الأطفال والنساء... دروع «داعش» البشرية

القتل مصير الهروب من «أرض الخلافة»

فتاة عراقية نجت بحياتها مع عائلتها في شمال الموصل حيث تعيش الآن في مخيم حسن شام (أ.ف.ب)
فتاة عراقية نجت بحياتها مع عائلتها في شمال الموصل حيث تعيش الآن في مخيم حسن شام (أ.ف.ب)
TT

الأطفال والنساء... دروع «داعش» البشرية

فتاة عراقية نجت بحياتها مع عائلتها في شمال الموصل حيث تعيش الآن في مخيم حسن شام (أ.ف.ب)
فتاة عراقية نجت بحياتها مع عائلتها في شمال الموصل حيث تعيش الآن في مخيم حسن شام (أ.ف.ب)

قال خبراء استراتيجيون أمنيون في مصر، إن القتل أصبح مصير كل من يحاول الهروب من أرض الخلافة المزعومة لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، وإن جميع عمليات الإعدام التي ينفذها التنظيم الآن وفي وقت سابق، تتم في الأماكن العامة، كنوع من التخويف وبث الفزع في من يفكر في القيام بذلك.
الخبراء أكدوا أن «داعش» يضطر كل يوم لإعدام عدد من مقاتليه الذين يحاولون الفرار من الموصل هربا من المعارك والهجمات التي يشنها الجيش العراقي، خوفا من مصير الموت المحتوم بأيدي الجنود العراقيين. لافتين إلى أن استخدام «داعش» للأطفال والنساء كدروع بشرية هو «فزاعة» من جانب تلك الفئة الضالة، ويُعد نوعا من اليأس، ودليلا على نجاح هجمات التحالف الدولي.
كلام الخبراء اتسق مع دراسة حديثة في مصر أكدت أن «التنظيم يستخدم النساء والأطفال كدروع بشرية في صد عمليات القوات العراقية وقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية»... الدراسة نفسها دعت إلى ضرورة حرمان التنظيم الإرهابي من استخدام المدنيين كدروع بشرية في أعماله الإرهابية الجبانة التي يستهدف بها إيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى والجرحى بين العراقيين.
وأفتى فواز العلي المُلقب أبو علي الشرعي القاضي الشرعي التابع لتنظيم داعش الإرهابي في مدينة الرقة، في يوليو (تموز) الماضي، بجواز قتل المقاتلين الدواعش الذين يحاولون الفرار من صفوف التنظيم، وكذلك قتل المدنيين الذين يحاولون الهرب ويعرضون حياة أعضاء «داعش» للخطر من خلال نقل معلومات.
وأجبر تنظيم داعش نساء وأطفالا وشيوخا على السير برفقة عناصر التنظيم لأيام كدروع بشرية، للتغطية على تراجعه إلى مدينة الموصل في العراق، فيما قام بفصل الصبية والرجال في سن القتال في الطريق وأخذوهم لمصير مجهول.
وبدأ تنظيم داعش الإرهابي بتصعيد وتيرة أعماله؛ لكن هذه المرة ليس لأعمال إرهابية؛ لكن ضد المدنيين الذين يحاولون الفرار، وأيضا مُقاتليه الذين يحاولون الهرب من إجبارهم على القيام بعمليات إرهابية والدخول في حرب أصبحت الآن خاسرة، خاصة مع تقدم قوات التحالف الدولي في العراق، وسيطرة النظام السوري على معظم مناطق سوريا وطرد التنظيم منه.
وقام التنظيم الإرهابي مؤخرا بقتل 20 رجلا حاولوا الهروب من غربي الموصل عبر نهر دجلة مستخدمين الزوارق من أجل الوصول إلى منطقة الرشيدية شمالي المدينة، بينما أخذ النساء والأطفال كرهائن ونقلهم إلى جهة مجهولة... فضلا عن إعدام 7 من مقاتليه حاولوا الهروب من خلال نهر دجلة؛ لكن ما منعهم من العبور كان سيطرة القوات العراقية على المجرى المائي، وهو ما دفعهم للعودة لغرب الموصل مرة أخرى، وأصدرت القيادات الميدانية المزعومة في تنظيم داعش أوامرها بإعدام الفارين رميا بالرصاص.
