مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا

الظهير «الاشتراكي» الأيسر في المباراة ضد خط الوسط «المحافظ»

مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا
TT

مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا

مارتن شولتز... منافس ميركل على المستشارية في ألمانيا

بدأ مارتن شولتز، المرشح الاشتراكي لمنصب المستشارية في ألمانيا بالضد من المستشارة الألمانية المحافظة أنغيلا ميركل، حياته الشبابية لاعب كرة قدم، ولعب حينها ظهيرًا أيسر في فريق نادي رينانيا فورزيلين 05، واحتل مع فريقه المركز الثاني في بطولات الشباب بألمانيا الغربية آنذاك. ومع أن أحدًا في الحزب الديمقراطي الاشتراكي (الاجتماعي) لا يستطيع وصف شولتز بالـ«يساري»، فإن الحزب في حاجة ماسة حاليًا إلى «ظهير أيسر» ينتشل الاشتراكيين من نسبة تأييد دون الـ20 في المائة التي تهددهم في استطلاعات الرأي، ويعزز الهجمات من جهة اليسار ضد وسط الاتحاد المسيحي الذي يتخذ من سياسة «الوسط» شعارًا لكسب الناخبين. ويعتقد الاشتراكيون أن عزوف الناخبين عنهم يعود إلى التحالف الكبير مع المسيحيين، ويرون على هذا الأساس ضرورة رسم سياسة جديدة على يسار ميركل، ستعيد إليهم شعبيتهم الضائعة.

وصف مارتن شولتز مرة شغفه بلعبة كرة القدم بالقول إن «إنجيله» في السابق كان مجلة «كيكرز»، وأن مثله الأعلى كان فولغانغ أوفيرات. ومجلة «كيكرز» هي أشهر المجلات الرياضية الألمانية التي تهتم بكرة القدم، أما أوفيرات فهو لاعب الوسط في منتخب ألمانيا لكرة القدم في عقد السبعينات من القرن الماضي، وكابتن فريق 1 إف. سي. كولون السابق ورئيس النادي السابق. ولقد حاز أوفيرات كأس العالم لكرة القدم عام 1974، على حساب هولندا، إلى جانب رفاقه النجوم العالميين فرانز بيكنباور وغيرد موللر وسيب ماير وغيرهم.
ومعروف عن شولتز أنه من كبار مشجعي فريق نادي 1 إف. سي. كولن؛ لأنه ولد في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا، وعاش طوال عمره فيها، تحديدًا في مدينة فورزيلين القريبة من كولون. وتقع فورزيلين قرب مدينة آخن الحدودية، عند «المثلث» الألماني البلجيكي الهولندي، وربما كان هذا العامل السبب في إتقانه اللغتين الهولندية والفرنسية، إلى جانب اللغات الإيطالية والإنجليزية والإسبانية.
شولتز يتمتع بشعبية كبيرة في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا المزدحمة بالسكان (نحو20 مليونا)، ويعتقد زعماء الحزب الديمقراطي الاشتراكي أن تحقيقه نسبة عالية من الأصوات في هذه الولاية ربما يرجّح كفته على المستشارة أنغيلا ميركل.
* النشأة والمسيرة
ولد مارتن شولتز في إيشفايلر يوم 20 ديسمبر (كانون الأول) 1955 لعائلة لها خمسة أطفال. ويوصف شولتز بأنه مولود «غروكو»، مع أنه ينبغي عليه الآن أن يضع حدًا للـ«غروكو» وأن يعيد الاشتراكيين إلى منصة الحكم. وللعلم، فالـ«غروكو» هو المختصر الذي استخدمته الصحافة الألمانية لوصف التحالف الكبير بين الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي (غروسه كوالاتسيون). ونال التعبير لقب أفضل مفردة ابتكرت في عالم الصحافة بألمانيا عام 2015. والحقيقة أن علاقة شولتز بـ«الغروكو» تعود إلى أنه ولد في عائلة مختلطة الولاء السياسي؛ إذ كان أبوه ألبرت ضابطًا في الشرطة ومن نشطاء الحزب الديمقراطي الاشتراكي، في حين كانت أمه كلارا ربة بيت ومن نشطاء الحزب الديمقراطي المسيحي. وفي هذه البيئة «التحالفية» شق مارتن طريقه إلى منظمة الشبيبة الاشتراكية، وبنى من خلالها تاريخه في الحزب.
