«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

كيف سيرتسم مستقبل «الإصلاحيين» و«المعتدلين» في إيران؟

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني
TT

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

«سيناريوهات» ما بعد رفسنجاني

الرحيل المباغت لعلي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرجل الأكثر نفوذًا في عمر النظام الإيراني، تسبب بفجوة ثمة من يتوقع أن تترك أثرها على خريطة القوى في إيران، وإن تراجعت إلى الهامش بعد الصدمة الكبيرة التي هزت طهران إثر اندلاع الحريق في أهم معالمها التجارية قبل انهياره.
والحقيقة، أنه رغم الإشاعات التي دارت حول وفاة رفسنجاني والحديث عن لقاء دار بين المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس السابق محمود أحمدي نجاد طلب خلاله المرشد التريث حتى نهاية العام قبل أن يحل أحمدي نجاد محله في منصب رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام»، فأغلب الظن أن الرجل - الذي مات ميتة طبيعية - يخلّف وراءه ثغرة قد لا يسدّها شيء.
دور رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النـظام» في إيران دور استشاري مهم وحسّاس يتولى شاغله الفصل في خلافات تحدث عادة بين الحكومة والبرلمان، والنظر في السياسات العامة للنظام. وكان هذا المنصب واحدًا من عدد من المناصب الحكومية التي تقلدها علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرجل الذي يوصف بأنه «الأكثر براغماتية في جمهورية ولاية الفقيه». ويذكر أن هذا «المجلس» كان قد شُكّل بعد مقترح همس به رفسنجاني في أذن المرشد الأعلى الإيراني السابق آية الله الخميني. بل لم يكن لهذا «المجلس» أي دور يذكر عندما كان رفسنجاني رئيسًا للجمهورية.
ولكن، لاحقًا، مع وصول محمد خاتمي للرئاسة، ودخول إيران عصر ما سُمي «الإصلاح» لفترة ثماني سنوات، أخذ دور «مجلس تشخيص مصلحة النظام» يبرز أكثر من أي وقت مضى. إذ قوّض «المجلس» صلاحيات الحكومة والبرلمان المتناغم معها في الإصلاح آنذاك، وفرض سياسات أجبرت خاتمي ورجاله على العمل وفقها.
لم يكن ذلك، بالطبع، ممكنًا لولا مباركة المرشد الذي أخرج تيار رفسنجاني من قمقمه ليصبح «مجلس تشخيص مصلحة النظام» لُقمة يصعب ابتلاعها ولفظها في التركيبة التي ازدادت تعقيدًا مع دخول خامنئي إلى العقد الثاني من ولايته، وذلك حتى دخل رفسنجاني «سنوات النكبة» بعد صراع دار بينه وبين «المتشدّدين» الموالين للمرشد الأعلى الحالي علي خامنئي عقب وصول محمود أحمدي نجاد للرئاسة.

الخطوات المرتقبة
لقد رحل رفسنجاني قبل حلول الشهر الأخير من فترته الرئاسية الخامسة، ويتوقّع الآن أن يختار المرشد 45 عضوًا لـ«المجلس» خلال مارس (آذار) المقبل. ويُذكر أنه قبل رحيل رفسنجاني كانت ثمة شكوك تحوم حول نية خامنئي تجديد رئاسته، بيد أن التجربة أثبتت أن خامنئي لا يريد تغيير شخص عيّنه الخميني. ولكن، على أي حال، تطوي إيران صفحة رفسنجاني في وقت تثار فيه تساؤلات حول «السيناريوهات» المتوقعة لتياره ومكتبه ومناصبه.
فيما يتعلق بـ«مجلس تشخيص مصلحة النظام» تأكد أن اختيار خامنئي لخلافة رفسنجاني وقع على محمدعلي موحّدي كرماني (85 سنة)، زعيم التيار الأصولي ورئيس «رابطة العلماء المجاهدين» المتنفذة. وكان الرجل يمثل المرشد في الحرس الثوري بين عامي 1990 و2004، ووفق ما أعلنته وسائل الإعلام الإيرانية فإن موحّدي كرماني باشر مسؤولياته مؤقتًا ريثما يصار إلى انتخاب الأعضاء.
السيناريو الأول بالنسبة لهذا «المجلس» هو أن يجدد خامنئي رئاسة كرماني مع تجديد عضوية غالبية الأعضاء الحاليين، أما السيناريو الثاني فهو تقليص صلاحيات «المجلس» ليصبح مجلسًا استشاريًا للمتقاعدين السياسيين.
كثيرون من الخبراء المطلعين يرجحون السيناريو الثاني، من منطلق أن «المجلس» لن يستعيد الثقل السياسي الذي خسره برحيل هاشمي رفسنجاني، ولأن الفرصة باتت مؤاتية الآن للمرشد للحد من صلاحياته تجنبا لتكرار ظاهرة رفسنجاني.
وهناك مؤشر آخر لا يقل أهمية يتمثّل في رغبة كل من الحكومة والبرلمان بتقليص صلاحيات «المجلس» بسبب تقويض صلاحياتهما فيه بصيغته الحالية. وحقًا، لا يدافع عنه إلا قلائل على هامش اللعبة السياسية، والكل يطمعون في الجلوس على كراسيه. وعلى ضوء ما تقدم فإن تراجع صلاحياته أمر وارد.