ويشار إلى أن «داعش» قتل مطلع فبراير (شباط) الجاري 46 شابا وصبيا في الموصل حاولوا الهروب من عمليات التجنيد القسري في صفوف التنظيم... كما رصدت تقارير أن أغلبية الشباب الذين قتلهم إرهابيو «داعش» رميا بالرصاص، كانوا قد حاولوا الهروب من عصابات التجنيد التي ينشرها التنظيم في المناطق التي ما زالت تحت سيطرته، للتعويض عن الخسائر البشرية التي يتكبدها في عناصره القتالية جراء القتال.
ويقول محللون بات الهروب مما يسمى بأرض الخلافة – المزعومة - حلما يراود آلاف المواطنين الذين ما زالوا تحت سيطرة عناصر تنظيم داعش في العراق وسوريا... وبرغم المخاطر الكبيرة التي يتعرضون إليها والتي أودت بحياة الكثير منهم؛ فإن الفرار من مناطقهم بات الشغل الشاغل لكل من تحمله قدماه على المسير لمسافات طويلة في أرض وعرة وفي ظل ظروف جوية سيئة جدا. وذكرت تقارير في وقت سابق أن عناصر «داعش» كانوا يأخذون المدنيين معهم لدى انسحابهم نحو أي مدينة... ولداعش سوابق في الاحتماء بالمدنيين من خلال اتخاذهم رهائن في مدن أخرى دافع عنها مقاتلوها.
وبحسب إحصائيات غير رسمية، نفذ تنظيم داعش حكم الإعدام في 14 عراقيا حاولوا الهرب، ونفذ عناصره 6 هجمات انتحارية في العراق، فضلا عن تنفيذ حكم الإعدام في 13 سوريا حاولوا الهرب أيضا، ونفذ ما يقارب 5 هجمات انتحارية، خلال يناير (كانون الثاني) الماضي.
وقال مراقبون إن «داعش» فرض غرامة 600 دولار لمن يريد الخروج من مناطقه في العراق، مؤكدين أن ازدياد وحشية «داعش» في القتل والإعدام وحرق المدنيين أحياء وتعذيبهم، يرجع إلى زيادة الضغوط على التنظيم، وتقليص أنشطته وانكماش بقعته في الأراضي التي يسيطر عليها في العراق وسوريا.
الخبير الأمني والاستراتيجي في مصر اللواء كمال المغربي، قال: إن تنظيم داعش الإرهابي يتعرض لهزة كبرى في الوقت الحالي، فعلى الرغم من محاولات التنظيم الحفاظ على الأراضي الواقعة تحت سيطرته حاليا؛ فإنه يضطر كل يوم لإعدام عدد من مقاتليه، الذين يحاولون الفرار من الموصل هربا من المعارك والهجمات التي يشنها الجيش العراقي، وخوفا من مصير الموت المحتوم بأيدي الجنود العراقيين، مضيفا أن «الكثير من مسلحي (داعش) بدأوا يتهربون من القتال في صفوف التنظيم، ويلجأون إلى حيل مختلفة للتخلي عنه، كالتمارض وادعاء الرغبة الكاذبة في تنفيذ عمليات انتحارية»، موضحا أن «استخدام الأطفال في الحرب وبعضهم أقل من 12 سنة مخالفة صارخة للمعاهدات والمواثيق الدولية التي تحمي حقوق الأطفال، وجريمة ضد الإنسانية»، مشيرا إلى أن استخدام الأطفال والنساء كدروع بشرية هو «فزاعة» من جانب تلك الفئة الضالة.