ولقد درس مارتن الصغير في فورزيلين بمدرسة إعدادية كاثوليكية، بيد أن عشقه كرة القدم كان يعرقل استمراره الدراسي. وبعد فشله سنتين متتاليتين وهو في الصف الحادي عشر، غادر المدرسة كي يحترف كرة القدم، لكن إصابة في الركبة أرسلته إلى التقاعد في سن مبكرة عام 1975، وكانت هذه الإصابة أيضا سبب إعفائه من الخدمة العسكرية أيضًا.
ويعترف شولتز في أكثر من مقابلة بأنه تحوّل إلى مدمن كحول بعد «تقاعده» الرياضي وهو شاب في العشرين من عمره. ويتابع القول «ليس لدي ما أخفيه»، ويؤكد أنه شرب كل ما وقعت عليه يده في تلك الفترة، وخصوصًا بين عامي 1975 – 1980، غير أن امتنع عن الشرب تمامًا، وحتى الآن، منذ 1980، وكان في هذه الأثناء قد بلغ لجنة الحزب القيادية في منطقة فورزيلين.
وأنهى الظهير الأيسر المقعد بين 1975 - 1977 دورة تأهيل مهني في مجال الكتب والمكتبات، وعمل لمدة خمس سنوات في مكتبات ومحال عدة لبيع الكتب، قبل أن يؤسس دارًا صغيرة للنشر في فورزيلين بالاشتراك مع شقيقته دوريس.
ومع أن شولتز لم يكن قد «شفي» بعد من إدمانه، انتخب في السبعينات في مجلس مدينة فورزيلين، ثم أصبح عمدة المدينة بين1987 واحتفظ بالمنصب حتى 1998. وهكذا أصبح بعمر 31 سنة أصغر عمدة لمدينة ألمانية منذ الحرب العالمية الثانية. وبعدها انتخب عضوًا في البرلمان الأوروبي عن اللائحة الاشتراكية بين 1994 و2017، وتولّى رئاسة البرلمان الأوروبي بين 2012 - 2017.
* مواقف لافتة شهيرة
ولعل من أشهر مواقف مارتن شولتز في البرلمان الأوروبي تبادله الاتهامات في جلسة برلمانية مع رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق اليميني سيلفيو بيرلوسكوني. فخلال جلسة البرلمان الأوروبي يوم 2-7-2003 انتقد مارتن شولتز سياسة بيرلوسكوني التي لا يفرق فيها بين منصبه السياسي وشخصيته بصفته مليارديرا، كما انتقد بعض تصريحات الزعيم الإيطالي المعادية للأجانب، وانتقد سياسته تجاه الأوساط الإعلامية. ورد بيرلوسكوني بالإيطالية أنه يقترح عليه أن يصبح «كابوش» في معسكر نازي للاعتقال. والـ«كابوش» هو السجين السياسي الذي يتعاون مع قيادة المعسكر النازي ضد مصلحة رفاقه. وبعد ذلك وصف بيرلوسكوني رده أمام الصحافة بأنه جاء على سبيل «نكتة»، وأنه ربط فقط بين اسم شولتز واسم هانز جورج شولتز، حارس معسكر الاعتقال النازي في المسلسل التلفزيوني الشهير «قفص يغص بالأبطال».
من ناحية أخرى، أثار شولتز حقد الأوساط اليمينية المتعصبة في إسرائيل، وتلقى تهمة العداء للسامية بهدوء، بسبب خطبة له أمام الكنيست الإسرائيلي باعتباره رئيس البرلمان الأوروبي؛ إذ قال شولتز أمام الكنيست يوم 12-2-2014 إن أكثر ما أثار عطفه هو سؤال وجهه إليه شاب فلسطيني يسأل: لماذا يتمتع الإسرائيلي بـ70 لترًا من الماء يوميًا، بينما لا يحصل الفلسطيني إلا على 17 لترًا من الماء يوميًا؟
* المعركة في الداخل
ولكن يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فاجأ مارتن شولتز الإعلام الأوروبي حينما أعلن استقالته فجأة من موقعه قائلا إنه يودّ التفرغ للعمل في البرلمان الألماني (لبوندستاغ)، وأن يرشح ضمن قائمة الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا.
وجرى ذلك بعد اتفاق التحالف الحكومي، بين الاشتراكيين والمحافظين ببرلين، على ترشيح وزير الخارجية الاشتراكي فرانك - فالتر شتاينماير لمنصب رئيس الجمهورية خلفًا للرئيس المستقل يواخيم غاوك. وتوقع الجميع حينها أن يرشح الاشتراكيون شولتز لموقع وزير الخارجية، أو لمنافسة المستشارة ميركل على مكتبها الواقع على نهر الشبري ببرلين.
