من التاريخ: تركيا... من الأممية إلى القومية

إيليفثيريوس فينيزيلوس
إيليفثيريوس فينيزيلوس
TT

من التاريخ: تركيا... من الأممية إلى القومية

إيليفثيريوس فينيزيلوس
إيليفثيريوس فينيزيلوس

أعلنت الجمهورية التركية عام 1923 على أنقاض الدولة العثمانية - كما تابعنا في الأسبوع الماضي - بعد صراع مرير مع المحتل البريطاني واليوناني والأرميني، تحت قيادة الزعيم التركي مصطفى كمال «أتاتورك». ولقد خاض «أتاتورك» حرب استقلال ضروسًا، ليس فقط لإجلاء القوات الأجنبية، بل لإعادة التفاوض أيضًا على «اتفاقية سيفر» التي وقعها السلطان العثماني مع الحلفاء بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى، والتي قلصت الدولة التركية الحديثة إلى دويلة في قلب الأناضول لحساب الدول التي حولها.
وبالفعل، حقق القائد التركي مراده من خلال «اتفاقية لوزان» التي أعادت الهيبة إلى الدولة التركية الوليدة، من خلال الاعتراف بشرعية حكومة أنقرة التي صنعها «أتاتورك»، وأعادت أيضًا كل أراضي الأناضول وأكثر إلى أحضان هذه الدولة، ومنحتها السيادة على مضيقي الدردنيل والبوسفور. وبذا، ولدت الدولة التركية الحديثة بأرواح شهدائها ودم أبنائها، وانتُخب «أتاتورك» زعيمًا للدولة التركية الحديثة، وغدا لزامًا عليه إعادة صياغة الدولة الجديدة، بل والأخطر من ذلك إعادة مفهوم القومية الذي بُنيت عليه هذه الدولة الوليدة.
واقع الأمر أن «أتاتورك» تبنّى مفهومين أساسيين مُنِحَ من خلالهما الشرعية الجديدة التي شيد عليها هذه الدولة، هما: القومية التركية، والعلمانية. هذان المفهومان مترابطان إلى حد كبير داخل وجدان الدولة التركية، على الأقل حتى يومنا هذا. ذلك أن فكرة «تركيا للأتراك»، التي هي أساس الفكر القومي الحديث، لم تكن مفاجئة بالنسبة لكثير من الساسة والمراقبين الدوليين لبزوغ الدولة التركية الحديثة. إذ قرّر الرجل تبني مفهوم القومية التركية المبنية على كتابات المفكر التركي ضياء غوكالب الذي سعى بشكل كبير لمحاولة الإشارة إلى روح القومية التركية المبنية على أساس اللغة التركية والعمق الثقافي - بل والإثني - التركي على أساس الدائرة القومية الأولى لها في هضبة الأناضول، وهي البؤرة الجغرافية التي ذابت فيها القبائل التركية والتركمانية وغيرها، لتلد الثقافة التركية مع مرور القرون، كما أنها المركز الجغرافي الذي يفصلها عن القوميات الأخرى، خاصة العربية والفارسية، ولكنها ترتبط بهما من خلال مفهوم الأممية العثمانية بحكم تمثيل السلطان العثماني للخلافة الإسلامية.
ولقد اعتنق «أتاتورك» أفكار غوكالب، وما طرحه من دوائر للقومية التركية، من مركزها في الأناضول إلى المناطق المجاورة الممتدة لتركيا حتى وسط آسيا، وهو ما يعكس إلى حد كبير الرؤية التركية التي ترى في بعض الجمهوريات ذات الأصول التركية صلة قومية وشبه لغوية، مثل أذربيجان وتركمانستان وغيرهما. وساعد «أتاتورك» بشكل كبير في مشروعه القومي هذا أن الأرضية الفكرية على المستوى الدولي كانت ممهِّدة لمثل هذه الأفكار، إذ اعتبر كثير من المؤرخين القرن التاسع عشر «قرن الدولة القومية» المبنية على أساسي اللغة والثقافة المشتركتين، وعضد من هذا التوجه الشرعية التي منحها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في «نقاطه الـ14» أمام «مؤتمر صلح فرساي»، بعد الحرب العالمية الأولى.
