من التاريخ: تركيا... من الأممية إلى القومية

إيليفثيريوس فينيزيلوس
إيليفثيريوس فينيزيلوس
TT

من التاريخ: تركيا... من الأممية إلى القومية

إيليفثيريوس فينيزيلوس
إيليفثيريوس فينيزيلوس

أعلنت الجمهورية التركية عام 1923 على أنقاض الدولة العثمانية - كما تابعنا في الأسبوع الماضي - بعد صراع مرير مع المحتل البريطاني واليوناني والأرميني، تحت قيادة الزعيم التركي مصطفى كمال «أتاتورك». ولقد خاض «أتاتورك» حرب استقلال ضروسًا، ليس فقط لإجلاء القوات الأجنبية، بل لإعادة التفاوض أيضًا على «اتفاقية سيفر» التي وقعها السلطان العثماني مع الحلفاء بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى، والتي قلصت الدولة التركية الحديثة إلى دويلة في قلب الأناضول لحساب الدول التي حولها.
وبالفعل، حقق القائد التركي مراده من خلال «اتفاقية لوزان» التي أعادت الهيبة إلى الدولة التركية الوليدة، من خلال الاعتراف بشرعية حكومة أنقرة التي صنعها «أتاتورك»، وأعادت أيضًا كل أراضي الأناضول وأكثر إلى أحضان هذه الدولة، ومنحتها السيادة على مضيقي الدردنيل والبوسفور. وبذا، ولدت الدولة التركية الحديثة بأرواح شهدائها ودم أبنائها، وانتُخب «أتاتورك» زعيمًا للدولة التركية الحديثة، وغدا لزامًا عليه إعادة صياغة الدولة الجديدة، بل والأخطر من ذلك إعادة مفهوم القومية الذي بُنيت عليه هذه الدولة الوليدة.
واقع الأمر أن «أتاتورك» تبنّى مفهومين أساسيين مُنِحَ من خلالهما الشرعية الجديدة التي شيد عليها هذه الدولة، هما: القومية التركية، والعلمانية. هذان المفهومان مترابطان إلى حد كبير داخل وجدان الدولة التركية، على الأقل حتى يومنا هذا. ذلك أن فكرة «تركيا للأتراك»، التي هي أساس الفكر القومي الحديث، لم تكن مفاجئة بالنسبة لكثير من الساسة والمراقبين الدوليين لبزوغ الدولة التركية الحديثة. إذ قرّر الرجل تبني مفهوم القومية التركية المبنية على كتابات المفكر التركي ضياء غوكالب الذي سعى بشكل كبير لمحاولة الإشارة إلى روح القومية التركية المبنية على أساس اللغة التركية والعمق الثقافي - بل والإثني - التركي على أساس الدائرة القومية الأولى لها في هضبة الأناضول، وهي البؤرة الجغرافية التي ذابت فيها القبائل التركية والتركمانية وغيرها، لتلد الثقافة التركية مع مرور القرون، كما أنها المركز الجغرافي الذي يفصلها عن القوميات الأخرى، خاصة العربية والفارسية، ولكنها ترتبط بهما من خلال مفهوم الأممية العثمانية بحكم تمثيل السلطان العثماني للخلافة الإسلامية.
ولقد اعتنق «أتاتورك» أفكار غوكالب، وما طرحه من دوائر للقومية التركية، من مركزها في الأناضول إلى المناطق المجاورة الممتدة لتركيا حتى وسط آسيا، وهو ما يعكس إلى حد كبير الرؤية التركية التي ترى في بعض الجمهوريات ذات الأصول التركية صلة قومية وشبه لغوية، مثل أذربيجان وتركمانستان وغيرهما. وساعد «أتاتورك» بشكل كبير في مشروعه القومي هذا أن الأرضية الفكرية على المستوى الدولي كانت ممهِّدة لمثل هذه الأفكار، إذ اعتبر كثير من المؤرخين القرن التاسع عشر «قرن الدولة القومية» المبنية على أساسي اللغة والثقافة المشتركتين، وعضد من هذا التوجه الشرعية التي منحها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في «نقاطه الـ14» أمام «مؤتمر صلح فرساي»، بعد الحرب العالمية الأولى.