وحسم الحزب الديمقراطي الاشتراكي الأمر بعد فترة قصيرة من إعلان ميركل ترشيح نفسها مجددًا. وقرّر الحزب في اجتماع للجنته المركزية أن يتولى شولتز قيادة الحزب محل زيغمار غابرييل (وزير الاقتصاد)، وأن يصار إلى ترشيح شولتز رسميًا لموقع المستشارية.
واستقبل المحافظون، أي الديمقراطيين المسيحيين، في البداية ترشيح شولتز بشيء من قلة الاكتراث، إلا أن انقلاب موازين استطلاعات الرأي بعد أسبوعين فقط من ترشيحه لصالح الاشتراكيين، أخذ يثير القلق في صفوفهم. ودفعت الحالة قيادتي الحزب (الاتحاد) الديمقراطي المسيحي، والاتحاد الاجتماعي المسيحي (الشقيق البافاري للديمقراطيين المسيحيين)، إلى عقد اجتماع خاص اتفق خلاله الحزبان اليمينيان الشقيقان على ترشح ميركل، وتأجيل الخلافات الحادة بينهما حول سياسة اللاجئين إلى أجل غير مسمى. وعلّق هورست زيهوفر، زعيم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، على قرارات الاجتماع بالقول إنها اتخذت لمواجهة «خصم قوي». وهكذا أصبح الاشتراكي «القوي» شولتز سببا مهمًا في توحيد صفوف المحافظين المسيحيين بعدما بلغت الخلافات بينهما حد تهديد زيهوفر بترشيح نفسه، لأول مرة في تاريخ التحالف المسيحي، ضد ميركل على موقع المستشارية.
أيضا، يبدو أن «صدمة شولتز» بين المسيحيين كانت قوية؛ لأنهم، خلافًا لتقاليدهم المعروفة منذ عقود، صاروا يخرجون عن طورهم في التصريحات؛ إذ تحدث وزير المالية فولفغانغ شويبله، رجل الحزب الديمقراطي المسيحي القوي، خلال مقابلة تلفزيونية عن أوجه شبه بين شولتز والرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب. واتهم شويبله غريم حزبه شولتز بـ«الشعبوية». كذلك تحدث بعض النواب المسيحيين عن المرشح الاشتراكي بسلبية، مشيرين إلى أنه لا يحمل حتى شهادة الإعدادية، وهو ما حفز ردود البعض عليهم بالقول إن بين أولئك الذين لم يحصلوا على شهادة الإعدادية في ألمانيا يمتد رئيس الجمهورية الأسبق فالتر شيل ووزير الخارجية الأسبق يوشكا فيشر. وقبل أسبوع أعدت الكتلة المسيحية في البرلمان الألماني قائمة من 9 صفحات يفترض أنها تعدد أخطاء مارتن شولتز أثناء قيادته البرلمان الأوروبي. وتتهم الورقة شولتز باستخدام نفوذه الأوروبي لتعيين بعض أصدقائه وزيادة مرتباتهم. كما تتهمه بارتكاب أخطاء «شعبوية» في تصريحاته مثل مطالبته بالعدالة للجميع في المجتمع بادعاء أن الفجوة بين الفقراء والأغنياء في ألمانيا تتسع. وغدا واضحًا معها أن الحزب الديمقراطي المسيحي يحاول النيل من شعبية شولتز بأساليب غير معهودة. لذا؛ حذر الاشتراكيون من «أمركة» الانتخابات الألمانية على طريقة التراشق بالتهم والفضائح الأميركية. ورد أندرياس شوير، أحد قادة الحزب الديمقراطي المسيحي، على تهمة «تلويث سمعة شولتز» بالقول: «ليس هناك أي تلويث سمعة، وعلى الحزب الاشتراكي أن يتحمل؛ لأن الحقيقة مؤلمة». وتساءل بيتر تاوبر، سكرتير الحزب الديمقراطي المسيحي «لماذا يغضب شولتز؟ إنه فعلاً كما وصفه شويبله». أما ميركل، كعادتها، أحجمت عن الخوض في هذه المناوشات، مع الإشارة إلى أن التحالف مع الاشتراكيين باق حتى سبتمبر (أيلول) المقبل. وفي حين أن المستشارة لم توجه شخصيًا أي تهمة إلى منافسها، فإنها لم تردع قادة حزبها عن مواصلة الحملة ضد شولتز.