وهكذا، لحقت تركيا الحديثة بالركاب السياسي والفكري الأوروبي السائد في ذلك الوقت، ومن ثم لم يكن من الصعب تقبل هذه الفكرة من الأساس. غير أن مشكلة «أتاتورك» لم تكن محصورة في المعارضة الدولية، بل المشكلات الخاصة بالفكر الأممي المرتبط بشكل مباشر بالسلطان ومفهوم الخلافة الإسلامية، فعلى مدار أربعة قرون من الزمان ترسخ لدى المواطن الأناضولي البسيط أن السلطان، بما يمثله، يحمل في طياته البذور الدينية باعتباره استمرارًا للخلافة الإسلامية، وبذا يؤمّن للدولة بشكل مباشر الشرعية لحكم كثير من الأقطار الإسلامية والعربية على مدار قرون. هنا، اختلط الفكر السياسي بالديني، ومن ثم كانت فكرة القومية قليلة الجاذبية، بالإضافة إلى هوية دينية دفينة داخل وجدان المواطن الأناضولي.
هذا الأمر جعل «أتاتورك» يسعى بشكل عنيف لاقتلاع المفهوم الأممي الذي كانت الدولة مبنية عليه. ومن ثم، استعر صراعه مع السلطان إلى أن أعلن الجمهورية، وأعقبه بقرار إلغاء مؤسسة الخلافة الإسلامية من الأساس. هذه الخطوات، على صعوبتها، كانت أسهل بكثير على الزعيم التركي الطموح من إقناع المواطن التركي البسيط بفكرة «فصل الدين عن الدولة»، أو ما يعرف بـ«العلمانية»، أو ما يطلق عليه اليوم مجازًا دون خلفية أكاديمية حقيقية لفظ «المدنية».
وهنا، كان دور «أتاتورك» القوي في فصل البعد الديني ومؤسساته عن إدارة الدولة ومؤسساتها في أنقرة. وهذه كانت مشكلة كبيرة لم يتغلب عليها بمرور الوقت إلا بقوة العزيمة، و«الكاريزما» الشخصية، وتركته السياسية والعسكرية التي جعلته بطلاً قوميًا استجاب الكثيرون لرؤيته، فوضع الدولة التركية الحديثة على المسار السياسي العلماني. ومن الخطوات الراديكالية الصعبة التي اتخذها في سبيل تحقيق مشروعه تغيير شكل الهوية التركية، ومنحها طابعها المميز، بعيدًا عن الإرث التاريخي والديني. وفي هذا المجال، كان من أهم ما اتخذه من قرارات هو تغيير الأبجدية العربية، والاستعاضة عنها بالأبجدية اللاتينية، لفصل الدولة الوليدة عن إرثها الإسلامي، وتقريبها من الثقافة الغربية. ولقد أصر «أتاتورك» على إتمام هذه الخطوة خلال أشهر معدودات، على الرغم من معارضة كثيرين من مؤيديه لاعتقادهم بضرورة منح الشعب التركي وقتًا لهضم هذه الخطوة فكريًا، لكنه أصر على ذلك، وأعطى دروسًا بنفسه إلى العامة، ليكون مثالاً يحتذى به. كذلك، وعلى الفور، اتخذ قرارًا جديدًا يمنع ارتداء الجلباب، ويفرض على الشعب الزي الغربي وارتداء القبعة، وكان عنيفًا في تطبيق هذا القرار.
