل على موقع المستشارية.
أيضا، يبدو أن «صدمة شولتز» بين المسيحيين كانت قوية؛ لأنهم، خلافًا لتقاليدهم المعروفة منذ عقود، صاروا يخرجون عن طورهم في التصريحات؛ إذ تحدث وزير المالية فولفغانغ شويبله، رجل الحزب الديمقراطي المسيحي القوي، خلال مقابلة تلفزيونية عن أوجه شبه بين شولتز والرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب. واتهم شويبله غريم حزبه شولتز بـ«الشعبوية». كذلك تحدث بعض النواب المسيحيين عن المرشح الاشتراكي بسلبية، مشيرين إلى أنه لا يحمل حتى شهادة الإعدادية، وهو ما حفز ردود البعض عليهم بالقول إن بين أولئك الذين لم يحصلوا على شهادة الإعدادية في ألمانيا يمتد رئيس الجمهورية الأسبق فالتر شيل ووزير الخارجية الأسبق يوشكا فيشر. وقبل أسبوع أعدت الكتلة المسيحية في البرلمان الألماني قائمة من 9 صفحات يفترض أنها تعدد أخطاء مارتن شولتز أثناء قيادته البرلمان الأوروبي. وتتهم الورقة شولتز باستخدام نفوذه الأوروبي لتعيين بعض أصدقائه وزيادة مرتباتهم. كما تتهمه بارتكاب أخطاء «شعبوية» في تصريحاته مثل مطالبته بالعدالة للجميع في المجتمع بادعاء أن الفجوة بين الفقراء والأغنياء في ألمانيا تتسع. وغدا واضحًا معها أن الحزب الديمقراطي المسيحي يحاول النيل من شعبية شولتز بأساليب غير معهودة. لذا؛ حذر الاشتراكيون من «أمركة» الانتخابات الألمانية على طريقة التراشق بالتهم والفضائح الأميركية. ورد أندرياس شوير، أحد قادة الحزب الديمقراطي المسيحي، على تهمة «تلويث سمعة شولتز» بالقول: «ليس هناك أي تلويث سمعة، وعلى الحزب الاشتراكي أن يتحمل؛ لأن الحقيقة مؤلمة». وتساءل بيتر تاوبر، سكرتير الحزب الديمقراطي المسيحي «لماذا يغضب شولتز؟ إنه فعلاً كما وصفه شويبله». أما ميركل، كعادتها، أحجمت عن الخوض في هذه المناوشات، مع الإشارة إلى أن التحالف مع الاشتراكيين باق حتى سبتمبر (أيلول) المقبل. وفي حين أن المستشارة لم توجه شخصيًا أي تهمة إلى منافسها، فإنها لم تردع قادة حزبها عن مواصلة الحملة ضد شولتز.
* اتجاهات استطلاعات الرأي
في المقابل، ينهمك شولتز في الحملة الانتخابية في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا دعمًا لتحالف الاشتراكيين - الخضر الحاكم فيها. ويعوّل الاشتراكيون كثيرًا على نسبة إقبال ناخبي حزبهم في هذه الولاية الغزيرة بالسكان. وحقًا، قفزت نسبة تأييد الحزب الاشتراكي في استطلاعات الرأي، بعد ترشيح شولتز، من 22 في المائة إلى 28 في المائة بعد أسبوعين فقط. وأظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن شولتز يتفوق على ميركل في شعبيته، وصوّتت نسبة 54 في المائة إلى جانبه مقابل 39 في المائة لميركل. إلا أن الشعبية ليست كل شيء في الانتخابات الألمانية، كما هو معروف؛ لأن المستشار ينتخبه البرلمان الألماني من قبل الأغلبية التي تشكل التحالف الحاكم المقبل.
وبعد «البارومتر السياسي» الذي تبثه القناة الثانية في التلفزيون الألماني (زي دي إف)، واستطلاع الرأي الذي أجراه معهد «أمنيد»، وكشفا ارتفاع نسبة الاشتراكيين إلى 29 في المائة، كشفت آخر استطلاعات الرأي عن أن الحزب الاشتراكي تجاوز الديمقراطيين المسيحيين وحلفاءهم. كذلك، نشرت صحيفة «بيلد»، الواسعة الانتشار، استطلاعًا للرأي أجراه معهد «إينزا» يقول بأن شعبية الديمقراطيين الاشتراكيين تتجاوز الآن شعبية الديمقراطيين المسيحيين. ونال الاشتراكيون على أساس هذا الاستطلاع نسبة 31 في المائة مقابل 30 في المائة للمسيحيين. وهذه أفضل نسبة يحققها الاشتراكيون في ألمانيا منذ أربع سنوات في استطلاعات الرأي. هذا، بينما خسر المسيحيون أربع نقاط أخرى بعدما سجلوا قبل أسبوعين 35 في المائة.
المهم أيضًا أن نسبة عالية من «غير الناخبين» صارت تميل للتصويت إلى شولتز وضد ميركل. و«ير الناخبين» هم الناخبون غير الملتزمين حزبيًا الذين لم يقرّروا بعد لمن سيعطون أصواتهم في الانتخابات، وينتظرون انفراج الأمور إلى ما قبل موعد الانتخابات بقليل كي يقرروا. وكانت نسبة «غير الناخبين» في انتخابات 2013 أقل بقليل من 30 في المائة، وهي نسبة عالية تعمل الأحزاب المتنافسة على كسب أصواتها بكل قوة. وكشف استطلاع «إينزا» أن نسبة عالية من الشباب ستصوت لشولتز أيضا، وربما أن هذه هو سبب مطالبة بعض النواب الاشتراكيين بخفض سن الناخبين إلى 16 سنة.
هذا، ومنح الاستطلاع، الذي شمل 2400 شخصًا من مختلف الأعمار والمشارب، 10 في المائة إلى حزب اليسار و7 في المائة إلى حزب الخضر، ونسبة 12 في المائة إلى «حزب البديل لألمانيا» (اليميني المتطرف) و5 في المائة للحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي الوسطي). وهذا سيعزز احتمال تحالف «الاشتراكيين» و«الخضر» و«اليسار» (48 في المائة) على حساب احتمال التحالف التقليدي بين الديمقراطيين المسيحيين وليبراليي الديمقراطيين الأحرار (35 في المائة معًا). وطبيعي، لا يود أي من الأحزاب المذكورة التحالف مع «حزب البديل» الشعبوي المتطرف.
والمشكلة هنا هي أن التحالف المسيحي يرفع أيضًا شعار ضد تحالف «الحمر – الحمر – الخضر» بهدف تخويف جمهور الناخبين من شيوعيي ألمانيا الشرقية في حزب اليسار، إلا أن مارتن شولتز نفسه لم يستبعد التحالف مع حزب اليسار من أجندته.
وعليه، ليس غريبًا إذن لأن ينال شولتز لقب «الجوكر» بسبب تاريخه الكروي القديم؛ لأن «الجوكر» في كرة القدم هو اللاعب الذي يجري إنزاله إلى الملعب بمثابة الورقة الأخيرة (مهاجم اللحظة الأخيرة)، التي يلعبها المدرب في آخر دقائق المباراة... لكي يحسم النتيجة لصالح فريقه.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.