من التاريخ: تركيا... من الأممية إلى القومية

إيليفثيريوس فينيزيلوس
إيليفثيريوس فينيزيلوس
TT

من التاريخ: تركيا... من الأممية إلى القومية

إيليفثيريوس فينيزيلوس
إيليفثيريوس فينيزيلوس

أعلنت الجمهورية التركية عام 1923 على أنقاض الدولة العثمانية - كما تابعنا في الأسبوع الماضي - بعد صراع مرير مع المحتل البريطاني واليوناني والأرميني، تحت قيادة الزعيم التركي مصطفى كمال «أتاتورك». ولقد خاض «أتاتورك» حرب استقلال ضروسًا، ليس فقط لإجلاء القوات الأجنبية، بل لإعادة التفاوض أيضًا على «اتفاقية سيفر» التي وقعها السلطان العثماني مع الحلفاء بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى، والتي قلصت الدولة التركية الحديثة إلى دويلة في قلب الأناضول لحساب الدول التي حولها.
وبالفعل، حقق القائد التركي مراده من خلال «اتفاقية لوزان» التي أعادت الهيبة إلى الدولة التركية الوليدة، من خلال الاعتراف بشرعية حكومة أنقرة التي صنعها «أتاتورك»، وأعادت أيضًا كل أراضي الأناضول وأكثر إلى أحضان هذه الدولة، ومنحتها السيادة على مضيقي الدردنيل والبوسفور. وبذا، ولدت الدولة التركية الحديثة بأرواح شهدائها ودم أبنائها، وانتُخب «أتاتورك» زعيمًا للدولة التركية الحديثة، وغدا لزامًا عليه إعادة صياغة الدولة الجديدة، بل والأخطر من ذلك إعادة مفهوم القومية الذي بُنيت عليه هذه الدولة الوليدة.
واقع الأمر أن «أتاتورك» تبنّى مفهومين أساسيين مُنِحَ من خلالهما الشرعية الجديدة التي شيد عليها هذه الدولة، هما: القومية التركية، والعلمانية. هذان المفهومان مترابطان إلى حد كبير داخل وجدان الدولة التركية، على الأقل حتى يومنا هذا. ذلك أن فكرة «تركيا للأتراك»، التي هي أساس الفكر القومي الحديث، لم تكن مفاجئة بالنسبة لكثير من الساسة والمراقبين الدوليين لبزوغ الدولة التركية الحديثة. إذ قرّر الرجل تبني مفهوم القومية التركية المبنية على كتابات المفكر التركي ضياء غوكالب الذي سعى بشكل كبير لمحاولة الإشارة إلى روح القومية التركية المبنية على أساس اللغة التركية والعمق الثقافي - بل والإثني - التركي على أساس الدائرة القومية الأولى لها في هضبة الأناضول، وهي البؤرة الجغرافية التي ذابت فيها القبائل التركية والتركمانية وغيرها، لتلد الثقافة التركية مع مرور القرون، كما أنها المركز الجغرافي الذي يفصلها عن القوميات الأخرى، خاصة العربية والفارسية، ولكنها ترتبط بهما من خلال مفهوم الأممية العثمانية بحكم تمثيل السلطان العثماني للخلافة الإسلامية.
ولقد اعتنق «أتاتورك» أفكار غوكالب، وما طرحه من دوائر للقومية التركية، من مركزها في الأناضول إلى المناطق المجاورة الممتدة لتركيا حتى وسط آسيا، وهو ما يعكس إلى حد كبير الرؤية التركية التي ترى في بعض الجمهوريات ذات الأصول التركية صلة قومية وشبه لغوية، مثل أذربيجان وتركمانستان وغيرهما. وساعد «أتاتورك» بشكل كبير في مشروعه القومي هذا أن الأرضية الفكرية على المستوى الدولي كانت ممهِّدة لمثل هذه الأفكار، إذ اعتبر كثير من المؤرخين القرن التاسع عشر «قرن الدولة القومية» المبنية على أساسي اللغة والثقافة المشتركتين، وعضد من هذا التوجه الشرعية التي منحها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في «نقاطه الـ14» أمام «مؤتمر صلح فرساي»، بعد الحرب العالمية الأولى.
