«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين الدولي ‪ «دجانغو» حكاية عازف بارع فرَّ من الاضطهاد النازي:(‬2‪)

رضا كاتب يعزف ويمثل «دجانغو»  ({الشرق الأوسط}) ... ومع الممثلة سيسيل دوفرانس - في الوسط المنتجة التونسية درة بوشوشة
رضا كاتب يعزف ويمثل «دجانغو» ({الشرق الأوسط}) ... ومع الممثلة سيسيل دوفرانس - في الوسط المنتجة التونسية درة بوشوشة
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين الدولي ‪ «دجانغو» حكاية عازف بارع فرَّ من الاضطهاد النازي:(‬2‪)

رضا كاتب يعزف ويمثل «دجانغو»  ({الشرق الأوسط}) ... ومع الممثلة سيسيل دوفرانس - في الوسط المنتجة التونسية درة بوشوشة
رضا كاتب يعزف ويمثل «دجانغو» ({الشرق الأوسط}) ... ومع الممثلة سيسيل دوفرانس - في الوسط المنتجة التونسية درة بوشوشة

التصفيق اختلف بين صالتين تضمان معًا نحو 4500 مقعد. الأولى والأكبر، «سينماكس 7» حفلت بالصحافيين والنقاد والإعلاميين الذين احتشدوا لمشاهدة فيلم الافتتاح «دجانغو» في الساعة الثالثة بعد الظهر.
الثانية، وهي كبيرة بدورها، هي «برلينالي بالاست» وهي صالة المهرجان الرسمية التي تم تخصيصها للمدعوين والضيوف.
في نهاية ساعتين إلا بضع دقائق من العرض في الصالة الأولى، شهد الفيلم تصفيقًا غير حار أقرب إلى الفاتر. في الثانية، وحسب شهود عيان، شهد تصفيقًا كبيرًا وحماسيا. لكن في الصالتين لم يخرج إلا بضعة أفراد من العرض، وهذا بدوره علامة استحسان.
هذا هو ثاني افتتاح بفيلم موسيقي في مهرجان من وزن برلين خلال الأشهر الستة الماضية. سبقه مهرجان فينيسيا إلى ذلك بفيلم «لا لا لاند» الذي أصبح حديث الساعة، والفيلم الأكثر احتمالاً للفوز بـالـ«بافتا» والأوسكار القريبين. كلاهما: «دجانغو» و«لا لا لاند» يحتفلان بموسيقى الجاز في صلب حكايتهما. وكان مهرجان «كان» افتتح بفيلم وودي ألن «كافيه سوسيتي» الذي لا يدور عن الموسيقى، لكنه، بصفته عددا آخر من أفلام المخرج، يقدم مقطوعات جاز (بيضاء غالبًا وبعضها تم تسجيله بعد الفترة التي تقع فيها أحداث الفيلم).
كذلك، هو ثاني فيلم فرنسي عن شخصية موسيقية بعد فيلم «داليدا» لليزا أزيولوس الذي لم يتح له عرض عالمي في مهرجان من فئة هذه المهرجانات الثلاث (شهد عرضه العالمي الأول في مهرجان باريس في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي).
* أصابع الممثل ذاته
«دجانغو»، كما سبق لنا وذكرنا يوم أمس، هو فيلم فرنسي عن العازف والملحن الغجري دجانغو رينارت (ألمانيا تلفظ الكلمة راينهارت مخففة) الذي ولد في بلجيكا سنة 1910، وتوفي سنة 1953 عن عمر لا يتجاوز الثالثة والأربعين. وهو من إخراج إيتيان كومار الذي عمل في الإنتاج سابقًا ومن بين أعماله في ذلك الحقل «عن الله والرجال» لإكزافيه بيوفوا (2010) و«تومبكتو» لعثمان سمبان (2013).