* اتجاهات استطلاعات الرأي
في المقابل، ينهمك شولتز في الحملة الانتخابية في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا دعمًا لتحالف الاشتراكيين - الخضر الحاكم فيها. ويعوّل الاشتراكيون كثيرًا على نسبة إقبال ناخبي حزبهم في هذه الولاية الغزيرة بالسكان. وحقًا، قفزت نسبة تأييد الحزب الاشتراكي في استطلاعات الرأي، بعد ترشيح شولتز، من 22 في المائة إلى 28 في المائة بعد أسبوعين فقط. وأظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن شولتز يتفوق على ميركل في شعبيته، وصوّتت نسبة 54 في المائة إلى جانبه مقابل 39 في المائة لميركل. إلا أن الشعبية ليست كل شيء في الانتخابات الألمانية، كما هو معروف؛ لأن المستشار ينتخبه البرلمان الألماني من قبل الأغلبية التي تشكل التحالف الحاكم المقبل.
وبعد «البارومتر السياسي» الذي تبثه القناة الثانية في التلفزيون الألماني (زي دي إف)، واستطلاع الرأي الذي أجراه معهد «أمنيد»، وكشفا ارتفاع نسبة الاشتراكيين إلى 29 في المائة، كشفت آخر استطلاعات الرأي عن أن الحزب الاشتراكي تجاوز الديمقراطيين المسيحيين وحلفاءهم. كذلك، نشرت صحيفة «بيلد»، الواسعة الانتشار، استطلاعًا للرأي أجراه معهد «إينزا» يقول بأن شعبية الديمقراطيين الاشتراكيين تتجاوز الآن شعبية الديمقراطيين المسيحيين. ونال الاشتراكيون على أساس هذا الاستطلاع نسبة 31 في المائة مقابل 30 في المائة للمسيحيين. وهذه أفضل نسبة يحققها الاشتراكيون في ألمانيا منذ أربع سنوات في استطلاعات الرأي. هذا، بينما خسر المسيحيون أربع نقاط أخرى بعدما سجلوا قبل أسبوعين 35 في المائة.
المهم أيضًا أن نسبة عالية من «غير الناخبين» صارت تميل للتصويت إلى شولتز وضد ميركل. و«ير الناخبين» هم الناخبون غير الملتزمين حزبيًا الذين لم يقرّروا بعد لمن سيعطون أصواتهم في الانتخابات، وينتظرون انفراج الأمور إلى ما قبل موعد الانتخابات بقليل كي يقرروا. وكانت نسبة «غير الناخبين» في انتخابات 2013 أقل بقليل من 30 في المائة، وهي نسبة عالية تعمل الأحزاب المتنافسة على كسب أصواتها بكل قوة. وكشف استطلاع «إينزا» أن نسبة عالية من الشباب ستصوت لشولتز أيضا، وربما أن هذه هو سبب مطالبة بعض النواب الاشتراكيين بخفض سن الناخبين إلى 16 سنة.
هذا، ومنح الاستطلاع، الذي شمل 2400 شخصًا من مختلف الأعمار والمشارب، 10 في المائة إلى حزب اليسار و7 في المائة إلى حزب الخضر، ونسبة 12 في المائة إلى «حزب البديل لألمانيا» (اليميني المتطرف) و5 في المائة للحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي الوسطي). وهذا سيعزز احتمال تحالف «الاشتراكيين» و«الخضر» و«اليسار» (48 في المائة) على حساب احتمال التحالف التقليدي بين الديمقراطيين المسيحيين وليبراليي الديمقراطيين الأحرار (35 في المائة معًا). وطبيعي، لا يود أي من الأحزاب المذكورة التحالف مع «حزب البديل» الشعبوي المتطرف.
والمشكلة هنا هي أن التحالف المسيحي يرفع أيضًا شعار ضد تحالف «الحمر – الحمر – الخضر» بهدف تخويف جمهور الناخبين من شيوعيي ألمانيا الشرقية في حزب اليسار، إلا أن مارتن شولتز نفسه لم يستبعد التحالف مع حزب اليسار من أجندته.
وعليه، ليس غريبًا إذن لأن ينال شولتز لقب «الجوكر» بسبب تاريخه الكروي القديم؛ لأن «الجوكر» في كرة القدم هو اللاعب الذي يجري إنزاله إلى الملعب بمثابة الورقة الأخيرة (مهاجم اللحظة الأخيرة)، التي يلعبها المدرب في آخر دقائق المباراة... لكي يحسم النتيجة لصالح فريقه.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.