وهكذا، لحقت تركيا الحديثة بالركاب السياسي والفكري الأوروبي السائد في ذلك الوقت، ومن ثم لم يكن من الصعب تقبل هذه الفكرة من الأساس. غير أن مشكلة «أتاتورك» لم تكن محصورة في المعارضة الدولية، بل المشكلات الخاصة بالفكر الأممي المرتبط بشكل مباشر بالسلطان ومفهوم الخلافة الإسلامية، فعلى مدار أربعة قرون من الزمان ترسخ لدى المواطن الأناضولي البسيط أن السلطان، بما يمثله، يحمل في طياته البذور الدينية باعتباره استمرارًا للخلافة الإسلامية، وبذا يؤمّن للدولة بشكل مباشر الشرعية لحكم كثير من الأقطار الإسلامية والعربية على مدار قرون. هنا، اختلط الفكر السياسي بالديني، ومن ثم كانت فكرة القومية قليلة الجاذبية، بالإضافة إلى هوية دينية دفينة داخل وجدان المواطن الأناضولي.
هذا الأمر جعل «أتاتورك» يسعى بشكل عنيف لاقتلاع المفهوم الأممي الذي كانت الدولة مبنية عليه. ومن ثم، استعر صراعه مع السلطان إلى أن أعلن الجمهورية، وأعقبه بقرار إلغاء مؤسسة الخلافة الإسلامية من الأساس. هذه الخطوات، على صعوبتها، كانت أسهل بكثير على الزعيم التركي الطموح من إقناع المواطن التركي البسيط بفكرة «فصل الدين عن الدولة»، أو ما يعرف بـ«العلمانية»، أو ما يطلق عليه اليوم مجازًا دون خلفية أكاديمية حقيقية لفظ «المدنية».
وهنا، كان دور «أتاتورك» القوي في فصل البعد الديني ومؤسساته عن إدارة الدولة ومؤسساتها في أنقرة. وهذه كانت مشكلة كبيرة لم يتغلب عليها بمرور الوقت إلا بقوة العزيمة، و«الكاريزما» الشخصية، وتركته السياسية والعسكرية التي جعلته بطلاً قوميًا استجاب الكثيرون لرؤيته، فوضع الدولة التركية الحديثة على المسار السياسي العلماني. ومن الخطوات الراديكالية الصعبة التي اتخذها في سبيل تحقيق مشروعه تغيير شكل الهوية التركية، ومنحها طابعها المميز، بعيدًا عن الإرث التاريخي والديني. وفي هذا المجال، كان من أهم ما اتخذه من قرارات هو تغيير الأبجدية العربية، والاستعاضة عنها بالأبجدية اللاتينية، لفصل الدولة الوليدة عن إرثها الإسلامي، وتقريبها من الثقافة الغربية. ولقد أصر «أتاتورك» على إتمام هذه الخطوة خلال أشهر معدودات، على الرغم من معارضة كثيرين من مؤيديه لاعتقادهم بضرورة منح الشعب التركي وقتًا لهضم هذه الخطوة فكريًا، لكنه أصر على ذلك، وأعطى دروسًا بنفسه إلى العامة، ليكون مثالاً يحتذى به. كذلك، وعلى الفور، اتخذ قرارًا جديدًا يمنع ارتداء الجلباب، ويفرض على الشعب الزي الغربي وارتداء القبعة، وكان عنيفًا في تطبيق هذا القرار.
