مدينة عارية في فضاء مغلق على الخسارات

تنتهي رواية «جريمة في رام الله» للفلسطيني عباد يحيى (منشورات المتوسط، ميلانو 2017، 237 صفحة من القطع المتوسط)، بانتحار وسام، بطل ثالث حكاياتها، بعد مقتل صديقته بطريقة غامضة. فيما تنتهي الحكاية الأكبر، التي تشكل قلب الرواية وترفع حمولتها السردية، بوصول أحد بطليها الرئيسيين، نور، واسمه الحقيقي صهيب، إلى باريس، وارتمائه في أحضان صديقه الأجنبي آرنو بريير، الذي وعده بوضع كتاب يتناول سيرته الحياتية، أو عمل فيلم يروي الحكاية التي اضطرته إلى الهرب من رام الله في الضفة الغربية، لأن «إشاعات الناس في البلد وأقاويلهم واتهاماتهم، كذب صغار الصحافيين ونمائم الإذاعات المحلية، وبيانات الشرطة وتحقيقاتها، أفدح بكثير من الحقيقة». كما يرد في الصفحة 225 من الرواية.
تنقسم الرواية التي أثارت ضجة ولغطا كبيرين، وفوضى تقدير وتقييم، بعد قرار النائب العام الفلسطيني منعها ومصادرة ما وزع منها على المكتبات، واستدعاء مؤلفها وناشرها، إلى ثلاثة أجزاء:
الأول، ويحمل عنوان رؤوف (52 صفحة)، ويتضمن 12 مقطعًا:
يقدم هذا القسم، حكاية الطالب الجامعي رؤوف - أكثر شخصيات العمل إقناعا - الذي يتناول سيرة عائلته الفلاحية، وخلفيته الاجتماعية، وحكاية الفتاة دنيا التي تدخل عالمه، من لمسة يد لكتفه حين تعطيه أجرة سيارة تاكسي أقلتهما، ليناولها بدوره للسائق.
من بريق اليد الأنثوية وسخونة مشاعر مراهق، تنطلق مخيلة رؤوف لترسم علاقة وهمية في فضاء واسع، يقع بين السراب والأمل، الوهم والحقيقة، واختبار المشاعر الأولية للتجربة الأولى، التي تمهد لمرحلة من محاولات اكتشاف الجسد والميول الجنسية. وفيه يروي رؤوف بشيء من التفصيل، في مونولوج داخلي استرجاعي يشبه العزف المضطرب، علاقته بجسده في مراحل البلوغ والشباب، وتورطه لاحقا، في علاقة جنسية مع الشاب نور. يعاني رؤوف من ضياعه في ضياع دنيا «تختفي دنيا ليحل محلها اختفاؤها» (ص42)، و«كأنها صارت خيالا لأواجه الحياة» (ص66)، ومن يأس وإحباط وعزلة وابتعاد، وغرق في عبث تفقد فيه الأشياء قيمتها ومعانيها.
الثاني، وعنوانه نور (57 صفحة) 8 مقاطع:
في هذا القسم من العمل، نقرأ الوجه الآخر للعلاقة بين الشابين رؤوف ونور، بلغة بسيطة شفيفة وحميمة، ترفع سردا ذاتيا يضفي مصداقية على النص تقربه كثيرا من الحقيقة. في هذا الجزء، نتعرف على شخصية نور، التي تبرز كثاني أفضل شخصيات العمل، من حيث وضوح سماتها ودواخلها، وانسجام تصرفاتها مع طبيعة شاب مثلي في مجتمع محافظ.
الثالث، وهو بعنوان وسام (74) صفحة، 13 مقطعا:
يستخدم الكاتب في هذا القسم، الضمير الثالث، متناوبا الحديث عن وسام ونور، باستثناء مقطع صغير يظهر فيه رؤوف مجددا، وتعود دنيا في شخصية مذيعة تنقل خبر جريمة وقعت في رام الله، حين تُقتل فتاة طعنا بسكين، أثناء خروجها وصديقها وسام، من بار أبي وليم في المدينة. في هذا المقطع يقدم عباد سردا موجزا لكنه بديع لعلاقة جميلة، يبلغ ذروته في تصوير ما حل بوسام فور وقوع الجريمة، في مشاهد قصيرة، وعبارات مشحونة لاهثة تخطف أنفاس وسام وأنفاس القارئ.