لم يقف كومار وراء الكاميرا مخرجًا من قبل، كذلك لم يتم صنع فيلم عن دجانغو سابقًا ما يجعل الفيلم احتفاء مزدوجًا واحد لتمهيد لمخرج يعرف أدواته ولديه عين على السرد الجيد، وأخرى على أجواء ومحيط وبيئة الأحداث، والآخر للحديث عن العازف الذي مر بظروف صعبة عندما احتل الألمان باريس وأخذوا يمحصون التواجد غير الأبيض الناقي ويقودونهم إلى مصائر مختلفة.
يبدأ الفيلم بفصل قوي الأثر. لقطة لكاميرا تهبط من علو قليل، ثم تتقدم تحت غصن شجرة في غابة وفي الواجهة مجموعة من الغجريين اجتمعوا ليلاً حول النار يعزفون ويغنون. ثلاثة فتيان ينطلقون في الغابة يجمعون الحطب. فجأة يظهر مسدس ألماني على صدغ أحدهم. طلقة نار. يهرع الصبيان الآخران هربًا تطاردهم رصاص أفراد الجيش (من دون أن نراهم). الجميع يهرب باستثناء رجل عجوز أعمى يعزف الغيتار ويغني. هذا يتلقى رصاصة في رأسه.
بذلك الفصل يدخل كومار منطقة الفيلم. لا نرى من مشاهد الفيلم اللاحقة ما له علاقة درامية أو قصصية مع مشهد التمهيد، لكن العلاقة تُـشاد تلقائيًا في البال. الفيلم سيحكي جزءًا من سيرة حياة دجانغو الغجري والفيلم - جزئيًا أيضًا - يدور حول ما لاقاه الغجر من الإضطهاد والعنف خلال الحقبة النازية.
نتعرف إلى دجانغو (قام بدوره رضا كاتب ابن الروائي الجزائري مالك كاتب الذي بدوره ظهر ممثلاً في نحو عشرين فيلما على الأقل، بينها الفيلم الأميركي «الاتصال الفرنسي 2» سنة 1975) وهو يصطاد السمك في نهر السين بينما ينتظره الجمهور الفرنسي في إحدى القاعات ليراه ويستمع إليه وهو يعزف. حين يدخل، وبعد التصفيق الحاد، يجلس دجانغو على المسرح ويبدأ بالعزف على الغيتار. إنها أصابع الممثل ذاته بلا شك، كما كانت أصابع الممثل رايان غوزلينغ على البيانو في «لا لا لاند»؛ ما يعني أن الممثل رضا وضع نفسه في تمرين قاس لأن عزف دجانغو، كما تعرف إليه هذا الناقد من خلال أفلام وثائقية قليلة، من الصعب مجاراته. ليست المهارة وسرعة حركة الأصابع إلا جانبا واحدًا من هذه الصعوبة.
* نهاية فاترة
الجانب الآخر لما يجعل المجاراة صعبة يعود إلى أن دجانغو كان يعزف بثمانية أصابع فقط؛ كون إصبعين له مكسورين في حادثة. لكن ها هو الممثل يجاري ويبرع لنحو خمس دقائق متوالية فيما تبدو رغبة المخرج لا تقديم الممثل والشخصية ومهارتهما فقط، بل الانتهاء من فعل التقديم للانصراف إلى الدراما ذاتها. ذلك المشهد، من ناحية أخرى، يغص ببعض الكليشيهات المستخدمة. هذا يهز رأسه طربًا، وآخر يضرب براحتي يده على ساقيه تأثرًا، والأعين مشدوهة ثم الوقوف والرقص على أنغام دجانغو الممتزجة بآلات فرقة الجاز التي وراءه.
بعد التقديم الشامل يفتح المخرج الطريق لسيرة حياة دجانغو. الألمان يطلبونه للعزف في برلين وهو لا يبدو ممانعًا على الرغم من عدم استلطافه الوجود العسكري الألماني في حفلته إلى أن تحذره عشيقته لويس (سيسيل دو فرانس)؛ مما ينتظره هناك: «ستدخل برلين ولن تخرج منها».