الدراسة المصرية أكدت أن تنظيم داعش الإرهابي حول الجانب الغربي من مدينة الموصل إلى سجن كبير لأهل المدينة، ومنع خروج الأهالي إلى الجانب الشرقي من المدينة، والذي تم تحريره على أيدي القوات العراقية وقوات التحالف، مضيفة أن التنظيم الإرهابي يستخدم الأطفال والنساء كدروع بشرية في صد عمليات القوات العراقية وقوات التحالف، كما يستخدم الكثير من الأطفال كقنابل بشرية وأجساد مفخخة لتنفيذ العمليات الإرهابية داخل مناطق سيطرة القوات العراقية، وذلك بعد أن يقوم بعمليات غسيل الأدمغة للأطفال وحديثي السن لتجنيدهم في صفوف التنظيم وإرسالهم للقيام بالعمليات الانتحارية.
وكانت المنظمة الدولية للهجرة قد أعربت عن تخوفها في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي من استخدام تنظيم داعش لعشرات الآلاف من المدنيين في مدينة الموصل العراقية كدروع بشرية للدفاع عن معقله.
من جهته، قال الخبير الأمني والاستراتيجي اللواء طلعت مسلم، إن «اتخاذ الدواعش للنساء والأطفال كدروع بشرية يعد نوعا من اليأس، ودليلا على نجاح التحالف الدولي»، مضيفا أن استخدام العزل كدروع يؤكد أنهم ليسوا بمسلمين كما يدعون، لأن الإسلام حرم تهديد حياة الأبرياء، مشيرا إلى أن ما يفعله الدواعش، فعله من قبل الحوثيون في اليمن، وجماعة «بوكو حرام» في نيجيريا عندما استخدمت الأطفال والرهائن كدروع بشرية. وأكد مسلم أن اتخاذ «داعش» للمدنيين كدروع بشرية يدل على ضعف التنظيم الإرهابي، وخسته وقلة حيلته وسلوكه غير الأخلاقي، لأنه لا يستطيع حماية نفسه؛ إلا من خلال المدنيين العزل.
الدراسة المصرية التي أعدها مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء، دعت كافة الأطراف الدولية إلى العمل على إيجاد ممرات آمنة لأهالي الموصل المحاصرين في الجانب الغربي للعبور إلى المناطق الشرقية والشمالية من المدينة، وحرمان التنظيم الإرهابي من استخدام المدنيين كدروع بشرية في أعماله الإرهابية الجبانة، التي يستهدف بها إيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى والجرحى بين العراقيين.
كما طالب اللواء مسلم، العالم بالتعامل بشدة مع تنظيم داعش الإرهابي، لأن العنف لا يواجه إلا بالقوة، وضرورة حماية المدنيين وقت الحروب وإبعادهم عن مناطق الصراع.
وتعد مشاهد الجز وقطع الرقاب لكل من خرج عن طوع التنظيم، دليلا على أن «داعش» الذي يخدع من ينضم له بعبارات كاذبة عن الإسلام والمسلمين، يُعد من أكثر التنظيمات الدموية على مر التاريخ، كما أنه الأكثر استباحة للدماء والأنفس.
وأضحى تنظيم داعش معروفا بفيديوهات قطع الرؤوس للمدنيين والعسكريين على حد سواء والذين هربوا بالفعل، أو أعلنوا عن نيتهم في الهروب... ويشار إلى أن «داعش» خلال عامه الأول من إعلان دولة الخلافة – المزعومة - في سوريا والعراق عام 2014 قطع ما يزيد عن 3 آلاف رأس من المدنيين ومن عناصره بتهمة الغلو والتجسس لصالح دول أجنبية عند محاولتهم العودة إلى بلادهم.
يقول مراقبون إن «داعش» يستخدم قطع الرؤوس لترهيب السكان المحليين في سوريا والعراق وليبيا مؤخرا، حيث أصدر سلسلة من أشرطة الفيديو الدعائية، وبث التنظيم عمليات إعدام علنية وجماعية، واحتوت بعضها على سجناء أجبروا على حفر قبورهم بأيديهم قبل إعدامهم، وكذلك أعدم عشرات المقاتلين السوريين المنتمين للمعارضة.