مصير «الإصلاحيين» و«المعتدلين»
أما على صعيد قيادة معسكر «الإصلاحيين» و«المعتدلين» فإن الحديث يطول. وتكفي الإشارة إلى أن التساؤلات عن مستقبل التيار شغلت أنصار هذا المعسكر أو التيار الذين تسود في صفوفهم حالة من القلق والترقب.
لقد كان هاشمي رفسنجاني الشخصية التي تمحورت حولها أهم الشخصيات في التيار «الإصلاحي» - إلى جانب محمد خاتمي - بعد الانقسامات التي شهدها التيار في انتخابات الرئاسة 2005، وهي تلك الانقسامات التي سهّلت صعود «المتشدد» أحمدي نجاد، وكان تيار «المحافظين» و«المتشددين» حقًا أكبر المستفيدين من الفوضى بين «الإصلاحيين». بل إن حتى وجود أحمدي نجاد في منصب الرئاسة أخفق في الدفع للملمة شمل البيت «الإصلاحي»، فتكرّر التنافس في انتخابات عام2009، عندما انقسم «الإصلاحيون» بين مهدي كروبي وميرحسين موسوي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تفجر احتجاجات «الحركة الخضراء» (الإصلاحية) عشية إعلان فوز أحمدي نجاد ورفض «الإصلاحيين» نتائج الانتخابات، أدى إلى اختفاء كروبي وموسوي عن المشهد السياسي عقب إقرار «المجلس الأعلى للأمن القومي» فرض الإقامة الجبرية عليهما في مارس 2011 بالتزامن مع حملة القمع الواسعة التي استهدفت الاحتجاجات السلمية.
ومن ثم، بعد اعتقال عدد كبير من «الإصلاحيين» لم يبق خارج السجن من قادتهم سوى خاتمي (الذي أصبح بعد ذلك رمزا لـ«الإصلاحيين») حسن الخميني، حفيد الخميني الذي راهن «الإصلاحيون» على موروث جده في ردهات السلطة لكسب ود أنصاره.
أما السبب الآخر لتغير وضع معسكر «الإصلاحيين» فكان دخول هاشمي رفسنجاني على الخط. ذلك أنه على الرغم من الضربة التي تلقاها رفسنجاني من «الإصلاحيين» أيام خاتمي فإنه آثر الدخول على خطهم، لا سيما أن القادة «الإصلاحيين» الذين استهدفوه باتوا الآن خارج اللعبة. وبالفعل، حمل دخول رفسنجاني على الخط معطيات جديدة لـ«الإصلاحيين» وللمشهد السياسي الإيراني بشكل عام.