تطول الحكاية قليلاً هنا لتتسع لتقديم سلسلة من الأحداث تبعًا لمحاولة دجانغو تدبير وضعه وتجنيب والدته وزوجته أي أثر لرفضه قبول الدعوة. لاحقًا ما سيهرب إلى منطقة قريبة من الحدود السويسرية؛ على أمل أن يتم تدبير مسألة هربه إلى سويسرا. خلال الفترة يعود للعمل، إنما في حانة مع عازفين غجر. يضعه المخرج في الوسط لأن دجانغو لا يستطيع أن يلفت إليه الأنظار. لكن الألمان يكتشفون مكان وجوده، ومرة أخرى تتدخل لويس لإنقاذه.
بعض المراجع تقول إن دجانغو عندما وصل إلى الحدود السويسرية، بعد رحلة مشيًا على الأقدام فوق جبال الألب، ووجه برفض ضابط الحدود السماح له بالدخول. الفيلم لا يؤكد ولا ينفي، لكنه ينتقل إلى عام 1945 لنرى دجانغو هذه المرة يقود فرقة من العازفين والمنشدين في أغنية كنائسية.
المشهد هنا معتنى به كمعظم مشاهد الفيلم، لكنه نقلة غير مريحة بين موقعين زمانيين ومكانيين لا يفصح عن الكثير. كذلك، هي لا تشي بما يقع قبلها (التحوّل من الجاز إلى الموسيقى الكنائسية، ولو أن هناك مشهدًا سابقًا لها) ولا بعدها (ما آل إليه دجانغو وإذا ما ترك موسيقى الجاز للأبد). ربما هذا ما أدى إلى هذا الوجوم بين الكثير من المشاهدين في حفلة العرض الأولى في محاولتهم استيعاب المفاد النهائي في هذا العمل.
مباشرة بعد المشهد الأخير لدجانغو وهو يغمض عيناه ويرفع يداه في استجابة روحية للموسيقى التي يقودها، هناك صور على جدار لمئات، إن لم يكن لألوف الضحايا من الغجر. بذلك يعيدنا كومار إلى أحد أهداف الفيلم وهو الحديث عن هولوكوست غجري لم تكترث السينما عمومًا له. كما نعلم جميعًا، فإن معظم ما أنتج من أفلام حول الاضطهاد النازي للأقوام الآخرين انصب في حوض المعاناة اليهودية. هنا ذكر طفيف لليهود (مرة) وأعلى منه لكره النازية لموسيقى البلوز والجاز «الزنجيين»، وتصوير كامل لمعاناة دجانغو وأهله وأترابه من الغجر.
الفيلم بأجمله جيد. المخرج يحرص على لقطات ذات جماليات فنية ويعمل على أسلوب عمل تأملي معظم الوقت، لكنه يتحرك باتجاه وضع متناقض بين أن يسرد حكاية شخصية أو حكاية ذات اهتمامات سياسية. هذا الجمع ممكن، لكنه لا يحدث هنا على نحو سليم. ليست هناك من مشاهد يعمد فيها دجانغو لمناجاة نفسه أو سواه. وليست هناك من شعور بالمعاناة بادية على ملامح بطله إلا فيما يتوفر من مشاهد معينة. صحيح أن تمثيل رضا كاتب جيد، لكنه مهدور في معالجة غير محكّـمة في محصلتها الأخيرة.
* «برلين» يحتفي بالسينما والسينمائيين العرب
بعدما قام مهرجان برلين في العام الماضي باستقبال المخرج السعودي محمود صباغ وفيلمه «بركة يقابل بركة» في إطار عروض مظاهرة «بانوراما» المهمة، وفي إثر الاستقبال الجيد الذي حققه ذلك الفيلم حين عرضه، ها هو المهرجان نفسه في دورته الحالية (من التاسع وحتى التاسع عشر من الشهر الحالي) يستقبل المخرج السعودي في إطار لجنة تحكيم ستختار في نهاية المهرجان أفضل مخرج أول.