بينما قال الخبراء الاستراتيجيون، إن تنظيم داعش يرسل للعالم بمناظر إعدام الضحايا، رسالة بأن هذا سيكون مصير كل من يهرب من التنظيم، وكل من يخالفه في الفكر والمعتقد، مؤكدين أن التنظيم يلجأ لمشاهد قطع الرقاب نتيجة هروب الكثير من أنصاره في العراق وسوريا بسبب الخسائر والهزائم التي يتلقاها بشكل يومي على يد التحالف الدولي، ولتأكيد أنه لا يزال قويا وأوراق اللعبة في يده.
ويذكر أن الأردني أبو مصعب الزرقاوي مؤسس التنظيم في بداياته، هو أول من قام بذبح أحد الرهائن الأميركيين في العراق ويدعى يوجيين أرمسترونغ عام 2004، بحز رقبته بسكين، وقد قامت جماعة «التوحيد والجهاد» حينذاك بنشر الفيديو المصور لعملية الذبح على الإنترنت.
وسبق أن ذبح «داعش» رهينة ياباني، وسوريين وعراقيين، وعددا من الجنود اللبنانيين، بالإضافة لاثنين من الصحافيين الأميركيين، ومصريين أقباط في ليبيا.
وذكرت الدراسة المصرية ذاتها أن أفعال الدواعش باستخدام النساء والأطفال كدروع بشرية تُخالف كل القيم والمبادئ الدينية والإنسانية وما جاءت به جميع الأديان السماوية، وأن أكثر ضحايا التنظيم هم من المسلمين سكان المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق وليبيا، مما يعني أن التنظيم إنما يحمل القتل والذبح أينما وجد، مشيرة إلى أن قادة تنظيم داعش يعتقدون أن القتل بشراهة ووحشية يسهم في استقرار سيطرتهم وخضوع الناس لهم خوفا من البطش والقتل على يد عناصره المنتشرين في مختلف مناطق سيطرتهم، وذلك على الرغم من أن التراث الإسلامي على امتداده لا يوجد به ما يدعو إلى القتل وسفك الدماء أو إرهاب الناس وتخويفهم كي يذعنوا لهم ويعلنوا البيعة والولاء.
في ذات السياق، يواجه «داعش» أزمة هروب الأجانب من العراق وسوريا، نتيجة انخداعهم بشعاراته الدينية ودعايته المضللة، قبل أن يتعرفوا على حقيقة الأوضاع على أرض الواقع، وهو ما دفعهم إلى محاولة الفرار من التنظيم، والعودة إلى مجتمعاتهم التي هجروها إلى - أرض الخلافة المزعومة.
وقال اللواء كمال المغربي إن «تزايد نشر أخبار التنظيم والمقاطع المُصورة لتنفيذ أحكام الإعدام لعناصره الهاربة من المعارك، هو ودليل واضح على ضعف الانسجام بين عناصره والإنهاك الذي أصاب التنظيم خلال الفترة الأخيرة بسبب قوات التحالف الدولي»، لافتا إلى أن «التحدي الأكبر للتنظيم الإرهابي في الفترة القادمة سيكون محاولة الحفاظ على تماسك التنظيم وترابط أعضائه ومنع انتشار عدوى الهروب من التنظيم إلى أطرافه ومختلف مناطقه». الخبراء قالوا أيضا إن «داعش» يحاول الحد من هذه الانشقاقات عن طريق مُصادرة جوازات سفر المنتسبين إليه ليضمن عدم هروبهم من التنظيم، فضلا عن إعدام مقاتليه الذين حاولوا الفرار من مواجهة القوات العراقية بتهمة الخيانة العظمى والسعي للانشقاق عن التنظيم.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.