كيف جرى ذلك؟

جرى كما يلي:
1 - غياب الزعماء والقادة الميدانيين ترك الساحة مفتوحة أمام محمد خاتمي، الذي كان وزيرا من وزراء هاشمي رفسنجاني، وكانت حكومته امتدادًا في كثير من زواياها لحكومته (كان وزراء الداخلية والاقتصاد والنفط والثقافة والتعليم وغيرهم... من حكومة رفسنجاني). وكان خاتمي يحمل رؤية مفادها الاقتراب من رفسنجاني وتأسيس ما يُعرف بـ«الجبهة الوسطية». وهذا ما جعل الباب مفتوحًا أمام رفسنجاني ليدخل البيت، ولم يكن هو الرجل الذي يرفض الدخول.
2 - وصول منظّري «الإصلاحيين» إلى قناعة بأنهم يجب أن يحتموا بعباءة رفسنجاني. إذ بعد تلقيه ضربات لفترة طويلة وصل عقلاء «الإصلاحيين» إلى خلاصة مفادها أنهم عرّضوا أنفسهم لحرارة الشمس وقصوا أجنحتهم بأيديهم مقابل السلطة المطلقة التي يتمتع بها خامنئي. وبالتالي، عليهم تحكيم «العمود الآخر للسلطة»، أي رفسنجاني، كي يحميهم من سياط «المحافظين». بعبارة أخرى توصلوا إلى نتيجة مؤداها أن خروج رفسنجاني من السلطة سيؤدي حتمًا إلى إطلاق يد خامنئي ومن معه من «المتشددين»، في حين أن بقاء رفسنجاني قويًا سيعني الحد من هامش حرية هؤلاء. وبناء عليه، قرروا الاقتراب منه.
3 - الخط السياسي الذي أسسه وزراء هاشمي رفسنجاني وكبار مساعديه في حزب «عمال البناء» - الذي كان منعزلا عن «الإصلاحيين» - دخل على الخط من جديد. وكان هؤلاء قد دخلوا قبل ذلك - بإذن من رفسنجاني - على الخط في التنافس بين علي أكبر ناطق نوري ومحمد خاتمي عام 1997، إذ دعموا خاتمي وكان لهم أثر بالغ في فوزه. كما شكلوا العمود الفقري لحكومته قبل أن ينعزلوا عن «الإصلاحيين». لكنهم الآن عادوا بكامل قواهم إلى المعسكر «الإصلاحي».
4 - رفسنجاني نفسه أحس أنه لا بد له من الاقتراب من الخط «الإصلاحي». إذ في أعقاب صعود نجم محمود أحمدي نجاد عزم الأخير على ضرب «الإصلاحيين» وتصفية حساباته معهم. واللافت أن المرشد الأعلى اتخذ موقفًا داعمًا لأحمدي نجاد، ما أغضب رفسنجاني كثيرًا، فترك إمامة الجمعة في العاصمة طهران، وكتب رسالة من دون سلام إلى المرشد وانعزل عنه نهائيًا. وجاءت الضربة القاضية في رفض أهلية رفسنجاني من قبل مقربي المرشد إبان المعركة الرئاسية الماضية. كل ذلك جعل رفسنجاني يفكر جديًا في التقرب من «الإصلاحيين» لاستعادة بعض نفوذه المتراجع.
5 - نتيجة لكل ذلك، تشكل مشهد من خصوصياته تشكيل جبهة واسعة من «الإصلاحيين» و«المعتدلين» أخذت تتسع يومًا بعد يوم، و«تسرق» عددًا من الوجوه من معسكر «المحافظين» (مثل علي لاريجاني وعلي أكبر ناطق نوري وعلي مطهري وآخرين كثيرين على رأسهم الرئيس حسن روحاني نفسه) ونقلهم إلى جبهة تميل إلى الإصلاحات أكثر من ميلها إلى «المحافظين».
وكان من خصوصيات هذا المشهد الابتعاد عن الجموح «الإصلاحي» وتغليب الحكمة والتحكيم وسعة الصدر، وكذلك غلبة رفسنجاني على المشهد كرأس يتبعه خاتمي وحسن الخميني... وظهر أثر ذلك في ميل «الإصلاحيين» نحو التضحية بوجه بارز من وجوههم (محمد رضا عارف الذي كان مساعدا لخاتمي) من أجل رجل من رجال رفسنجاني (روحاني) خلال سباق الرئاسة 2013 من دون أن يحدث ذلك ضجيجا لدى الجبهة «الإصلاحية».
6 - ربما يعود الكثير مما تقدم ذكره إلى سجل رفسنجاني «البراغماتي» في بنية النظام، ولكن واقع الأمر أن من ينظر بعمق أبعد يجد أن «الإصلاحيين» كانوا سيظلون مختلفين لولا تدخل الرجل الذي تقدم بهم، بالفعل، خطوات إلى الأمام وأعاد تنظيمهم من جديد، أنه وضع حدودًا لطموحاتهم السياسية لكي يصطفوا كلهم في «جيش» روحاني.
لكن هذا «البراغماتي» الجامع الذي «لصق» شراذم «الإصلاحيين» قد رحل، ولذا لا بد من التساؤل عن شكل المشهد «الإصلاحي» - أو قُل «الوسطي» بتعبير أصح - بعده؟
ربما يمكن القول إن «الإصلاحيين» قد ينقلبون على أعقابهم، فمن جهة حزب «عمال البناء» المقرّب من رفسنجاني قد يفقد لحمته بـ«الإصلاحيين»، ويعود للابتعاد عنهم ليلتصق أكثر فأكثر بالرئيس روحاني. ومن جهة أخرى، قد يفقد روحاني يفقد أواصره بـ«الإصلاحيين»، خاصة في ظل ابتعاد خاتمي عنه. صحيح أن ذلك لا يتضح خلال الشهور القليلة المقبلة، لكن ثمة مؤشرات على أن هذا «الطلاق» يلوح في الأفق، ويرى كثيرون أنه أمر لا بد منه.
إن المتفحص المدّقق يجد خطين بين «الإصلاحيين» من قديم الزمان إلى يومنا هذا تعيد إنتاج ذاتها مع كل الظروف. هذان الخطان هما: خط «الإصلاحيين الصقور» الذين يؤكدون على الماهية المستقلة للإصلاحات وينادون بضرورة الإصرار على اكتفاء الإصلاحات بذاتها بجانب اكتفائها بالدعم الشعبي، وعدم الانفتاح على الآخر (هؤلاء هم الذين طرحوا شعار «تجاوز خاتمي» ومارسوا الضغط عليه من أجل أن يبتعد عن التيار «الوسطي»، ويعيد إنتاج الحكومة «الإصلاحية» الخالصة، ما أدى إلى إصلاح داخل حكومة خاتمي وخروج رجال رفسنجاني منها). وخط «الإصلاحيين الحمائم» الذين ينادون بالاندماج مع باقي التيارات الوسطية من أجل مواجهة الخط الآخر.
هذا الفريقان يعيدان إنتاج نفسيهما الآن، وبعدما كانت هيمنة رفسنجاني تلعب دورًا مؤثرًا في إضعاف «الصقور» وتقوية «الحمائم»، ما ساهم بوقوف التيار «الإصلاحي» وراء روحاني في الانتخابات الأخيرة على الرغم من وجود مرشح «إصلاحي» (هو عارف)، فإن الشرخ بينهما قد يتسع من جديد.