بدورها، تشترك المنتجة التونسية درّة بوشوشة في لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة التي يديرها المخرج الهولندي بول فرهوفن، التي تضم، أيضًا، الممثلة الأميركية ماجي جيلنهال، والمخرج المكسيكي دييغو لونا، والمخرج الصيني وانغ كوان آن، والممثلة الألمانية جوليا ينتش، والنحات الآيسلندي أولافور إلياسون.
وكان فيلم بوشوشة «نحبك هادي» فاز بجائزة العمل الأول في العام الماضي، كما فاز بطله ماجد مستورة بجائزة أفضل ممثل. لكن في حين أن السعودية ليس لديها فيلم مشارك في هذه الدورة (السابعة والستين)، فإن تونس تشترك في مظاهرة «ذا فورام» بفيلم جديد لشوشة وهو «أجساد غريبة».
واختيار عرب للجان التحكيم لا يتوقف عند هذا الحد. المخرج العراقي سمير (اسمه الكامل سمير جمال الدين) الذي قدّم قبل عامين فيلما تسجيليا طويلاً (جدًا، لكنه جيد جدًا كذلك) «أوديسا عراقية» في لجنة تحكيم الأفلام التسجيلية.
التواجد العربي خارج نطاق لجان التحكيم يتصدّره «مركز الفيلم العربي» الذي يزداد حضورًا في المهرجانات العالمية. مؤسسة تقوم على توفير منصّـة لخدمة السينمائيين العرب وأفلامهم وتدريب طواقم لمواهب جديدة واعدة. في سعي حثيث، وتحت إدارة السينمائي علاء كركوتي، باتت مركز اهتمام وتوجيه الكثير من الخامات وملتقى الجهود المبذولة من قِـبل صانعي السينما العربية في هذه الفترة المهمة من مراحل هذه السينما.
إلى جانب ما سبق هناك حضور قطري متمثل بفيلم قصير عنوانه «بيت السلحفاة» لروان نصيف ومن لبنان ثلاثة أفلام، بينها فيلم تجريبي بعنوان «زمن أصفر» لجون نامي وفيلمان تسجيليان، هما «شعور أكبر من الحب» لماري جرمانوس سابا و«الربيع ليس كل يوم» لحاج أفريان.
من فلسطين بضعة أفلام جديدة بينها الفيلم المؤلف من أرشيفيات ووثائقيات حول القضية الفلسطينية في السبعينات بعنوان «ثورة حتى النصر» لمهدي يعقوبي وفيلم «بوابة يافا» للفلسطيني خلدون بشارة و«عندما تحدث الأشياء» لعرابي طوقان، وكلها خارج المسابقة الرسمية.
جزائريًا، هناك فيلم تسجيلي طويل في البانوراما عنوانه «تحقيق في الجنة» لمرزاق علواش، وآخر قصير لفيلم لمخرجة أنغولية اسمها سارا مالدورو، حققته لحساب المؤسسة الجزائرية سنة 1969‪.‬
‪كل ما سبق هو وجهة ثابتة للاحتفاء بالسينما الآتية من الدول العربية، لرقي وارتفاع مستوى أداء هذه السينمات العربية. لكن المهرجان لم يتوقّـف عند هذا الحد: في الخامس عشر منه سيتم تقديم شهادة تقدير خاصة للناقد المصري سمير فريد، الذي تابع دورات المهرجان منذ مطلع أو منتصف السبعينات. هذه الرحلة الطويلة تستحق، بحد ذاتها، جائزة واحتفاء، لكن أن يكون المحتفى به ناقدا سينمائيا عربيا، فإن هذا استحقاق مضاعف بالتأكيد.‬



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)