ولم يتوقف سعي «أتاتورك» لتغيير الهوية التركية عند هذا الحد، بل إنه تبنى القوانين السويسرية لإخراج الدولة التركية من تركة القوانين السلطانية - المتخلفة من وجهة نظره . وكان من ضمن ما فرضه منع تعدّد الزوجات، ومنح المرأة حقوق الرجل نفسها في الميراث، والحرية المطلقة في الزواج، وأيضًا منحها حق التصويت الحرّ أسوة بالرجل. وهكذا، لم يكن من المستغرب أن يكون في برلمان عام 1935 تمثيل للمرأة بلغ 17 امرأة، وبذا سبق بعض القوانين الوضعية الغربية التي لم تكن تسمح للمرأة بالتصويت من الأساس. ثم إنه سعى لتطوير المرأة فكريًا، ومنحها حقوق التعليم نفسها، إضافة إلى سعيه الدؤوب من أجل تغيير زي النساء ليتماشى مع الغرب، وتبنى بنات كثيرات، وسعى لجعلهن نموذجًا يحتذى به.
بطبيعة الحال، لم يكن «أتاتورك» ليفعل كل هذا من دون معارضة داخلية ارتأت إما رفض تغيير الهوية الأناضولية التركية، أو رفض الخطى السريعة التي أراد الرجل تطبيق هذه التغييرات من خلالها. إلا أن شخصيته الحازمة كانت أقوى من التأثير على مسارٍ رسمه، إذ أصر على مواقفه ورؤيته وخطاه. ولقد تطورت بعض المعارضة، فبلغت محاولة اغتياله في مناسبات عدة، كان أهمها عام 1926 في مدينة إزمير، ولكن المؤامرة فشلت، وألقي القبض على الجماعة المتهمة، وواجه «أتاتورك» الشخص الذي حاول قتله، وطلب منه أن يقتله، لكن الرجل انهار، وأعدم لاحقًا.
كثرة من المصادر التاريخية تؤكد أن تركيا دانت لـ«أتاتورك» بعد هذه المحاولة تمامًا، وما عاد باستطاعة أحد أن يوقف قطاره، خصوصًا أنه اتبع سياسات اقتصادية هادفة حسّنت بشكل كبير - وبزمن قصير - أوضاع المواطن. وهو ما أعطاه المزيد من الشرعية، وقوة الدفع لتنفيذ أهدافه، فوضعت تركيا على مسار التطوّر الاقتصادي المنشود، ولكن بطبيعة الحال ليس من دون مشكلات.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فاتبع «أتاتورك» سياسة خارجية متوازنة أدت إلى إطفاء كثير من التوترات التي كانت قائمة مع دول الجوار التي تعاني منها تركيا إلى يومنا هذا. وكان الرجل حكيمًا في هذه الخطوات، عندما ركّز على التطوير والتغيير الداخلي، وما كان ميالاً لأن يُستهلك أو تُستهلك الدولة في صراعات خارجية تؤثر على مشروعه القومي والتنموي. وفي هذا السياق، وقع على «ميثاق سعد آباد» الذي بمقتضاه طبع العلاقات مع إيران والعراق، بعد صراعات تاريخية مريرة، كما طبّع العلاقة مع اليونان - العدو التاريخي للدولة العثمانية - مما جعل رئيس وزرائها إيليفثيريوس فينيزيلوس يرشحه لجائزة نوبل للسلام، في تحرّك غير مسبوق، وأدت هذه السياسة إلى تجنيب تركيا خوض حروب خارجية لا فائدة منها.
هكذا، غيّر مصطفى كمال «أتاتورك» مسار الدولة العثمانية وتاريخها، وضمن ميلاد دولة تركية أساسها الفكر القومي التركي، وعقيدتها «العلمانية». ولقد ظل مؤمنًا بمشروعه القومي حتى أنه عندما طلق زوجته «لطيفة»، سأله أحد الصحافيين عن سبب عدم زواجه، فقال إنه قرّر الزواج من تركيا، كما أنه حافظ على قناعاته إلى أن مات في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1938، بعدما نجح إلى حد كبير في تطبيق رؤيته، وخلق الكيان التركي الذي نراه اليوم. وأيًا كانت الآراء، أو وجهات النظر، التي يتناول بها المؤرخون سيرة هذا الرجل، أو تجربته، فإن الثابت تاريخيًا أنه نجح في مشروعه السياسي والقومي، كما نجح في معاركه الحربية المهمة والمحورية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».