وهكذا، لحقت تركيا الحديثة بالركاب السياسي والفكري الأوروبي السائد في ذلك الوقت، ومن ثم لم يكن من الصعب تقبل هذه الفكرة من الأساس. غير أن مشكلة «أتاتورك» لم تكن محصورة في المعارضة الدولية، بل المشكلات الخاصة بالفكر الأممي المرتبط بشكل مباشر بالسلطان ومفهوم الخلافة الإسلامية، فعلى مدار أربعة قرون من الزمان ترسخ لدى المواطن الأناضولي البسيط أن السلطان، بما يمثله، يحمل في طياته البذور الدينية باعتباره استمرارًا للخلافة الإسلامية، وبذا يؤمّن للدولة بشكل مباشر الشرعية لحكم كثير من الأقطار الإسلامية والعربية على مدار قرون. هنا، اختلط الفكر السياسي بالديني، ومن ثم كانت فكرة القومية قليلة الجاذبية، بالإضافة إلى هوية دينية دفينة داخل وجدان المواطن الأناضولي.
هذا الأمر جعل «أتاتورك» يسعى بشكل عنيف لاقتلاع المفهوم الأممي الذي كانت الدولة مبنية عليه. ومن ثم، استعر صراعه مع السلطان إلى أن أعلن الجمهورية، وأعقبه بقرار إلغاء مؤسسة الخلافة الإسلامية من الأساس. هذه الخطوات، على صعوبتها، كانت أسهل بكثير على الزعيم التركي الطموح من إقناع المواطن التركي البسيط بفكرة «فصل الدين عن الدولة»، أو ما يعرف بـ«العلمانية»، أو ما يطلق عليه اليوم مجازًا دون خلفية أكاديمية حقيقية لفظ «المدنية».
وهنا، كان دور «أتاتورك» القوي في فصل البعد الديني ومؤسساته عن إدارة الدولة ومؤسساتها في أنقرة. وهذه كانت مشكلة كبيرة لم يتغلب عليها بمرور الوقت إلا بقوة العزيمة، و«الكاريزما» الشخصية، وتركته السياسية والعسكرية التي جعلته بطلاً قوميًا استجاب الكثيرون لرؤيته، فوضع الدولة التركية الحديثة على المسار السياسي العلماني. ومن الخطوات الراديكالية الصعبة التي اتخذها في سبيل تحقيق مشروعه تغيير شكل الهوية التركية، ومنحها طابعها المميز، بعيدًا عن الإرث التاريخي والديني. وفي هذا المجال، كان من أهم ما اتخذه من قرارات هو تغيير الأبجدية العربية، والاستعاضة عنها بالأبجدية اللاتينية، لفصل الدولة الوليدة عن إرثها الإسلامي، وتقريبها من الثقافة الغربية. ولقد أصر «أتاتورك» على إتمام هذه الخطوة خلال أشهر معدودات، على الرغم من معارضة كثيرين من مؤيديه لاعتقادهم بضرورة منح الشعب التركي وقتًا لهضم هذه الخطوة فكريًا، لكنه أصر على ذلك، وأعطى دروسًا بنفسه إلى العامة، ليكون مثالاً يحتذى به. كذلك، وعلى الفور، اتخذ قرارًا جديدًا يمنع ارتداء الجلباب، ويفرض على الشعب الزي الغربي وارتداء القبعة، وكان عنيفًا في تطبيق هذا القرار.