يتصدر كثير من مقاطع الرواية، مفتتحات إخبارية قصيرة لا تُعلن وظيفتها الفنية صراحة. ومع تقدم القراءة، يتضح أنها ترسم بإيجاز، عالما واقعيا خارج الرواية، يقدم أبرز أحداث العالم المعاش، في موازاة ما يجري في المتخيل داخل الرواية في الضفة الغربية، وكم يبدو بعيدا منه، منشغلا عنه، انشغال عالم اليوم عن المسألة الفلسطينية نفسها.
يقترب الإخباري الحقيقي من المتخيل الروائي، قبيل وقوع الجريمة مباشرة، إذ يتصدر الحادث خبر عن سقوط أكثر من مائة «شهيد» في غزة، ونصبح أمام مشهدين للموت: مشهد يرسمه الاحتلال الإسرائيلي، وآخر يكشف مسؤولية المجتمع عنه، لأسباب لا تأتي عليها الرواية مباشرة، لكننا قد نعثر عليها موزعة في ثنايا السرد، حيث الجريمة الفعلية الأكبر. إنها هناك، في بطريركية الأب والأخ وسلطة العائلة، في الفساد، في النميمة الشعبية، في الكذب والادعاء، في الانتهازية، في مآل الفصائل الفلسطينية، في قتل البنات باسم شرف العائلة وغير هذا. ثم يتوالفان: الخبر والنص المتخيل، قبيل التحقيق في الجريمة، حين تعلن الشرطة عن مقتل المواطنة ر. س (29 سنة) في شارع فرعي في حي الماصيون في رام الله.
في مجمل المقاطع السابقة، وباستثناء انتحار وسام في نهاية الرواية، ووصول نور إلى باريس، لا تصل أي من الوقائع الدرامية إلى نهاياتها: لا المحاكمات، ولا تحقيقات الشرطة في الجريمة، ولا العلاقات بين الأبطال أنفسهم، ولا بقية مصائر الشخوص، كأنما لا شيء يصل إلى نهايات واضحة في رام الله، تماما كحال الاحتلال «الموجود وغير الموجود» ولا نهاية له، والوضع السياسي الذي لا أفق له، والفساد الذي لم تظهر نتيجة واحدة لأي تحقيق فيه، والانقسام، الذي يتوحد بالانقسام، والقرارات الوطنية المتتالية التي لا تطبق، والاستيطان المفتوح على ابتلاع الأرض. ربما لا تقول الرواية ذلك، لكنه تجعلنا نفكر على الأقل.
يطرح نص عباد يحيى، ثيمات الاضطهاد، واليأس، والازدراء، والعبث، والعزلة، والتمييز، وغياب الهدف، وانعدام الجوهر في حياة الشخصيات، التي تقدم حيواتها بسرد استرجاعي (تيار الوعي)، أحيانا، ومن خلال منولوجات داخلية، أحيانا أخرى، تكشف الكثير عن معاناة تفرز نقمة على الذات وعلى المحيط.