ولم يتوقف سعي «أتاتورك» لتغيير الهوية التركية عند هذا الحد، بل إنه تبنى القوانين السويسرية لإخراج الدولة التركية من تركة القوانين السلطانية - المتخلفة من وجهة نظره . وكان من ضمن ما فرضه منع تعدّد الزوجات، ومنح المرأة حقوق الرجل نفسها في الميراث، والحرية المطلقة في الزواج، وأيضًا منحها حق التصويت الحرّ أسوة بالرجل. وهكذا، لم يكن من المستغرب أن يكون في برلمان عام 1935 تمثيل للمرأة بلغ 17 امرأة، وبذا سبق بعض القوانين الوضعية الغربية التي لم تكن تسمح للمرأة بالتصويت من الأساس. ثم إنه سعى لتطوير المرأة فكريًا، ومنحها حقوق التعليم نفسها، إضافة إلى سعيه الدؤوب من أجل تغيير زي النساء ليتماشى مع الغرب، وتبنى بنات كثيرات، وسعى لجعلهن نموذجًا يحتذى به.
بطبيعة الحال، لم يكن «أتاتورك» ليفعل كل هذا من دون معارضة داخلية ارتأت إما رفض تغيير الهوية الأناضولية التركية، أو رفض الخطى السريعة التي أراد الرجل تطبيق هذه التغييرات من خلالها. إلا أن شخصيته الحازمة كانت أقوى من التأثير على مسارٍ رسمه، إذ أصر على مواقفه ورؤيته وخطاه. ولقد تطورت بعض المعارضة، فبلغت محاولة اغتياله في مناسبات عدة، كان أهمها عام 1926 في مدينة إزمير، ولكن المؤامرة فشلت، وألقي القبض على الجماعة المتهمة، وواجه «أتاتورك» الشخص الذي حاول قتله، وطلب منه أن يقتله، لكن الرجل انهار، وأعدم لاحقًا.
كثرة من المصادر التاريخية تؤكد أن تركيا دانت لـ«أتاتورك» بعد هذه المحاولة تمامًا، وما عاد باستطاعة أحد أن يوقف قطاره، خصوصًا أنه اتبع سياسات اقتصادية هادفة حسّنت بشكل كبير - وبزمن قصير - أوضاع المواطن. وهو ما أعطاه المزيد من الشرعية، وقوة الدفع لتنفيذ أهدافه، فوضعت تركيا على مسار التطوّر الاقتصادي المنشود، ولكن بطبيعة الحال ليس من دون مشكلات.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فاتبع «أتاتورك» سياسة خارجية متوازنة أدت إلى إطفاء كثير من التوترات التي كانت قائمة مع دول الجوار التي تعاني منها تركيا إلى يومنا هذا. وكان الرجل حكيمًا في هذه الخطوات، عندما ركّز على التطوير والتغيير الداخلي، وما كان ميالاً لأن يُستهلك أو تُستهلك الدولة في صراعات خارجية تؤثر على مشروعه القومي والتنموي. وفي هذا السياق، وقع على «ميثاق سعد آباد» الذي بمقتضاه طبع العلاقات مع إيران والعراق، بعد صراعات تاريخية مريرة، كما طبّع العلاقة مع اليونان - العدو التاريخي للدولة العثمانية - مما جعل رئيس وزرائها إيليفثيريوس فينيزيلوس يرشحه لجائزة نوبل للسلام، في تحرّك غير مسبوق، وأدت هذه السياسة إلى تجنيب تركيا خوض حروب خارجية لا فائدة منها.
هكذا، غيّر مصطفى كمال «أتاتورك» مسار الدولة العثمانية وتاريخها، وضمن ميلاد دولة تركية أساسها الفكر القومي التركي، وعقيدتها «العلمانية». ولقد ظل مؤمنًا بمشروعه القومي حتى أنه عندما طلق زوجته «لطيفة»، سأله أحد الصحافيين عن سبب عدم زواجه، فقال إنه قرّر الزواج من تركيا، كما أنه حافظ على قناعاته إلى أن مات في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1938، بعدما نجح إلى حد كبير في تطبيق رؤيته، وخلق الكيان التركي الذي نراه اليوم. وأيًا كانت الآراء، أو وجهات النظر، التي يتناول بها المؤرخون سيرة هذا الرجل، أو تجربته، فإن الثابت تاريخيًا أنه نجح في مشروعه السياسي والقومي، كما نجح في معاركه الحربية المهمة والمحورية.



تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)
TT

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)

سينغمان ري (الصورة الرئاسية الرسمية)

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

وفي سلسلة من التاريخ المظلم لقادة البلاد، عزل البرلمان الرئيسة بارك غيون - هاي، التي كانت أول امرأة تتولى منصب الرئاسة الكورية الجنوبية، ثم سُجنت في وقت لاحق من عام 2016. ولقد واجهت بارك، التي هي ابنة الديكتاتور السابق بارك تشونغ - هي، اتهامات بقبول أو طلب عشرات الملايين من الدولارات من مجموعات اقتصادية وصناعية كبرى.

وفي الحالات الأخرى، انتحر روه مو - هيون، الذي تولى الرئاسة في الفترة من 2003 إلى 2008، بصورة مأساوية في مايو (أيار) 2009 عندما قفز من منحدر صخري بينما كان قيد التحقيق بتهمة تلقي رشوة، بلغت في مجموعها 6 ملايين دولار، ذهبت إلى زوجته وأقاربه.

وعلى نحو مماثل، حُكم على الرئيس السابق لي ميونغ - باك بالسجن 15 سنة في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 بتهمة الفساد. ومع ذلك، اختُصرت فترة سجنه عندما تلقى عفواً من الرئيس الحالي يون سوك - يول في ديسمبر (كانون الأول) عام 2022.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أدين تشون دو - هوان، الرجل العسكري القوي والسيئ السمعة، الملقّب بـ«جزار غوانغجو»، وتلميذه الرئيس نوه تاي - وو، بتهمة الخيانة لدوريهما في انقلاب عام 1979، وحُكم عليهما بالسجن لأكثر من 20 سنة، ومع ذلك، صدر عفو عنهما في وقت لاحق.

بارك غيون- هاي (رويترز)

الأحكام العرفية

باعتبار اقتصاد كوريا الجنوبية، رابع أكبر اقتصاد في آسيا، وكون البلاد «البلد الجار» المتاخم لكوريا الشمالية المسلحة نووياً، تأثرت كوريا الجنوبية بفترات تاريخية من الحكم العسكري والاضطرابات السياسية، مع انتقال الدولة إلى نظام ديمقراطي حقيقي عام 1987.

والواقع، رغم وجود المؤسسات الديمقراطية، استمرت التوترات السياسية في البلاد، بدءاً من تأسيسها بعد نيل الاستقلال عن الاستعمار الياباني عام 1948. كذلك منذ تأسيسها، شهدت كوريا الجنوبية العديد من الصدامات السياسية - الأمنية التي أُعلن خلالها فرض الأحكام العرفية، بما في ذلك حلقة محورية عام 1980 خلّفت عشرات القتلى.

وهنا يشرح الصحافي الهندي شيخار غوبتا، رئيس تحرير صحيفة «ذا برنت»، مواجهات البلاد مع الانقلابات العسكرية وملاحقات الرؤساء، بالقول: «إجمالاً، أعلنت الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية 16 مرة على الأقل. وكان أول مرسوم بالأحكام العرفية قد أصدره عام 1948 الرئيس (آنذاك) سينغمان ري، إثر مواجهة القوات الحكومية تمرداً عسكرياً بقيادة الشيوعيين. ثم فرض ري، الذي تولى الرئاسة لمدة 12 سنة، الأحكام العرفية مرة أخرى في عام 1952».

مع ذلك، كان تشون دو - هوان آخر «ديكتاتور» حكم كوريا الجنوبية. وتشون عسكري برتبة جنرال قفز إلى السلطة في انقلاب إثر اغتيال الرئيس بارك تشونغ - هي عام 1979، وكان بارك جنرالاً سابقاً أعلن أيضاً الأحكام العرفية أثناء وجوده في السلطة لقمع المعارضة حتى لا تنتقل البلاد رسمياً إلى الديمقراطية. نيودلهي: «الشرق الأوسط»