ولم يتوقف سعي «أتاتورك» لتغيير الهوية التركية عند هذا الحد، بل إنه تبنى القوانين السويسرية لإخراج الدولة التركية من تركة القوانين السلطانية - المتخلفة من وجهة نظره . وكان من ضمن ما فرضه منع تعدّد الزوجات، ومنح المرأة حقوق الرجل نفسها في الميراث، والحرية المطلقة في الزواج، وأيضًا منحها حق التصويت الحرّ أسوة بالرجل. وهكذا، لم يكن من المستغرب أن يكون في برلمان عام 1935 تمثيل للمرأة بلغ 17 امرأة، وبذا سبق بعض القوانين الوضعية الغربية التي لم تكن تسمح للمرأة بالتصويت من الأساس. ثم إنه سعى لتطوير المرأة فكريًا، ومنحها حقوق التعليم نفسها، إضافة إلى سعيه الدؤوب من أجل تغيير زي النساء ليتماشى مع الغرب، وتبنى بنات كثيرات، وسعى لجعلهن نموذجًا يحتذى به.
بطبيعة الحال، لم يكن «أتاتورك» ليفعل كل هذا من دون معارضة داخلية ارتأت إما رفض تغيير الهوية الأناضولية التركية، أو رفض الخطى السريعة التي أراد الرجل تطبيق هذه التغييرات من خلالها. إلا أن شخصيته الحازمة كانت أقوى من التأثير على مسارٍ رسمه، إذ أصر على مواقفه ورؤيته وخطاه. ولقد تطورت بعض المعارضة، فبلغت محاولة اغتياله في مناسبات عدة، كان أهمها عام 1926 في مدينة إزمير، ولكن المؤامرة فشلت، وألقي القبض على الجماعة المتهمة، وواجه «أتاتورك» الشخص الذي حاول قتله، وطلب منه أن يقتله، لكن الرجل انهار، وأعدم لاحقًا.
كثرة من المصادر التاريخية تؤكد أن تركيا دانت لـ«أتاتورك» بعد هذه المحاولة تمامًا، وما عاد باستطاعة أحد أن يوقف قطاره، خصوصًا أنه اتبع سياسات اقتصادية هادفة حسّنت بشكل كبير - وبزمن قصير - أوضاع المواطن. وهو ما أعطاه المزيد من الشرعية، وقوة الدفع لتنفيذ أهدافه، فوضعت تركيا على مسار التطوّر الاقتصادي المنشود، ولكن بطبيعة الحال ليس من دون مشكلات.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فاتبع «أتاتورك» سياسة خارجية متوازنة أدت إلى إطفاء كثير من التوترات التي كانت قائمة مع دول الجوار التي تعاني منها تركيا إلى يومنا هذا. وكان الرجل حكيمًا في هذه الخطوات، عندما ركّز على التطوير والتغيير الداخلي، وما كان ميالاً لأن يُستهلك أو تُستهلك الدولة في صراعات خارجية تؤثر على مشروعه القومي والتنموي. وفي هذا السياق، وقع على «ميثاق سعد آباد» الذي بمقتضاه طبع العلاقات مع إيران والعراق، بعد صراعات تاريخية مريرة، كما طبّع العلاقة مع اليونان - العدو التاريخي للدولة العثمانية - مما جعل رئيس وزرائها إيليفثيريوس فينيزيلوس يرشحه لجائزة نوبل للسلام، في تحرّك غير مسبوق، وأدت هذه السياسة إلى تجنيب تركيا خوض حروب خارجية لا فائدة منها.
هكذا، غيّر مصطفى كمال «أتاتورك» مسار الدولة العثمانية وتاريخها، وضمن ميلاد دولة تركية أساسها الفكر القومي التركي، وعقيدتها «العلمانية». ولقد ظل مؤمنًا بمشروعه القومي حتى أنه عندما طلق زوجته «لطيفة»، سأله أحد الصحافيين عن سبب عدم زواجه، فقال إنه قرّر الزواج من تركيا، كما أنه حافظ على قناعاته إلى أن مات في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1938، بعدما نجح إلى حد كبير في تطبيق رؤيته، وخلق الكيان التركي الذي نراه اليوم. وأيًا كانت الآراء، أو وجهات النظر، التي يتناول بها المؤرخون سيرة هذا الرجل، أو تجربته، فإن الثابت تاريخيًا أنه نجح في مشروعه السياسي والقومي، كما نجح في معاركه الحربية المهمة والمحورية.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.