نقاط ضعف خاتمي

ويمكن هنا القول إن خاتمي قد لا يستطيع أن يلعب الدور نفسه في لملمة «الإصلاحيين» لعدة أسباب منها:
1 - أن خاتمي ليس مقبولاً من قبل كل تيارات النخب «الإصلاحية» على الرغم من شعبيته الواسعة. والكلام هنا ليس عن الشعب، بل عن النخب الناشطة. أثبتت التجربة أن خاتمي لا يستطيع توحيد الصف بمستوى قدرته على تجييش الشارع، ذلك أنه وظيفيًا عنصر شعبي وليس عنصرًا تنظيميًا، بعكس رفسنجاني. في حين أن ما يحتاجه «الإصلاحيون» في الفترة المقبلة هو العنصر التنظيمي أكثر من العنصر الشعبي.
2 - نتائج هذا الانقسام في الخط «الإصلاحي» ستنعكس على جبهة روحاني خلال الانتخابات. وأغلب الظن أن إجماعًا في الصف «الإصلاحي» مثل الذي حدث خلال الانتخابات الرئاسية الماضية أو ذلك الذي جربناه خلال انتخابات البرلمان قد لا نراه في الانتخابات المقبلة، وخلال العمل السياسي في الفترة الآتية. ومن أسباب ذلك الشرخ الذي تكلمنا عنه وكذلك غياب منافس شرس من «المتشددين» يستطيع تخويفهم، وبالتالي يفرض عليهم التكتل تحت راية واحدة. وللعلم، فإن روحاني هو الوحيد حتى الآن - على الأقل - في الصورة، لكن تكتل «الإصلاحيين» قد يدفعهم للابتعاد عنه وترشيح أحد «الصقور» بدلاً منه.
3 - على صعيد الزعامة سيعاني «الإصلاحيون» من مشاكل كثيرة. إذ إن رفسنجاني، استطاع خلال حياته السياسية أن يخلق زعامة على مستويين: المستوى الأول هو «المربّع» المكوّن من خاتمي وحسن الخميني ورفسنجاني وروحاني. أما المستوى الثاني فيضم العشرات من القادة المتوسطين مثل عارف وعلي لاريجاني وناطق نوري ومطهّري (صهر لاريجاني و«عرّاب الإصلاحيين» هذه الأيام في البرلمان) وشخصيات من العيار العالي نفسه، أو أقل منه، لا طريق لهم إلى «المربّع» الأول بسبب هيمنة رفسنجاني بالذات.
ولكن رحيل رفسنجاني سيجعل «المربّع» الأول عرضة للتفكك، كما يفتح الباب أمام المستوى الثاني ليطمح إلى الصعود إلى المستوى الأول. وما يزيد الوضع سوءًا هو عوز خاتمي لمزايا الزعامة وصفاتها، وقلة التجربة لدى حسن الخميني، وإحجام «الإصلاحيين» عن مبايعة روحاني، وشعور كل من ناطق نوري ولاريجاني أنهما بنفس مكانة الثلاثي الآنف الذكر (خاتمي والخميني وروحاني)، ما يقلل من نسبة وفائهم والتزامهم.
ومن ثم، فإن العنصر الذي قرّب عددًا كبيرًا من «المحافظين» سابقًا (على رأسهم روحاني وناطق نوري ولاريجاني) إلى التيار «الإصلاحي» ليخلق ما بات يعرف بالتيار «الاعتدالي» أو «المعتدل» قد مات. وهو ما يعني تفككًا محتملاً في النظام من شأنه إخراج الحالة من قطبية «الاعتدال» - «التشدد» إلى ثلاثية «الإصلاحيون» - «الوسطيون» - «المحافظون المتشددون».



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.