نص جريء وغني بالانتقادات السياسية والاجتماعية اللاذعة أحيانا، للأهل الذين تحولوا «إلى كومبارس يؤدون أدوارا ثانوية جدا في حياتي» (ص 35)، حيث «كنت أعيش بلا أب فعلي، أبي البيولوجي تقاعد، وأبي الوظيفي استقال حين رزق بأبناء، وأمي انحشرت في حدود القرية. الآن أنا بأبوين وأم يريدون وصاية كاملة» (ص 59)، وللأحزاب السياسة: «حين دخل أبي التنظيم توقف عن الفلاحة، كأن النضال للدفاع عن الأرض وانتزاع الحق فيها، في إحدى محصلاته، ابتعاد عن العلاقة اليومية معها، ومن ثمّ، تحويلها من مصدر حياة إلى رصيد مجمد» (ص60 - 61)، والتحولات الاجتماعية: «لم يبق لنا من الفلاحين إلا اسمهم» (ص 61)، وكثرة النميمة الاجتماعية والوصاية الظالمة: «يجعلك الناس موضوعا للرصد والمراقبة وإطلاق الأحكام قبل أن يروا فيك شيئا آخر» (ص 110)، ودور العبادة: «مدينة مليئة بمساجد ومؤذنين أصواتهم ناشزة، تستفز أي أذن كأنها أجهزة إنذار للكوارث» (صفحة 119)، وحركة حماس: «لم يكن يسعدها شيء (زوجة شقيقه) مثل تدبير الزيجات بين شباب الحركة (حماس) وبناتها، كأنها تشتري بذلك مستقبلا للحركة، وتضمن استمرارها» (ص 121). والعمل الكفاحي اليومي: «تحولت الانتفاضة من الشارع إلى التلفاز» (ص 124).
لكن هذه الومضات الانتقادية للحال الفلسطيني، لا تتناول، في مشاهد أخرى قليلة - لحسن الحظ، الديني والمقدس، وبعض الرموز الوطنية والمنظمات السياسية، بالحس الدرامي ومن خلال تطور الحدث، أو من خلال حوار يقع في سياقه، بل من خارج الفعل، في مشاهد أُقحمت على النص وزجت به وأفسدت سياقاته. ويبدو واضحا، من خلال النص نفسه، أن الكاتب سعى إلى معادلة انتقاده الحاد لحماس، بانتقاد مواز فتح وزعامتها التاريخية ورموزها الوطنية، فلم يوفق، وتجاوز منطق الاختلاف، إلى رسم مشاهد بذيئة، كما في مشهد خروج نور من المدرسة، ومشاهدته ملصقا لأبي عمار «ببدلته العسكرية يقف فوق رشاش رصاص ثقيل» (ص 94)، حيث يقدم المؤلف - من خلال شخصية نور - قراءة للملصق- المشهد، تشكل سقطة لا يمكن الدفاع عنها، تغطي المشهد وما يتبعه بإحالات لا تخدم وظيفته.
نص «جريمة في رام الله»، جيد ومتماسك، حافظ المؤلف على مستواه الذي ميز بقية الأقسام والمقاطع، بما فيها مشاهد تبدو غريبة للبعض، أو مستهجنة، أو غير محتملة. بينما هي في صلب عمله الدرامي وتظهر قوة نسيجه، وقد صيغت بلغة سردية مقبولة تماما. وقدم الكاتب، من خلالها، صورة واقعية، لمشاعر مراهق يكتشف ميوله الجنسية ويعاني منها: «ألا يمكن لهذا الجسد أن يهدأ قليلا ويتوقف عن العبث بي؟ ألا يمكنه أن يتركني دون هذه الحيرة والقلق؟ (...) ألا يمكنه أن يهدأ ويتركني أهدأ؟ ألا يمكنني أن أتصرف بشكل طبيعي؟ أن أكون على طبيعتي؟» (ص100).
لا يخلو نص عباد يحيى من استطالات وحشو وثرثرة، ومن «محاضرة» في الطب النفسي، لا لزوم لها ولا مبرر دراميا يستدعيها، تمتد على 13 صفحة (المقطع 9 في القسم الثالث)، وكان يمكن الاستغناء عنها بالكامل.
في مقابل هذا، يتميز العمل بلغته البسيطة، والرشيقة، وسرده المتدفق، واستخدامه للعامية بنجاح في حوار الشخصيات. كلاهما، الإيجابي في هذه الرواية، وهو كثير، والسلبي وهو قليل، كان في غنى عن قرار النائب العام الفلسطيني. كان بحاجة إلى تركه للقراء والنقاد يحكمون عليه، ويتصرفون به وفقا لذائقاتهم.